اخلاق نظری (2) نسخه متنی
لطفا منتظر باشید ...
فإذا فَرَغَ مِنْ ذلك كلِّه شرع في تفسير الكتاب العزيز بأسره، فكُلُّ هذه العلوم له مُقَدِّمة، وإذا وُفِّقَ له، فلا يَقْتَصِر على ما اسْتَخْرَجَهُ المفسِّرُونَ بأنظارهم فيه، بل يُكْثِرُ مِن التفكُّرِ في معانيه، ويُصَفِّي نَفْسَه لِلتَّطَلُّعِ على خَوافِيِهِ، ويَـبْـتَهِلُ إلى الله تعالى في أنْ يَمْنَحَه من لَدُنْه فهمَ كتابهِ وأسرار خطابهِ، فحينئذ يَظْهَرُ عليه مِن الحقائقِ مالم يَصِلْ إليه غيرُه مِن المفسِّرين; لأنّ الكتاب العزيز بحرٌ لُجِّيٌّ في قَعْره دُرَرٌ وفي ظاهره خِيَر; والناس في التقاط دُرَرِه، والاطّلاع على بعض حقائقه على مراتبَ حَسَب ماتَبْلُغُه قُوَّتُهُم ويَفْتَحُ الله به عَلَيْهِمْ، ومِنْ ثَمَّ نَرَى التفاسيرَ مختلفةً حَسَبَ اختلافِ أهلها فيما يَغْلِبُ عليهم مِن العلم.فإذا فَرَغَ مِنْ ذلك وأرادَ الترقِّيَ وتكميلَ النفسِ، فليُطالِعْ كُتُبَ الحِكمَةِ من الطبيعي والرياضي، والحكمة العمليّة المشتملة على تهذيب الأخلاق.ثمّ يَنْتَقِل بعده إلى العلوم الحقيقيّة; فإنّها لُبابُ هذه العلوم، وبها يَصِل إلى درجة المقرَّبين ويَحْصُلُ على مقاعِدِ الواصلين.أوصَلَنَا الله وإيّاكُمْ إلى ذلك الجَنابِ، فإنّه كريم وَهّاب.هذا كلُّه ترتيبُ مَنْ هو أهلٌ لهذه العلوم، وله استعداد لتحصيلها، ونفسٌ قابلةٌ لفهمها، فأمّا القاصرون عن دركِ هذا المقام، والممنوعون بالعوائق عن الوصول إلى هذا المرام، فَلْيَقْتَصِرُوا منها على ما يُمْكِنُهُمُ الوصول إليه متدرِّجينَ فيه حَسَبَ مادَلَلْنا عليه.فَإنْ لم يكن لهم بُدّ من الاقتصار، فلا أقلَّ مِن الاكتفاء بالعلوم الشرعيّة والأحكام الدينيّة.فإنْ ضاق الوقتُ أو ضَعُفَتِ النفسُ عن ذلك، فالفقه أولى من الجميع، فَبِه انتظم أمر المعاش والمعاد، مُضِيفاً إليه ما يجب مراعاتُه مِن تهذيب النفس وإصلاح القلب مِن علم الطبِّ النفسي، لِيَتَرَتَّبَ عليه العدالةُ التي بها قامت السماوات والأرض والتقوى التي هي ملاك الأمر.فإذا فَرَغَ عمّا خُلِقَ له مِن العلوم فليَشْتَغِلْ بالعمل الذي هو زُبْدَة العلم وعلّة الخلق، قال الله تعالى: ( وَماخَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إلاّ لِيَعْبُدُون)(143) وهذه العلوم بمنزلة الآلات القريبة أو البعيدة للعمل.وما أجْهَلَ وأخْسَرَ وأحْمَقَ مَنْ يَتَعَلَّمُ صنعةً لِيَنْتَفِعَ بها في أمر معاشه، ثمَّ يَصْرِفُ عُمْرَه، ويَجْعَلَ كَدَّه في تحصيل آلاتِها مِنْ غيرِ أنْ يَشْتَغِلَ بها اشتغالاً يَحْصُلُ به الغرضُ منها.