أوراق مشاکسة نسخه متنی
لطفا منتظر باشید ...
هـ ـ المعجزة تأخذ أمداءها مبتدئة بتواضع طريف من صاحبها ما يلبث هو نفسه أن ينقضه. أما التواضع فنجده في مستهل المقطع الرابع: (لست جلجامش ولا يوليس. لا ذاهب ولا عائد، ومن أين لي أن أكون نبياً؟) أما النقض فيلي ذلك مباشرة: (أنا الصخرة وعليها يبني المنفى) وهذه العبارة المتناصة مع قول المسيح لبطرس: (على هذه الصخرة أبني كنيستي) بما لهذا التناص من دلالة لا جدال عليها، تجعلنا نبحث في طبيعة الجمل الأولى ومحمولها من التواضع: أهو حقيقي، أم يستهدف إثارة المتلقي؟! أهو خوف من حمل (عبء المعجزة) أم هو تباهٍ معكوس بها على طريقة العرب في (إنشاء مدح بصيغة الذّمّ)؟!…إن تفصيلات صوغ (المعجزة) أو سيرة صيرورتها على يديه عبر تناقضات مختلفة هدفها صوغ خراب العالم من أجل تعالي (الذات) إلى وحدانيتها، لا تفسر فقط حقيقة كون ذلك التواضع تباهياً وإثارة، بل هي سيرورة تحقق هدفها من دون أي اتكاء أو حتى مجرد إقامة صله مهما كانت أولية وبسيطة مع الخراب الفعلي في حركة الواقعي. إن الخراب الذي تصوغه هو (خراب لفظي) وذو طبيعة ارتكاسية مترابطة كلياً مع قيد (الإبعاد الإيديولوجي) القديم ومستجراته. ومن دون أخذ ذلك بالحسبان التام، فإننا لن نفهم عبارات من نوع: (أوه، متى يشفى ذلك المريض الذي يسمى الوطن؟!).. أو (هاهو التاريخ، حاضر يدب في أكياس من الورق، في عربات تجرها عظام الموت) أو (مرة نمت بين كاحليّ، سرت في الفتر الذي خصني به الحظ) أو (حقاً، الوطن الأم أول المنفى، حقاً لابدَّ من إيمان سمح واسع للتصديق أن للشعر مكاناً آخر غير المنفى). وإذا كان (هم) قد مهدوا بالدم والحبر المتماهيين لابتداء (معجزة الأنا) ونكش النقائض بسيرورتها الوهمية نحو الاكتمال، فإن نقل الأنا إلى (الهو) خطة لابد منها لتحقيق ذلك الاكتمال حيث يمكنها بعد ذلك أن تعود إلى طبيعتها، ولكن في أفق الوحدانية والتعالي بعد الخلاص من أوهام القيود شبه الأرضية! إذا كانت (الأنا) في فاعليتها الدائبة للخلاص من الارتكاسات الأيديولوجية القديمة عليها قد تمطت بمعجزتها تلك من المقطع الثالث حتى نهاية السابع، فإن تحولها إلى (الهو) ـ وهذا هو كان دائماً إشارة إلى الألوهة! ـ يستغرق المقطع الثامن المقسم لفظياً إلى أربع فقرات تبدأ كل منها بكلمة "البشارة": (جاء)… وهل ثمة مسيح بلا بشارة أي إنجيل؟!أما المقطع التاسع فهو أشبه بتوكيد على ملخص التناقضات التي كانت مفرودة في مقاطع سابقة (وهاهي الحقيقة تواصل سيرها على عكازين: واحد يبدأ برأس له مقبض السيف. وواحد ينتهي بطرف له (شكل العنق) فما الذي يبقى إذاً سوى الذات في هجرتها الحتمية نحو ذاتها وتعاليها؟!إن المقطع العاشر يحقق ذلك (ـ يهاجر، ـ لا ينتمي إلى بلدان، بل إلى تخوم، والهجرة راية العصر ـ يتشرد ، ـ تلك هي صداقة النور، وخير لخطواته أن تمتطي الريح، وأن تشك في كل عتبة)..ومع هذا الانتماء، ومع صداقة النور تلك، مع الشكوك في كل شيء، ما عدا (الأنا) يبدأ كمال المعجزة بعد إعلان كمال الخراب في مستهل المقطع الحادي عشر:(لست جلقامش ولا يوليس، لا من الشرق، حيث الزمن منجم من الغبار. لا من الغرب، حيث الزمن حديد صدئ… هكذا أسكن مترحلاً ناحتاً جغرافيتي بإزميل التيه) ولكن يجب ألا تغرر بنا كلمة التيه هذه، فحوار الليل، والأرض، والصاعقة تشرح المخبوء فيها بلا مواربة:(الليل: برق ـ أنسجة الزمن تلتهب والحقيقة إضمار) ـ وهنا إعدام الزمن وباطنية الحقيقة! ـ وبهذا تنزاح نهائياً دلالة كلمة الأرض والصاعقة كما يأتي: (الأرض: احلم بي وقل. أينما ارتحلت سأرى قصيدة تحتضنني. احلم بي حقاً وقل آنذاك. في كل قصيدة سأرى بيتاً لي.الصاعقة: ـ الآن، أفتح لك، ادخل، ادخل/….آه أيها الانفجار الخطر الناعم، أيها الشعر) وبوضوح نرى إلغاء الأرض (احلم بي) وإرساء ملكوت الأنا متعالية ووحدانية في الشعر الذي يمكن وصفه بارتياح إنه (إضمار الحقيقة)…