ثلاثة روافد للفلسفة السياسية
وفي
الحديث عن الفلسفة السياسية في فكر الامام الخميني(قدس سره) تلتقي ثلاثة
روافد مهمة ، لابدّ للباحث من أخذها بعين الاعتبار إذا ما أراد أن يستتم
صورة متكاملة ومتجانسة عن منهج الامام الخميني في الشأن السياسي
التغييري ، فالامام كانت تستجذب شخصيته ثلاثة عوامل استطاع الامام(رضي
الله عنه) أن يجمعها في شخصيته وفكره ووجوده ، وبالتالي في تجربته
السياسية المنجزة ، وهذه الروافد أو العوامل هي:
1 ـ
العرفان .
2 ـ
الفلسفة .
3 ـ
السياسة .
وعلى
هذا الأساس تمكّن الامام من أن يتوفّر على رؤية عرفانية روحية ، وعلى
رؤية فلسفية عقلية ، وعلى رؤية سياسية تغييرية; وهذه الأبعاد الثلاثة
التي توفرت عليها شخصية الامام الراحل تتجلى في المجال العرفاني الذي انطوت
عليه شخصية الامام الراحل ، والذي برز في طريقة تفكيره ونظرته لمختلف
قضايا الحياة . وفي المجال الفلسفي الذي أظهر الامام براعة ودقة في
التعامل معه والتعرّف على دقائق مباحثه العقلية والنظرية ، وفي المجال
السياسي الحركي الذي أفصح الامام عن قدرة خاصة على الخوض فيه واستيعاب
متطلبات التحرك في أجوائه 5
وبالقدر
الذي تلاحمت فيه هذه الأبعاد الثلاثة والتصقت بشخصية الامام الراحل(رحمه
الله) ، فإنّ من العسير ، إنْ لم يكن من المستحيل ، التعرّف
على شخصية الامام الخميني ووعي منهجه في التغيير الاجتماعي والديني الذي
تمثله في فلسفته السياسية العملية ، من دون الإحاطة بهذه الأبعاد
الثلاثة من شخصيته; ومن هنا نرى ـ كما يقول باحث جاد ـ أنّ خطأً يمكن أن
يتعرّض له أي باحث يستهدف دراسة فكر وتجربة الامام الخميني في المجال السياسي
بعيداً عن التعرّف التام وبشكل مسبق على رؤيته العرفانية ورؤيته
الفلسفية .
ومهما
يكن من أمر ، فإنّ المجال السياسي ، الذي تحرّك الامام الخميني في
أجوائه ، لم يكن ينطلق فيه بلا استناد الى رؤية واضحة لمتطلبات التغيير
الاجتماعي ، بل على العكس من ذلك ، فإنّ الممارسة السياسية التي
تمثلها الامام الراحل تفصح ، بما لا يقبل الشك ، عن أسس
متينة ، ومبادئ انسانية وإسلامية شاملة ومستوعبة ، كانت تنطلق منها
هذه الممارسة ، بمختلف صورها ومراحلها6 .
وتأسيساً على ذلك; قد يكون الحديث عن الخط الفكري السياسي للامام
الخميني ، بصورة شاملة ، متعسّراً أو متعذراً ، في مقال
محدود; لأنّ المجالات التي تحدّث عنها ، أو خاض فيها ، أو حارب من
أجلها ليست محصورة في حدود معينة ، أو دوائر ضيّقة ، بل كانت تتسع
للعالم كلّه ، في دائرة الاسلام كلّه ، لأنه كان ينطلق في عمق
فلسفته العرفانية إلى الله في أوسع الآفاق ، حتى كان يتجاوز الشكليات
التقليدية في حركة هذا الخط ، وكان يتحرّك في وعيه الاسلامي للمسألة
الانسانية في واقع الاستضعاف والاستكبار، فيما هي آلام المستضعفين في
حركة امتيازات المستكبرين ، فكان يتألّم للانسان أيّاً كان
انتماؤه ، ويفكر أنّ الآلام الانسانية لا تمثّل في إيحاءاتها الشعورية
مجرّد مشاعر حزينة ، أو أصوات صارخة ، بل لابدّ لها من أن تتمثل في
حركة فاعلة من أجل إزالة هذه الآلام، وكان يرى أنّ مسألة
الاسلام في وعي المؤمنين به ، على مستوى القيادة أو القاعدة ، هي
مسألة الدعوة المتحركة في كلّ صعيد; لتملأ فراغ الفكر الانساني بالفكر
الإسلامي ، وتشحن روحيّة العاطفة الانسانية بالعمق الروحي للعاطفة في
الاسلام ، وتحرّك الواقع الانساني بالتشريعات الحركية للانسان في
الحياة ، ممّا يجعل مسألة الدعوة تنفتح على السياسة كما تنفتح على
الفكر ، كما يدفع مسألة المعاني الروحية نحو القيم الانسانية في
الحياة .
وهذه هي
الميزة البارزة في شخصيته ، التي استطاعت أن تجعل ملامحها الداخلية
والخارجية وحدة في الفكر والسلوك ، على أساس وحدة الخط الاسلامي ،
الذي لا يبتعد فيه العرفان عن الشريعة ، بل ينفذ إليها ليزيدها عمقاً في
الحركة ، ولا تتجمّد الشريعة لديه في نطاق فردي ، بل تنطلق لتشمل
الحياة كلّها بأبعادها العامة والخاصة في جميع المجالات .
وفي ضوء
ذلك; لم يكن العرفان لديه استغراقاً في الله بحيث ينسى الحياة التي تضجّ حوله
بكلّ آلام المستضعفين ومشاكلهم ، وينعزل عن ذلك
كلّه . . . كما يفعله الكثيرون من العرفانيين الذين استغرقوا
في الجانب الفلسفي للعرفان فعاشوا في خيالاته التي تصوروها حقائق ،
وابتعدوا عن واقعهم . . فتحولوا الى كائنات إنسانيّة قد تستوحي
منها بعض القداسات الروحية ، لكنك لن تستوحي منها حركة الحياة في روحية
المسؤولية الحركية .