التأكيد على الجانب السياسي والاجتماعي
هذا هو
الامام الخميني(رحمه الله) في كلّ المواقف والمنعطفات . رؤية ثاقبة
واعية لا تحيد عن الاسلام. ولهذا فهو ـ انطلاقاً من فهمه الواعي الصحيح
للاسلام ـ لا ينظر الى الأحكام نظرة تجزيئية بل ينظر إليها باعتبارها
كلاّ واحداً لا ينفصل بعضها عن بعض . الأحكام العبادية والسياسية
والاقتصادية والاجتماعية والتربوية تقوم على قاعدة واحدة ، وترتبط مع
بعضها بأواصر وثيقة لتشكّل أساس كيان المسلمين وحركتهم
المتسامية .
يقول الامام الراحل(قدس سره): «كثير من
الأحكام العبادية تصدر عن معطيات اجتماعية وسياسية ، فعبادات الاسلام
عادة توأم سياساته وتدابيره الاجتماعية . صلاة الجمعة مثلا واجتماع الحج
والجمعة تؤدي ـ بالاضافة الى ما لها من آثار خلقية وعاطفية ـ الى نتائج وآثار
سياسية . استحدث الاسلام هذه الاجتماعات وندب الناس إليها ،
وألزمهم ببعضها حتى تعم المعرفة الدينية وتعم العواطف الأخوية ،
والتعرّف بين الناس ، وتنضج الأفكار وتنمو وتتلاقح ، وتُبحث
المشاكل السياسية والاجتماعية وحلولها» 23 .
وفي ندائه الى حجاج بيت الله الحرام عام 1399هـ . قال(رحمه الله): «الاسلام دين عبادته سياسة ، وسياسته
عبادة . والآن اذ يجتمع المسلمون من شتى بقاع الأرض حول كعبة الآمال لحج
بيت الله ، وللقيام بالفرائض الالهية ، وعقد هذا المؤتمر الاسلامي
الكبير ، في هذه الأيام المباركة ، وفي هذه البقعة
المباركة . . يتوجّب على المسلمين الذين يحملون رسالة الله تعالى
أن يستوعبوا المحتوى السياسي والاجتماعي للحج اضافة الى محتواه
العبادي» .
وفي الوقت الذي يبثّ فيه الامام الوعي في أوساط الأمة ، مؤكداً أنّ الحج
فرصة من فرص العودة الى الذات . . . نراه يثير انتباه جموع
الحجيج الى طريق الخلاص ، وما يكتنف العالم الاسلامي من تحديات:
«إنكم تعرفون أن القوى الكبرى تنهب ثرواتنا
المعنوية والمادية ، وتتركنا في فقر ، تحت سيطرتهم الاقتصادية
والسياسية والثقافية ، ولا يمكن التخلّص من هذا الوضع إلاّ بالعودة الى
شخصيتنا الاسلامية ، ورفض الظلم والطغيان من أي مصدر كان ، وفضح
القراصنة الدوليين وعلى رأسهم أمريكا» 24 .
وبهذا
الهدف الشمولي الانساني أعاد الامام بعث المشروع الحضاري الاسلامي ، فمن
لوازم عقيدة التوحيد إيمان كلّ مسلم «بأنّ
الدين الاسلامي سيسود العالم . . وسيمحو آثار الكفر والاستكبار عن
وجه الأرض» . إلاّ أنّ هذا الهدف الاستراتيجي غير
متحقق إلاّ انطلاقاً من تحقيق هدف مركزي دينامي يتمثل في قيام حكومة اسلامية
تمهيدية ، حيث يمكن للمسلمين أن يقيموها ، وحيث تتوفر المناخات
والظروف الآيلة إليها ، فكان أول العقد في ايران ، إذ اندلعت
الثورة الاسلامية فيها على يدي الامام الخميني نفسه بعد نضوج مقدماتها
التكاملية وجهاد استمرّ متواصلا جاداً على مدى ما يناهز الربع قرن من
الزمن . لكن هذه الثورة لم تكن إلاّ الخطوة الأولى في المشروع
الكبير ، بما هي ثورة من أجل العالم الاسلامي ، ومن أجل المستضعفين
في العالم في الوقت نفسه .
يقول الامام: «إنّ هذه الثورة قد قامت
بالدرجة الأولى من أجل العالم الاسلامي ، وبالدرجة الثانية من أجل
المحرومين والمستضعفين الذين يسعون من أجل تحريرهم . . وبهذا
المعنى فإنّ الثورة الاسلامية الايرانية ليست فريدة ومقتصرة على نفسها ،
بل هي بداية ثورات تماثلها في الهوية والميزات» 25 .
وهذا
يعني ـ فيما يعني ـ أنّ ايران للاسلام وفي خدمة الاسلام ، وليس
العكس ، أي أن ايران ليست للايرانيين ، كما يحلو للبعض رفع هذا
الشعار ، بل إنّ الثورة الاسلامية قامت من أجل المحرومين
والمستضعفين ، فهي ـ حسب الرؤية الخمينية ـ ملاذ لهؤلاء وداعم
لهم ، فكيف بالمسلمين الذين هم أولى من غيرهم بهذا
الحق . .؟!
كان
لابدّ للثورة/النموذج من أن تنبعث من مكان جغرافي ، شاء الله أن يكون
ايران (بعدما نضجت فيها مقومات الانتفاض وأسبابه) ، لكنها انطلاقة الى
كلّ الأمكنة والى كلّ الشعوب بهدف وحدوي توحيدي هو : «تثبيت واستقرار القيم الاسلامية وحدها»
. ولم يفارق خطاب الامام التبليغي هذه المعادلة قط .
فلحظ وحدة المشروع مرتبط عنده دائماً بلحظ وحدة العالم والانسان ،
والمسلمون والمستضعفون في الأرض هم المكلفون ، وهم المعنيون بالتحرك
والسعي لإنقاذ حكم الله ونظامه ، وما المشروع الالهي إلاّ لاستنهاضهم
وتحريرهم من كلّ العبوديات ، فهو الهادي المؤدي الى الحق
والعدالة ، والقسط وخير الانسانية وهم المهتدون ، ودور المبلغين
والقادة هو إنجاز الارتباط المعرفيبين مشروع الهداية والمهتدين
العتيدين26 .