يرى منظرو الرأسمالية الجدد ومسؤولو الصناديق الدولية أن الخوصصة هي واحدة من عدة سبل تحث البلدان على اتباعها لتقليص حجم الفساد الناجم فيها وذلك طبقاً لوصفات المؤسسات الرأسمالية الدولية (كالبنك الدولي مثلاً)، إلا أننا في مبحثنا هذا سنخالف ما أوردته الوصفات المذكورة لتوضيح كيف أن الخوصصة تساعد في أحيان كثيرة الفساد أو تخلق البيئة المناسبة لنمو أو استشراء الفساد. ففي عالم اليوم نجد أن الوصفات التي أشرنا إليها خصوصاً الوصفة المعروفة للبنك الدولي لهيكلة أو تثبيت الاقتصادات والسيطرة على التضخم واستئصال الفساد تؤكد على السير باتجاه (الخوصصة) وتقليص القطاع العام. وهي سياسة اقتصادية تنبه العالم لانتهاجها (برغم وجودها المسبق) منذ انتهاج المملكة المتحدة لها عام 1983 لتشمل نطاقاً واسعاً من القطاعات الاقتصادية العامة فيها، إلا أنه مع مرور الزمن أصبحت تلك السياسة الاقتصادية أسلوباً تستخدمه الكثير من دول العالم على أمل الإصلاح الاقتصادي مسترشدة بنصائح البنك الدولي وصندوق النقد الدولي للتغلب على مشكلات ديونها وتشوه اقتصاداتها . وإخفاقاتها في ممارسة الوظيفة (الاقتصادية -الاجتماعية) من خلال الوظيفة التدخلية ، التي سرعان ما تحولت بعد سياسات التأميم وتملك الأصول في فترات الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم إلى مزرعة لطبقة أو شبه طبقة متحلقة حول تشكيلات السلطة وأجهزة العنف. مما أدت أدوات التأثير التي اعتمدتها الدول في قطاعها العام (من تخطيط وتوجيه وإشراف إداري) إلى سوء تخصيص الموارد بما يعنيه في اقتصاد العقلانية والرشد وارتفاع مستوى الفاقد في الصناعات والهدر فكان ذلك علامة مركبة على إخفاق الدولة في ممارسة وظيفتها الاقتصادية -الاجتماعية . كذلك حالات الفساد (في عالم الجنوب) التي شهدها القطاع العام أثقلت ذلك القطاع بديون إلى البنوك وأدى إلى انهيار الكثير من شركاته كدليل على أفعال تلك الطبقة أو شبه الطبقة المتحلقة حول تشكيلات السلطة. وأصبح القطاع العام في عالم اليوم منبوذاً بعد أن كان يؤدي وظيفة تحقق (العدالة الاجتماعية) التي كانت جزءاً لا يتجزأ من الفلسفة الاشتراكية نتيجة لسوء التصرف الذي قامت به النخب المسؤولة عن هذا القطاع. فكما يذكر الكاتب اليوغسلافي (مليوفان دوجلاس) في كتابيه (الطبقة الجديدة) و(محادثات مع ستالين) أن النخب من ثوار الأمس في يوغسلافيا تحولت إلى طبقة مخملية عبر تنمية الثروة الخاصة من خلال القطاع العام جراء آلية لتوحيد مصالح الدولة الاقتصادية والاجتماعية مع المصالح الشخصية للنخبة المسيطرة في كل جمهورية داخل بوغسلافيا، وبهذا تحولت هذه النخب إلى فئة بيروقراطية حالمة لاهم لها سوى السيطرة على تلك الجمهوريات لأطول مدة ممكنة عن طريق المزايدة اليسارية لفترة، ثم المزايدة القومية بعد أن أصبحت المزايدة اليسارية ممجوجة أو غير مقنعة بحكم فشل كل الطروحات الماركسية التقليدية ولذلك بدأ الاستمتاع ببهرج الحياة وجمع كل ما يمكن من مال وثروات (نهب القطاع العام) بشتى الطرق وإيداعه في الدول الغربية مستفيدين من التعتيم الكامل على نشاطات الدولة سلبية الطابع وانعدام الشفافية المطلق للدولة التوتاليتارية التي أقامتها النخب الغنية في إطار الحرب الباردة وانعدام المحاسبة المؤسساتية. لقد أدت هذه الأعمال إلى التخلي عن الوظيفة الاجتماعية للقطاع العام التي كانت سنداً لشعوب بلدانٍ كثيرة وأصبحت الوصفة تسريح العمالة الفائضة مما يفقد العدالة الاجتماعية مفهومها لدى الجمهور ويسير بالبلدان نحو وصفة (الخوصصة) في العقود التاريخية التي تلت. إن سيادة فلسفة اقتصاد السوق وخوصصة القطاع العام في بلدان الجنوب يجب أن تسود معها تشريعات تضمن (العدالة الاجتماعية) حيث عندما يخوصص القطاع العام وتنعدم تشريعات ضامنة للعدالة الاجتماعية، تصبح تلك العدالة مسألة اختيارية، وهو ما يخشاه كل حريص على المجتمع لأن العطاء لا ينبع من مصدر قوى داخل كل إنسان فهنالك قلة تعطي عن اقتناع ورغبة، وكثيرة سوف تمسك وهنالك قلة تقدم حق الدولة من الضرائب وكثرة تتفنن في أسلوب إفساد الهيئات الضريبية والتهرب من الضرائب . وهنا سوف تحدث إشكالية العدالة الاجتماعية حيث تصل بالمجتمع إلى