ثمة إذاً (عولمة) وحسب، مطروحة (كبرنامج عمل) غائي لحلف من القوى الكبرى، هو كما نرى (الحلف الأميريكي الصهيوني)، والصهيونية منظور إليها هنا (كقوة كبرى) بحكم امتلاك اتباعها لنسبة ضخمة من رساميل العالم، وبحكم تغلغل تلك الرساميل في نسيج البنيان الرأسمالي الغربي- الأميركي خصوصاً- ومقدرتها بالتالي على التأثير في حركته بقوة وفي صياغة برامجه المرحلية وتحديد غاياته النهائية.وإذا كان يجب ألا يفوتنا أمر أن (الدرس الحضاري) للرأسمالية الغربية منذ نشوئها تحرك- بكل مستجراته- على أرضية ثقافية معرفية فلسفية خاصة لخصتها عبارة (المركزية الأوروبية) التي تمحورت على ادعاء (معجزتين كبريين) في التاريخ هما: المعجزة الإغريقية في الفلسفة والعلوم والتجارة وتنضاف إليها عبقرية الرومان العسكرية… والمعجزة التوراتية الدينية ومستجراتها.. فإنه يجب ألا يفوتنا أيضاً ما استجد، في العقد الأخير من القرن العشرين، من إضافات فكرية وتغيرات معرفية وفلسفية قد لا تكون إلى تجديداً متصاعداً لما كان قبلاً، أو لما ظل يُموَّه على أنه ثانوي ثم ها هو ذا يوضع صراحة في رأس قائمة الأولويات بالنسبة للتوجهات العولمية وأصحابها، وأعني بهذا- وبشكل خاص جداً- أطروحات صموئيل هينتنغتون عن (وجوب!!) أن يقوم الغرب (الانغليكاني/ الكاثوليكي) بتصفية الحضارتين الإسلامية والكونفوشية (أي الصينية) أولاً، لأنهما تمتلكان سمات وقيماً متشابهة خطرة، ثم تصفية المسيحية الأرثوذكسية الشرقية فالهندوسية والبوذية، كيما يحرز هذا الغرب انتصاره العالمي النهائي الكامل الشامل!… وهذا تلخيص مبسط جداً ومكثف جداً لنظريته عن (صراع الحضارات) التي جعلها حضارات دينية يشكل بقاؤها خطراً على (الانغليكان أساساً) واليهود ضمناً- وهو بالمناسبة لم يذكرهم بشيء في أطروحة الصراع تلك، كأنهما هم فوق الصراع، أو لعل الصراع يجب أن يدور فعلياً من أجل سيادتهم عالمياً في نهاية المطاف- ونحن هنا كأنما نرى روح (الصليبية) في العصور الوسطى مجددة وفق المستجدات الإجمالية في تطور الوضع البشري الراهن!وتبدو العولمة- على أي حال- آخر النتاجات المحتملة، والتي يجري الإعداد لتحققها عبر صراع غير متكافئ بين القوى العالمية المختلفة، لمسيرة الفلسفة الليبرالية الغربية بمختلف تياراتها خلال بضعة قرون… وخصوصاً تيارات الفلسفة البراغماتية الأميركية المطعمة بقوة على "هراءات" الصهيونية التلمودية، وقد أوضح الدكتور عبد الوهاب المسيري تلك الأسس الفلسفية الليبرالية للعولمة في مقال قيم له بمجلة القاهرة عدد آب 1997، إن لم تخني الذاكرة، مثلما أوضح أهدافها التي تبدو لنا تلمودية (بشكل صافٍ!!) كلياً، إذ تنحصر تلك الأهداف- بعد تدمير الهويات الحضارية المتنوعة للبشرية، وسحق هوياتها القومية، وإهدار سيادات دول العالم وشعوبه على أراضيها إهداراً شاملاً- بتسطيح شخصية الكائن البشري التي ستصبح شخصية بلا ذاكرة تاريخية/ حضارية خاصة، أي بلا ثقافة متمايزة، وتصير أهداف الكائن منحصرة في عملية الإنتاج من أجل الاستهلاك وإشباع اللذات الغريزية البهيمية لديه مع تعزيز مستمر ومتصاعد لتلك اللذات، كيما يتم تطويع البشرية لخدمة طغمة مالية قليلة العدد بشكل مثير للرعب، وقاسية الإدارة للمصائر الإنسانية عبر اللعب الوحشي بالاقتصاد العالمي- مع ما يترتب على ذلك اللعب من تدمير فضاءات القيم الأخلاقية والثقافية والجمالية والرؤيوية التي تمنح المعنى للوجود البشري على الأرض- إلى درجة كارثية.ويدين المثقفون الأوروبيون- الفرنسيون والألمان- هذه التوجهات العولمية، وأساليب العمل على تحقيق العولمة، إدانة صريحة وقطعية، ويشاركهم كثير من أبرز السياسيين في عملية الإدانة هذه، مثلما فعل الرئيس الفرنسي جاك شيراك صراحة قبل نحو من سنتين. ودائماً تخْلُصُ الإدانة إلى قضية (وجوب الحفاظ على التنوع الثقافي الإنساني) بعد استعراض العمليات الأخرى التي تهدف إلى تحطيم كل وعي معارض أو مناقض لدى أفراد وجماعات النوع الإنساني لتلك العولمة المطلوبة من قبل الحلف (الأنغليكاني/ الصهيوني) والذي يبدو-حتى تاريخه- بقيادة أميركا رغم اتفاق أهداف العولمة مع الأطروحات التلمودية الأساسية.