أوراق مشاکسة نسخه متنی
لطفا منتظر باشید ...
وختاماً نحن نعتقد أن قرن أسلوب البدوي إلى أسلوب المتنبي يتضمن نوعاً من العسف النقدي الذي صار غلطاً شائعاً. فالأسلوبان مختلفان جداً وإن جمعتهما قوة المفردة، وسعة قاموس الألفاظ الشعري، وعلو النبرة أو الجزالة والمتانة الأسلوبية.(الشيخ الأكبر) ناقداًفي (مشاهد الأسرار القدسية) قال الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي:(أشهدني الحق بمشهد نور الشعور، وطلوع نجم التنزيه وقال لي: خفيت في البيان، والشعور لأهل الستور. ثم قال لي: النظم محصور. وهو موضع الرمز ومحل اللغز للأشياء. ولو علموا أن في شدة الوضوح لغز الأشياء ورمزها لسلكوه. أنزلت الآيات النيرات دلائل لمعان لا تفهم أبداً)وإذا تأملنا هذه العبارات في أحد مستويات دلالاتها، وأقصد المستوى الدلالي الإبلاغي الذي يهدف إليه إنشاء النص -والنص معبر عنه هنا بوجهين: بشري وهو (النظم)، وإلهي وهو (الآيات)- متجاوزين بذلك استهدافات الصوفية عموماً، والشيخ الأكبر و "الكبريت الأحمر/ كما كان ابن عربي يلقب نفسه" خصوصاً: من محاولات كشف وتوحد وحلول عبر الوجد وبقية الأحوال المصوغة كلها في (نصوص) أيضاً، فإننا سنجد ابن عربي هنا ناقداً فذاً ومتجاوزاً: لا لعصره الذي يعبر بلغته ومنطقه من موقع (العارف.. المكاشف) باعتباره (خاتم الأولياء) كما قال عن نفسه، بل أيضاً لعصرنا الذي تطورت مناهج النقد فيه من النقد البلاغي والتاريخي الوصفي إلى الشكلانية فالألسنية فالبنيوية والسيمولوجية والسيميوطيقية والنفسية والتوليدية والتفكيكية، وما بعد التفكيكية.. في تواتر مضطرب لا نعلم أين سيصل بهذا النقد بعد التكاملية التي جاءت كرد على ذلك الاضطراب، وكحل للمتناقضات بين المناهج.ولنلاحظ العبارة الأولى: (أشهدني الحق بمشهد نور الشعور) إنها تحتوي المفتاح الجوهري والكلي لعملية التلقي الناتج عن الإبلاغ في النص، وهو ما تدلنا عليه العبارة الأخيرة في المقبوس السابق. والإشهاد هو إبلاغ كلي بدئي يقوم به مبلغ هو (الحق). وكثيراً ما تسميه طوائف المتصوفة: المعنى القديم الأزل، الذي هو غاية لا تدرك، وهذه الغاية هي الحقيقة الكلية المنزهة فوق (وحدة الوجود)- أساس فلسفة ابن عربي- والتي يسعى المتلقي (ياء المتكلم في أشهدني) لمقاربة ما تفيض به من معنى تمنح به بعض الدلالة عليها عبر طبيعة (الموجود) المعاين، حيث هذا (الموجود) يتشكل ترميزياً (كنص/ مشهد) لا ينفتح إلا (بنور الشعور) الإنساني الذي عاين صاحبه.. فاعتبر وأدرك، ثم حدس فقارب.. وهو هنا متنور بنوم نجم التنزيه: تنزيه الحقيقة المطلقة المتعالية عن أن تدرك بذاتها وفي ذاتها كما هي، بل إن أقصى ما يمكن أن يكون من إدراك لها إنما هو حدس بواسطة البيان (اللغة/ النص) حيث الشعور يقر بسترها كماهية ويعترف بإمكانية مقاربة تجليها بالدلالة الكامنة في البناء الرمزي الذي يحمل (لغز الأشياء).