دائماً يطاردني هذا السؤال:-إذا كان توجُّهُ نمطٍ حضاريٍّ ما مضاداً، بمعطياته وقيمه وآلياته، لمصالح عموم البشرية ولارتقائها المتوازن مادياً وروحياً، وبالتالي لنجوع بقائها أساسياً، فإلى أي مدى يمكن لهذا النمط أن يستمر، مهما تكن عناصر القوة التي يمتلكها صانعوه وقادته المستفيدون منه؟!ويتفرع عن هذا السؤال سؤال آخر أكثر تدقيقاً هو:-هل التقدم التقني المرتبط بإنتاج الأدوات والسلع والآلات ومختلف الأشياء التي تعطي الوجود الإنساني مظهراً خارجياً بالغ الثراء والغنى، وحقائق داخلية روحية بالغة الفقر، وسيكولوجية بالغة التصدع إلى حد تبديد الشخصية، وقيمية بالغة السطحية والاهتزاز والابتذال، مع ما لا يحصى أو يحصر من المخاوف الفردية والجمعية.. الصغيرة منها والكبيرة، إضافة إلى حقائق شاذة أو بالأحرى مفزعة الشذوذ في التركيب الاجتماعي الإنساني الذي يبيح لبضعة ملايين من البشر المتمولين والمتحكمين أن يسيطروا على مصائر عدة مليارات سيطرة استعبادية تدميرية وشمولية.. هل هذا التقدم هو التقدم الإنساني الفعلي أم أنه النسخة الزائفة لما يجب أن يكون، أو لما كان ينبغي أن يكون؟!وحين يتمعن المرء في التفصيلات المضمرة التي لا يتسع المقام لذكرها في سياق هذا السؤال، مع إجراء مطابقة مع المعطيات القائمة في الوضع البشري الراهن أفلا يجد نفسه مدفوعاً للتساؤل من جديد عما إذا كان للتاريخ قوانين تحكم مسيرته فعلاً، أم أن حركته هي مجرد تخبط عشوائي يتخذ شكل الصراعات الدموية الدائمة بين القوى الغاشمة المتسلطة على الوجود البشري وبين بقية البشر الذين هم موضوع ذلك التسلط؟!ولما كان (الظاهر التاريخي) يغري كثيراً بتبني مسألة (التخبط العشوائي) في حركة التطور العام للوجود البشري فإن تعميم اليأس الإنساني -أو عموميته- من جدوى هذا الوجود ومعناه يصبح أشد فظاعة وفظاعة وإرهاقاً، ويغري حتى نخبة (النخب المفكرة) في العالم بالإنجرار وراء القوى الغاشمة بحثاً عن مصالح شخصية آنية وعرضية، فيتم تغييب الحقائق الجوهرية القائمة على وجود قوانين تحكم حركة التاريخ، حقيقة لا ادعاءً نظرياً أو أيديولوجياً، وبقدر ما يتم تعميق هذا التغييب وإبعاد المغيَّب عن أذهان المسَيْطَر عليهم تستمر سيطرة القوى الغاشمة مندفعة نحو اتخاذ أشد أبعادها شراسة وشيطانية.ولكن القوانين المذكورة لا تشتغل بذاتها كمجردات، وبالتالي هي ليست أدوات لما يسمى (الحتمية التاريخية) بل هي تتمظهر في (الفعل البشري) العام كصراع للإرادات المتناقضة، حيث إن كل لحظة تاريخية ماهي إلا محصلة لصراع مالا يُحصى من الإرادات -على حد تعبير أنجلز الذي ما عاد أحد يذكره! -وحيث إن (الإرادة)، أي نسق الفعل الخاص بمجموعة أو جملة مجموعات بشرية، تكون مؤثرة بقدر ما تكون واعية لذاتها ولنقيضها في آن معاً، وبقدر ما تمتلك أيضاً من عناصر القوة الرادعة أو الفاعلة في السياق الديالكتيكي للصراع الذي لا يمكنه التوقف.وهنا نجد أن (العشوائية) سابقة الذكر ليست إلا مظهر انتصار إرادة (القوى الغاشمة) في عملية صراعها ضد القوى المناقضة لها داخل ذلك السياق الديالكتيكي ذاته. لكن التيئيس واليأس يسبغان صفة العشوائية تلك على حركة التاريخ باعتبار أولهما فعلاً تمارسه القوى المنتصرة، وثانيهما رد فعل يتقبله عقل القوى المهزومة كتعبير عن الاعتراف بالعجز في حضيض الهزيمة.على أن السؤال في صيغته التي بدأنا بها، أو في صيغته التفريعية اللاحقة، يظل قائماً. أما الرد فإنه ببساطة: لا يمكن للنمط الحضاري المضاد المذكور في الصيغة الأولى أن يستمر… وليس التقدم التقني القائم على تدمير الطبيعة من جهة وروح الإنسان من جهة أخرى هو التقدم الحقيقي، وإنما هو الصورة الزائفة لمعنى التقدم.