هـذا مع الاغماض عما ياتي من عدم كون ارادة مثل اللفظ او نوعه او شخصه من استعمال اللفظ في المعنى .
وامـا مـا ذكـره (ره ) مـن كـون حقيقة الوضع هو الادعاء, بان هذا اللفظ عين ذلك المعنى , فيكذبه
الـوجـدان عـنـد ملاحظة الوضع في الاعلام الشخصية , فان حقيقته لايختلف عن الوضع في سائر
الالـفـاظ, مـع انه لا تنزيل ولا ادعاء في وضعهاقطعا, فان قول الوالد: (سميت ولدي محمدا) ليس
مـفـاده جعلته عين لفظ محمد او ان صورته عين ذلك اللفظ,ويوضح ذلك كمال الوضوح , ملاحظة
اسماء ذات الحق جل وعلا.
وامـا دعوى ((17)) كون اصل الدلالة في الالفاظ ذاتية , بتقريب انـه لو سمع شخص كلاما وكان
جـاهلا بوضع الفاظه , علم ان المتكلم اراد معنى ما, فيردها ان علم السامع بذلك ليس ناشئا من دلالة
الالفاظ ذاتا, بل من ظهور حال المتكلم العاقل بانـه لايفعل شيئا بلا غرض , والغرض من الكلام عادة
ارادة المعاني .
وامـا الالـتـزام بان دلالة الالفاظ ليست بذاتية محضة بل بها وبالوضع معا -كما عن المحقق النائيني
(ره )-, بـدعوى ان كل لفظ يناسب معنى واقعا وتلك المناسبة مجهولة عندنا, واللّه (تبارك وتعالى )
عـين كل لفظ لمعناه المناسب له والهمنابالتكلم بذلك اللفظ عند ارادة ذلك المعنى , فيكون الوضع في
الالـفاظ امرا متوسطا بين الاحكام الشرعية التي يحتاج ابلاغها الى الانام الى ارسال الرسل وانزال
الـكتب , وبين الامور الجبلية التي جبل الانسان على ادراكها من الامورالتكوينية كالعطش والجوع
عـنـد احتياج البدن الى الماء والغذاء, ولو كانت دلالة الالفاظ ذاتية محضة بلاتوسيط وضع لماجهل
احد معنى لفظ, ولو عند قوم اخرين , واحتمال ان الواضع هو الانسان غير صحيح , لانا نقطع بحسب
التواريخ التي بايدينا انـه لم يكن شخص او اشخاص وضعوا الالفاظ في لغة , فضلا عن سائر اللغات .
ومـمـا يؤكد ذلك ان جماعة لو ارادوا وضع الفاظ جديدة في لغة بقدر الالفاظ التي في تلك اللغة لما
قدروا عليه , لكثرة المعاني وتعذر تصورها من قبل اشخاص , فضلا عن شخص واحد. فقد ظهر ان
حـقـيـقـة الـوضـع هـو تـعـيـيـن الـلفظ لمعنى بمقتضى مناسبة له وان هذا التعيين من اللّه (عز
وجـل ) ((18)) , فغير صحيح , وذلك لان دعوى المناسبة الواقعية بين كل لفظ ومعناه , مما لم يشهد
بـهـا شاهد, وما يقال من ان الوضع يستلزم الترجيح بلامرجح لولامناسبة واقعية , غير صحيح , لان
الـغرض من الوضع -وهو التسبيب الى تفهيم المعاني والمرادات - بنفسه كاف في تعيين اي لفظ لاي
مـعـنـى , وعـدم وجـود اسـم شـخص او اشخاص في التواريخ التي بايدينا لا تدل على ان واضع
الالـفاظهو اللّه سبحانه , اذ يحتمل ان يكون اصل الوضع في اي لغة قد حدث قبل التاريخ , ثم كملت
تلك اللغة على مر العصورنتيجة تطور الافكار وكثرة الحاجات , كما نرى بالوجدان ان المصنوعات
والمخترعات الجديدة توضع لها الاسماء من غير ان يذكر في التاريخ من سماها بها, ومما ذكر يظهر
الجواب عن تعذر وضع اشخاص لغة جديدة , فضلا عن شخص واحد.
وقـد ذهـب سيدنا الاستاذ (ره ) الى ان وضع الالفاظ في حقيقته تعهد وقرار من مستعمل اللفظ بانه
كلما اتى به اراد تفهيم المعنى الفلاني , ولا يفرق في ذلك بين ان يكون التعهد والقرار ابتدائيا, او كان
مـسـبـوقا بالتعهد والاستعمال من الاخرين فيكون مستعمل الالفاظ مع ذلك التعهد واضعا, ولو كانت
اسـتعمالاته مسبوقة بالاستعمال من الاخرين , فان عدم اعراضه عن استعمال السابقين واقرار اللفظ
عـلـى ما هو عليه امضاء للتعهد والقرار, فكل مستعمل واضع , غاية الامرالسابق -لسبقه في التعهد
والاستعمال - يطلق عليه الواضع , وعلى ذلك فما يرى من خطور المعنى الى الذهن عندسماع اللفظ
ولو من غير شاعر فهو ليس من الدلالة الوضعية , بل منشاه انس الاذهان لكثرة الاستعمال ((19)) .
ثم ان الملحوظ حال الوضع اما ان يكون عاما(1).
ولكن لا يخفى انه لو كان الامر كذلك لكان الانس حاصلا بين اللفظ وارادة تفهيم المعنى لا نفسه .
والصحيح ان الوضع في الالفاظ عبارة عن جعلها علامات للمعاني , والغرض من جعل العلامة تفهيمها
بها, فالمعنى هوالموضوع له ومسمى اللفظ, لا ان ارادة المعنى نفسها مسمى اللفظ, ثم ان هذا التعيين
وجـعـل الـلفظ علامة للمعنى قديكون ابتدائيا, وقد يكون مسبوقا بالاستعمالات المتكررة بالعناية
وملاحظة العلاقة فيكون الوضع تعينيا.
اقسام الوضع
(1) حـاصـل ما ذكره (ره ) في المقام : ان وضع اللفظ لمعنى يتوقف على لحاظ ذلك المعنى , فان كان الـمـعـنى الملحوظعاما يعني كليا يكون في ذلك العام جهتان , احداهما: انـه معنى من المعاني , وبهذا
الاعـتـبـار يـكـون وضع اللفظ له من الوضع العام والموضوع له العام . وثانيتهما: جهة كونه عنوانا
لافـراده ووجـوداتـه وصورة لها, وبهذا الاعتبار يكون وضع اللفظ من الوضع العام والموضوع له
الـخاص فان الموضوع له في الحقيقة وجوداته وافراده غاية الامر لم تلاحظ تلك الافراد تفصيلا
بل اجمالا, يعني بعنوانها وبالصورة المشتركة بينها.
وامـا اذا كان المعنى الملحوظ جزئيا فبما ان لحاظه ليس الا لحاظ نفسه لا غيره من سائر الافراد
ولا للصورة المشتركة بينها حيث ان الجزئي لا يكون صورة لغيره فيكون وضع اللفظ له من الوضع
الخاص والموضوع له الخاص .
نعم اذا لوحظ الجزئي فربما ينتقل الذهن الى ان له كليا ويوضع اللفظ لذلك الكلي , فهذا امر ممكن الا
ان الوضع في هذا الفرض كالموضوع له عام , فانه لوحظ المعنى العام ثانيا, بعد تصور الجزئي اولا,
وفـرق بـيـن تصور الشي ء بعنوانه وصورته المراتية كما في الوضع العام والموضوع له الخاص ,
وبـيـن تـصـور الشي ءبنفسه ولو بعد الانتقال اليه من تصور شي ء اخر كما في حالة الانتقال الى ان
للجزئي كليا.
لا يقال : كون اللفظ موضوعا للجزئي او استعماله فيه يلازم ادخال الخصوصيات الموجبة للجزئية
في ذلك المعنى الموضوع له او المستعمل فيه , وتصور العام في مقام الوضع او الاستعمال لا يكون الا
تصورا لنفسه وهي الجهة المشتركة بين افراده مع حذف خصوصيات الافراد في الملحوظ لا يكون
الموضوع له خاصا فلابد من جعل الموضوع له المعنونات بذلك العنوان بان يلاحظ ما يكون انسانا او
غـيـره بـالـحـمل الشايع ويجعل الموضوع له هو المعنون , لا العنوان ,وهذا في الحقيقة انتقال الى
الجزئي , و لحاظه اجمالا بعد تصور العام ويجري ذلك في الوضع الخاص والموضوع له العام الذي
ذكـر قـسما رابعا للوضع بان يلاحظ الجزئي اولا ويوضع اللفظ لما هو عنوان له , وبالجملة يكون
في كلتاالصورتين تصور المعنى بنفسه ولو اجمالا, بعد تصور شي ء اخر عام او خاص .
فانه يقال : ان امكان الوضع العام والموضوع له الخاص انما هو باعتبار ان لحاظ معنى بخارجيته كاف
فـي جـزئيـتـه , فان المعنى الكلي يمكن تصوره بحيث يكون لحاظا لتلك الوجودات العينية , حيث ان
الكلي عينها خارجا, كما يمكن ملاحظته بحيث يقبل الاتصاف بالوجود والعدم . فان كان اللفظ قد وضع
لـه مـع الاغـماض عن العينيات الخارجية , بحيث يكون قابلا للاتصاف بكل من الوجود والعدم , كان
الموضوع له كالوضع عاما, وان كان اللفظ قد ضع له بلحاظ العينيات الخارجية والتحقيق جسما يؤدي
اليه النظر الدقيق (1).
بحيث لا يقبل الاتصاف بالوجود والعدم بل يكون الا مر فيه نظير ما في الاعلام الشخصية في عدم
اتـصافها بالوجودوالعدم كان الموضوع له خاصا, مثلا, في العنقاء يصح ان يقال : انه معدوم , ولا يصح
ان يقال : زيد معدوم , بل يقال : انه غير باق . والحاصل ان الطبيعي عين وجوداته خارجا, فلحاظه بجهة
خارجيته كاف في كون الموضوع له خاصا, والمرادبجهة العينية واقعها لا مفهوم العينية فان مفهومها
هو عين مفهوم الوجود, كما هو ظاهر.
المعنى الحرفي
(1) وبتعبير اخر ان مثل لفظ من ولفظ الابتداء موضوعان لمعنى واحد غاية الامر, ذلك المعنى يـلاحـظ تارة بما هو هوفيستعمل فيه لفظ الابتداء, واخرى يلاحظ اليا فيستعمل فيه لفظ من
ولـيـس الـمراد ان اللحاظ الالي او الاستقلالي داخل في المستعمل فيه , بل هما نحوان من اللحاظ
يـتـعـلـقـان بـنفس المعنى في مقام الاستعمال , ونفس ذلك المعنى -الذي يتعلق به اللحاظ الالي تارة
والاستقلالي اخرى - هو الموضوع له والمستعمل فيه , فيهما.
ويدل على عدم كون معاني الحروف جزئيات بل كمعاني الاسماء كليات , ان القائل بالجزئية ان اراد
الـخصوصية الخارجية الموجبة لكون المعنى جزئيا خارجيا, فمن الظاهر ان تلك الخصوصية غير
داخلة في معاني الحروف , فانه كثيرا ما يكون معنى لفظ من كليا يصدق على كثيرين , كما اذا وقع
تـلو الامر او النهي , كقوله سر من البصرة ولذا التجابعض الفحول الى جعله جزئيا اضافيا, وهو
كـمـاتـرى , لان مـا يـوجـب كـونـه جـزئيـا اضـافيا غير داخل في معناها بل هومستفاد من دال
اخر,كمدخولها كما لا يخفى .
وان ا راد جـزئيـة مـعاني الحروف باعتبار خصوصية ذهنية ماخوذة فيها, موجبة لكونها جزئيات
ذهنية , بان يكون الموضوع له نفس الوجود العرضي الذهني , بان يقال : كما ان الموجود الخارجي قد
يكون قائما بنفسه فيعبر عنه بالجوهر وقد يكون قائما بالغير فيعبر عنه بالعرض , كذلك الموجود
الـذهـني فان المعنى قد يلاحظ بنفسه , فيكون اسميا,وقد يلاحظ اليا, حالة لمعنى اخر (بان يكون
الـموجود ذهنا بما هو, المعنى الاخر) فيكون حرفيا, وعليه يكون معنى الحرف باعتبار اخذ واقع
اللحاظ الالي فيه وتقومه بمعنى اخر, جزئيا ذهنيا.
ففيه : ان هذا اللحاظ لا يمكن اخذه في معاني الحروف بشهادة امور:
الاول : مـا اشـار اليه بقوله (ره ): والا فلابد من لحاظ اخر وتوضيحه : انه لو كان واقع اللحاظ
الالـي داخـلا فـي معنى الحرف لزم تعدد اللحاظ في استعماله , ضرورة ان الاستعمال موقوف على
لـحـاظ الـمعنى وتصوره , وقد فرضنا واقع اللحاظ الالي دخيلا في معنى الحرف , فلابد من لحاظ
الابتداء اليا اولا, ثم لحاظ الملحوظ باللحاظ الاول , وهذا ممايكذبه الوجدان .
اقول : توقف الاستعمال على لحاظ المستعمل فيه , وان كان صحيحا الا ان لحاظ المستعمل فيه ليس
الا احـضـاره في افق النفس , واذا فرض حضور المستعمل فيه عند النفس باللحاظ الاول -كما في
المعلوم بالذات - فلا معنى لاحضاره فيها بلحاظ اخر وفي الجملة لو كان واقع اللحاظ الالي ماخوذا
في معاني الحروف لم يكن في استعمالها حاجة الى ازيد من ذلك اللحاظ.
قلت : الفرق بينهما انما هو في اختصاص كل منها بوضع (1).
الثاني : ما ذكره (ره ) من انه لو كان اللحاظ ماخوذا في معاني الحروف لما صح ان تصدق معانيها على
الـخارجيات , لان الصدق عليها هو الانطباق عليها, والانطباق هو العينية , والمعنى المركب والمقيد
بـاللحاظ امر ذهني لا ينطبق على الخارج بوجه . نعم عدم الانطباق لا يمنع الحكاية عن كثيرين فان
الـطبيعي المقيد بالكلي المنطقي لا يمكن حصوله في الخارج , مع ذلك يكون كليا باعتبار حكايته عن
كـثـيـرين -كما في الكلي العقلي المصطلح - وعلى ما ذكر فيمتنع امتثال قوله سر من البصرة الا
بالتجريد بالغاء خصوصية اللحاظ عن متعلق الامر.
الثالث : ما اشار اليه بقوله : مع انـه ليس لحاظ المعنى ... الخ يعني ليس اللحاظ الالي في استعمالات
الحروف الانظير اللحاظ الاستقلالي في استعمال الاسماء, وكما ان اللحاظ الاستقلالي غير ماخوذ
في معانيها في الوضع والاستعمال كذلك اللحاظ الالي في استعمالات الحروف ووضعها.
ثـم ان قـولـه (ره ): لامـتناع صدق الكلي العقلي عليها, اي الخارجيات ليس كما ينبغي , فان معنى
الـحـرف بـنـاءا عـلـى تـقيده باللحاظ الالي وان كان كالكلي العقلي من ح -يث حكايته عن كثير من
الـخـارجـيات الا انه ليس من الكلي العقلي المصطلح عليه , و الصحيح ان يقال : لامتناع صدقه نظير
امتناع صدق الكلي العقلي على الخارجيات .
(1) وبـتـعـبـيـر اخر معنى لفظي من وابتداء وان كان امرا واحدا يتعلق به اللحاظ الالي تارة ,
والاستقلالي اخرى ,وشي ء من اللحاظين غير ماخوذ في ناحية الموضوع له والمستعمل فيه الا ان
الـوضـع فـي الحروف مقيد بتعلق اللحاظالالي بمعانيها عند الاستعمال , وفي الاسماء بتعلق اللحاظ
الاسـتقلالي بها كذلك ,واختلافهما بحسب الوضع واختلاف شرط الوضع في كل منهما يوجب عدم
صـحـة استعمال احدهما في موضع الاخر,وليس المراد بشرط الوضع ما يرادف معنى الشرط في
المعاملات , اعني الالتزام بشي ء في ضمن معاملة , ليقال ان اتباع شروط الوضع والعمل بها غير لازم ,
كـمـا لو فرضنا ان الواضع اشترط دفع درهم على من استعمل هذا اللفظ في هذاالمعنى , بل المراد
بـالـشـرط هـو مـا فـي لـسان علماء الادب من ان وضع الحرف لذلك المعنى معلق على لحاظه اليا
وفي الاسم على لحاظه استقلالا.
اقـول : غاية ذلك عدم صحة استعمال الحرف في موضع الاسم حقيقة , لكونه بغير الوضع , واما عدم
صحته اصلا ولوبنحو المجاز, فلا موجب له , مع ان استعمال احدهما موضع الاخر يعد غلطا, وهذا
كـاشـف عن اختلاف المعنى في الحرف والاسم ذاتا, وان معنى الاول غير الاخر, لا انهما يختلفان
باللحاظ او بتقيد الوضع مع اتحاد المعنى , فيبقى الكلام في ذلك الاختلاف .
وعـن المحقق الاصفهاني (ره ) ان الحرف موضوع للوجود الرابط الذي ذكره بعض الفلاسفة , في
مـقـابـل وجود الجوهروالعرض (الذي يعبر عنه بالوجود الرابطي ). وحاصل ما ذكره (ره ) في
المقام : ان الالفاظ الموضوعة للجواهر والاعراض -وهي الاسماء- تكون معانيها من قبيل الماهيات ,
سـواء كـانـت متاصلة (اي منتزعة من نفس وجوداتها), او من الاعتبارات (اي المنتزعة من الشي ء
باعتبار امر اخر), ولا يكون الوجود الخارجي او الذهني ماخوذا في معاني الاسماءاصلا, بل تتصف
مـعـانـيها بالوجود والعدم , وفي مقابل هذه الماهيات من الجواهر والاعراض والانتزاعيات وجود
اخـرضـعيف ودقيق في الغاية زائدا على وجود الجوهروالعرض , يظهر بالبرهان على ما استدلوا
عليه فانه ربما يعلم بوجود كل من الجوهر (كوجود الانسان ) والعرض (كحصول الحركة ), ولكن
يـشـك فـي قـيـام الـحـركـة بـالانـسان او بغيره , وهذا دليل واضح على ان الحصة الخاصة من
الـحـركـة الـقـائمة بالانسان لها نحو وجود, نعبر عنه بالوجود الرابط زائدا على اصل الحركة ,
ووجـود الانسان لقضاء تعلق الشك به وتعلق الجزم بالاخيرين وهذا الوجود الرابط لضعفه وخفائه
لايـكون له مهية , ليكون وضع اللفظ لها, بل الحروف موضوعة لنفس الوجودات الروابط, وتلاحظ
هـذه الـوجودات في مقام الوضع , وعند الاستعمال بنحو الاشارة اليها,فتكون معاني الحروف مباينة
ذاتـا لـمـعـانـي الاسماء, لان الاسماء توضع للصور الذهنية المنطبقة على الخارج ويكون الوجود
الـخـارجي كالوجود الذهني , خارجا عن الموضوع له والمستعمل فيه فيها, بان يكون الموضوع له
والـمـسـتـعمل فيه نفس الماهيات بخلاف الحروف , فانها موضوعة لما هو رابط خارجا, لا عنوان
الـرابـط, فـانـه مـعـنـى اسـمي ويلزم على ذلك ان يكون الوضع في الحروف عاما والموضوع له
خاصا ((20)) .
اقول : يناقش فيما ذكره (ره ):
اولا: بـانـه لا سـبيل الى الجزم بان في الخارج وجودا اخر غير وجود العرض والجوهر يسمى
بـالـوجـود الرابط,والدليل عليل , اذ تعدد متعلقي اليقين والشك , لايلزم ان يكون بتعدد الوجود, بل
يـكـفـي فـيـه تعدد الاعتبار والجهة مع الاتحاد خارجا, فانه ربما يعلم حصول الطبيعي ويشك في
افراده , ومن الظاهر ان الطبيعي عين افراده خارجا ولا وجود له غير وجودها, وعلى ذلك لو علم
بـوجـود الانسان خارجا ووجود الحركة يكون الشك في اضافة ما تقوم به الحركة من كونه معنونا
بعنوان الانسان او غيره .
وثـانيا: ان الوجود الرابط -على فرض تسليمه - لا يكون الموضوع له في الحروف , فان الحروف
تـسـتـعمل في موارد لايكون فيها ذلك الوجود قطعا, كما يقال الوجود للانسان ممكن ولشريك
الباري ممتنع ولذات الحق (جل وعلا)واجب مع انه لا رابط في شي ء منها بالمعنى المتقدم اصلا.
وثـالثا: يلزم -على ماذكر- ان لا يكون قول المخبر: (لزيد علم , ولعمرو خوف , ولبكر شجاعة )
كـذبـا, فيما اذا لم يكن لهم شي ء مما ذكر, فانه في الفرض لايكون للكلام مستعمل فيه بالاضافة الى
الـحـرف لـيـقـال ان مدلوله غير مطابق للواقع كما هو الفرض من عدم الرابط, المدعى كون اللام
مـسـتعملة فيه , ويتضح ذلك اكثر بملاحظة الحروف المستعملة في النفي وفي الجواب والاستفهام
والنداء والتعجب , الى غير ذلك , مما لا يعقل فرض الوجود الرابط فيها.
ولـلـمـحـقـق النائيني (ره ) في اختلاف معنى الاسم والحرف كلام , ملخصه : ان المعنى في الاول
اخـطاري , وفي الثاني ايجادي , سواء كان معنى الحرف نسبيا او غير نسبي , فالثاني كحروف النداء
والـتـشـبيه والجواب ونحوها, ممايتحقق باستعمالها فرد من النداء والتشبيه والجواب او غيرها,
بـخـلاف الاول -يعني الحروف النسبية - فانه يتحقق باستعمالها فرد من النسبة والربط بين اجزاء
الكلام بحسب معانيها.
وتوضيح ذلك : ان الاسماء -سواء كانت معانيها من الجواهر خارجا او من الاعراض - موضوعة لنفس
المعاني التي تتصف بالوجود الخارجي او الذهني تارة , وبالعدم اخرى , وهذه المعاني كلهامستقلة ذاتا,
بمعنى انه يخطر عند سماع الفاظها معانيها في الاذهان ولو لم يكن سماعها في ضمن تركيب كلامي ,
وهذابخلاف الحروف , فانه ليس لها معان استقلالية واخطارية , بحيث تخطر الى الذهن عند سماعها
منفردة عن التركيب الكلامي .
ثـم لا يـخفى ان العرض لما كان لا يرتبط مفهومه ومعناه -بما هو مفهوم ومعنى - بمعنى المعروض
ومـفهومه كذلك , بل كان العرض خارجا, مرتبط بمعروضه الخارجي وملابساته من الزمان والمكان
والالة والمفعول وغير ذلك من الملابسات , فدعت الحاجة الى ايجاد الربط بين معنى اللفظ الدال على
الـعرض ومعنى اللفظ الدال على المعروض ,وكذا سائر الملابسات في مقام المعاني ليقوم الربط بين
المداليل في الكلام بحيث يعد نسبة الربط فيه الى النسبة الخارجية مثل الظل الى ذي الظل .
و لـيـس المراد ان النسبة الخارجية محققة للنسبة الكلامية , نظير فرد الانسان خارجا, حيث انه
يـكـون تحققا لطبيعي الانسان , بل المراد ان قيام الحركة مثلا بالانسان كاف في ارتباطها به خارجا
ولـكن معنى لفظ الحركة غير مرتبط بمعنى الانسان , فوضعت الحروف لايجاد الربط بينها في مقام
الـتـكـلـم , ثم انه ربما يكون هذا الارتباط الكلامي متفقا مع الاضافة الخارجية , توافق الظل وذيه ,
فـيكون الكلام صادقا, وربما لا يوافقها, فيكون كاذبا, فالمستعمل فيه في الحروف ايجادي ,لكن لا
كالايجاد في انشاء البيع والطلب , بان يوجد البيع والطلب خارجا وفي عالم الاعتبار, بل الايجاد في
الحروف بمعنى تحقيق الربط بين مدلول اجزاء الكلام .
نـعـم فـي الحروف غير النسبية يكون الموجود فردا خارجيا من النداء والتشبيه والجواب وغير
ذلك ((21)) .
اقـول : يرد عليه (ره ) ان دعواه بان المعاني الاسمية لا يمكن لحاظها مرتبطة بنحو ارتباط بعضها
ببعض الا بالتكلم بالحروف , لا يمكن الالتزام بها, حيث يمكن للانسان لحاظ شيئين مرتبطين خارجا
بـمـا هـمـا عـليه من الارتباط, فكما ان اللفظ الموضوع لكل منهما يحكي عنهما خارجا بصورتهما
الـمـراتـية , كذلك الحرف بصورته المتدلية في معناهما,يحكي عما هما عليه من الارتباط خارجا,
فيمكن وضع لفظ للصورة المتدلية في صورتي الشيئين المرتبطين خارجا,ويكون اللفظ بحكايته عن
تلك الصورة المتدلية (الحاكية عن الخارج ) موجبا لحصول الارتباط بين معنى كل من الاسمين .
وبـتـعـبـير اخر: يكون الفرق بين معاني الاسماء والحروف ان معاني الاسماء اخطارية , بمعنى انه
ينسبق منها معانيهاالى الاذهان ولو عند التلفظ بكل منها منفردا, بخلاف الحروف فانه لا ينسبق منها
الـمـعـاني الا اذا تلفظ بها في ضمن تركيب كلامي , وهذا معنى كون معاني الحروف غير اخطارية .
وهـو لا يـقتضي الايجادية , فلا ملازمة بين الايجادية وغيرالاخطارية . نعم للمعنى الحرفي نوع
خاص من الاخطار وهو الاخطار الضمني , اي في ضمن التراكيب الكلامية , بخلاف المعنى الاسمي
فهو اخطاري استقلالا.
ومـمـا ذكـر ظـهر انه لا مقابلة بين اخطارية معنى اللفظ وبين كونه ايجاديا حتى يكون نفي الاول
مستلزما لاثبات الثاني .
ثم انه (ره ) ذكر ان معاني الحروف تكون الية ومغفولا عنها, بخلاف الاسماء.
فهذا لا يمكن المساعدة عليه ايضا, فانه ان كان المراد بالالية عدم كون تفهيمها هو المقصود الاصلي
للمتكلم ,فمن الظاهر انه كثيرا ما يكون الغرض الاصلي من التكلم تفهيم الارتباط بين شيئين خارجا,
لعلم السامع بحصول كل منهما وعدم علمه بالارتباط الخاص بينهما, وان كان المراد ان نظر المتكلم
الى صورها المتدلية في غيرها نظر مراتي ,فهذا النظر المراتي حاصل في معاني الاسماء وغيرها,
حـيـث ان الـمتكلم عند التكلم ينظر بالمعاني التي هي في حقيقتهاصور للاشياء الى نفس الاشياء في
مواطنها.
اذن فالحق في المقام والذي يقتضيه التامل في معاني الحروف هو انها موضوعة لافادة خصوصية في
مـدلول مدخولاتها بحسب الوعاء المناسب لتلك المدخولات , فمثلا لفظة في موضوعة لتدخل على
الاسم وتدل على ان مدخولها متصف بكونه ظرفا بحسب الخارج .
وليس المراد ان لفظة في ترادف لفظ الظرف ليكون معنى في ظرفا بالحمل الاولي او بالحمل
الـشـائع , بـل المراد ان معنى لفظ ظرف معنى اسمي وان لفظة في وضعت لتكون بعد دخولها على
الاسم دالة على ان ذلك المدخول موصوف خارجا بكونه ظرفا لشي ء يذكر في الكلام او ذكر سابقا,
كما ان كاف التشبيه موضوعة لتكون دالة على ان المعني بذلك الاسم خارجا مشبه به , ولفظة من
وضـعـت لـتكون دالة على ان مدلول ذلك الاسم خارجا معنون بعنوان المبدا,وكلمة نعم موضوعة
لتدخل على الجملة ولتدل على ان مضمونها هو الجواب ولفظة لا موضوعة لتدخل عليها فتدل على
انـتـفـاء مـضمون تلك الجملة بحسب الخارج وهكذا وهكذا, كما هو الحال في الاعراب والهيئات
الداخلة على الاسماء والجمل .
وبـتعبير اخر: كما ان حالات الاعراب موضوعة لتدل على ان معنى مدخولها بحسب الخارج متصف
بكونه مصداقاللفاعل او المفعول او غيرهما, كذلك الحروف موضوعة لتكون بدخولها على الاسم او
غـيره دالة على خصوصية مدخولها بحسب الخارج , فمثلا اذا قيل : (الصلاة في المسجد افضل من
الـصلاة في غيره ) يكون لفظ في دالا على ان المسجد متصف بكونه ظرفا فتكون الهيئة الكلامية
دالـة عـلـى ان الصلاة المفروض كون المسجد ظرفا لها محكومة بماذكر, وعليه فلفظة في لم
توضع لتقييد معنى الصلاة وتضييقها بالظرف .
نعم بما انها موضوعة للدلالة على كون مدخولها ظرفا, تكون الصلاة المفروض لها الظرف الخاص
اخـص من طبيعي الصلاة , واما اذا لم يكن في البين شي ء قابل للتضييق لم يحصل ذلك التقييد كما في
قولنا (زيد كالاسد) او (في الدار) الى غير ذلك .
والـحـاصـل , ان الفرق بين الحروف والاسماء يكمن في ان الاسماء موضوعة للعناوين (ولذا تكون
مـعـانـيـها اخطارية بالمعنى المتقدم ) بخلاف الحروف , فانها موضوعة لتدل على اتصاف مدخولاتها
بالعناوين بحسب الوعاء المناسب لتلك المدخولات (ولذا تكون معانيها في مداليل مدخولاتها).
ومـمـا ذكر يظهر ضعف القول بان الحروف موضوعة لتضييق معاني الاسماءوتقييدها ((22)) . فان
الـتـضـيـيـق وان كـان يـحـصـل في المورد القابل له عند استعمال الحروف في معانيها الا انه لم
يكن بموضوع لها, بل التضييق والتقييد لازم للمعاني الحرفية في المورد القابل .
لا يـقـال : ما الفرق بين لفظ زيد الحاكي عن مصداق خاص للانسان , وبين لفظة في الحاكية عن
مـصداق الظرف , فلو كان مجرد الحكاية عن مصداق عنوان موجبا لكونه حرفا, لزم كون معنى لفظ
زيد ايضا حرفيا.
فـانه يقال : معنى لفظ زيد اخطاري يحكي عن نفس المصداق ولو بعنوان مشير اليه ولا يحكي عن
جهة كونه مصداقا لعنوان الانسان , بل الحاكي عن هذه الجهة الهيئة التركيبية في قولنا زيد انسان ,
وهـذا بـخلاف لفظة في حيث ان معناها لا يكون اخطاريا, ولفظة في لا تحكي عن نفس مصداق
عـنـوان الـظرف , بل الحاكي عن نفس المصداق مدخولها, وهو لفظ الدار, فيكون مدلول لفظة في
اتـصاف مدخولها بكونه ظرفا. وبما ذكرناه من معنى الحروف تبين صحة تعريف الحرف بانه : ما دل
على معنى في غيره , على ان يكون المراد بالغير مدخوله .
كـما تبين ايضا ان ما اشتهر من عدم المعنى للاعراب , غير صحيح على اطلاقه , فان الاعراب وان
لـم يـكن له معنى اخطاري الا انـه اذا دخل على المعرب دل على خصوصية في معناه بحسب الوعاء
المناسب له , فما قيل من ان الحروف لو كانت كالاعراب في عدم المعنى , لزم ان يكون معنى مفردات
الكلام مساويا لمعنى الكلام , بان يكون معنى زيد دار مساويا لمعنى زيد في الدار غير صحيح ,
اذهو يبتني على ان يكون الاعراب لا معنى له , وقد عرفت خلافه .
لا يـقـال : مـا الفرق بين معاني اسماء الاعراض ومعاني الحروف , فكما ان العرض يكون خصوصية
بحسب الخارج لمعروضه , كذلك معاني الحروف .
فـانـه يـقال : ان اسماء الاعراض تحكي عن نفس الخصوصية بنحو الاخطار, ولو لم تكن في ضمن
تركيب كلامي ,غاية الامر تكون وجوداتها قائمة بالمعروض , وكون وجوداتها كذلك بادراك العقل
لا بدلالة اللفظ, بخلاف الحروف فانه ليس لها معان اخطارية , بل حيث تدخل على الاسماء تكون دالة
على ان مدخولاتها متصفة بالعناوين الاسمية في الوعاء المناسب لها, ويعبر عن تلك العناوين الاسمية
بالاعراض والخصوصيات .
وقد انقدح مما تقدم ان معاني الحروف لا تتصف بالكلية والجزئية , لكونها متدليات بمعاني دخولاتها,
فان كان مدخول الحروف كليا او مما يصدق على الكل والابعاض , كانت معاني الحروف الداخلة عليه
كـذلـك , فـيكون معناها قابلا للتقييدبتبع تقييد المدخول , وان كان مدخولها جزئيا كان معنى الحرف
الداخل عليه قابلا للتعيين بحسب ما يقبله ذلك الجزئي من التعيين بحسب الحال والزمان .
وبـتـعـبير اخر: الازمنة التي توجد فيها الدار المفروضة كحالاتها متعددة فيمكن تقييدها ببعضها,
والـحرف الداخل على كلمة الدار يقبل هذا النحو من التقييد, وان لم يكن مدخول الحرف قابلا حتى
لهذا النحو من التقييد, لم يكن معنى الحرف قابلا للتقييد اصلا, كما في اول ساعة من يوم الجمعة من
الشهر الفلاني من السنة الفلانية , فاذا قيل : (مات زيد في اول ساعة من ذلك اليوم ) فلا يكون المعنى
الحرفي قابلاثم انه لا يبعد ان يكون الاختلاف في الخبر والانشاء ايضا كذلك (1).
للتقييد. هذا كله في تقييد معاني الحروف , واما تقييد معاني الهيئات فياتي الكلام فيها في بحث الواجب
المطلق والمشروط ان شاء اللّه تعالى .
الخبر والانشاء
(1) يـعـنـي كـمـا ان الفرق بين الاسم والحرف لم يكن الا في ناحية الوضع مع كون الموضوع له والـمـسـتـعمل فيه واحدافيهما, فلا يبعد ان يكون الفرق بين الجملة الخبرية والجملة الانشائية
كذلك , بان يكون الموضوع له والمستعمل فيه فيهما واحدا, غاية الامر الوضع في الجملة الانشائية
مشروط بارادة المعنى بنحو خاص , وفي الجملة الخبرية بارادته بنحو اخر.
توضيح ذلك ان ثبوت النسبة في موطنها وانتفائها فيه على اختلاف انحائها لها صور عند النفس , ولو
كـانـت تـلك الصور متدلية في طرفيها, مثلا نسبة المحمول الى الموضوع واقعها اتحادهما وجودا
بـنحو خاص , او مفهوما ايضا,ونسبة المبدا الى الفاعل عبارة عن قيام المبدا به صدورا او حلولا او
غيرهما, والصور في جميع ذلك هي الموضوع لهافي الهيئات وتلك الصور وان كان لها وجودات في
افـق الـنـفس الا ان الهيئات لم توضع لتلك الوجودات بل وضعت لذواتها واذا خاطب المتكلم شخصا
بـقـولـه : (اطـلب منك ضرب زيد) بنحو الاخبار, او (طلبت ضربه منك ), وقال الاخرلمخاطبه :
(اضـرب زيـدا) انـشاءا, فالكلامان مترادفان في المعني , وانما يختلفان في نحو ارادة ذلك المعنى ,
فـانه في الاخبار يقصد المتكلم الحكاية عن ثبوت المضمون في موطنه , وفي الانشاء يقصد ان يثبت
ذلك المضمون ويتحقق في موطنه .
ومـمـا ذكـرنـا يـظـهر ان في عبارته (ره ) حيث قال : في حكاية ثبوت معناه وفي قصد تحققه
تـسـامحا, فان المناسب تبديل لفظة في باللام , لان الحكاية او التحقق غاية للاستعمال في الاخبار
والانشاءكما هو المدعى , لا انهما داخلان في الموضوع له او المستعمل فيه .
وبـتعبير اخر: الفرق بين مثل قول المولى لعبده (اطلب خروجك الى السفر) بنحو الاخبار, وبين
قـولـه لـعبده الاخر: (اخرج الى السفر) انشاءا, بعد اشتراكهما في ان مدلول كل منهما ثبوت طلب
الـخـروج مـن الـمولى , هو ان الشرط في وضع هيئة فعل المضارع كون الداعي للمستعمل من نقل
ثبوت الطلب الى ذهن المخاطب , حكاية ثبوته , بينما الشرط في وضع صيغة افعل كون الداعي ارادة
ثبوت الطلب بذلك الاستعمال .
وقد ظهر مما ذكرنا انـه لا فرق عند الماتن (ره ) بين قول القائل : (بعت داري بكذا) اخبارا, وبين
قـوله : (بعت داري بكذا) انشاءا, اذ الهيئة فيهما قد استعملت في معنى واحد, وهو ثبوت بيع الدار,
وكـذا قوله : (اضرب زيدا) انشاء,و(اطلب منك ضرب زيد) اخبارا, فانهما قد استعملا في ثبوت
الـطـلب والبيع , وانما الاختلاف في ان انشاء البيع بقوله :(بعت داري ) استعمال بغير الوضع وانشاء
الطلب في (اضرب زيدا) استعمال بالوضع . نعم ربما لا يكون ثبوت الشي ء اوثبوته لشي ء اخر قابلا
للانشاء, نحو: زيد اسود اللون , وهذا لا يوجب ان لا يكون المستعمل فيه ثبوت سواد اللون لزيد,بل
المستعمل فيه ذاك , فلا يكون قصد الحكاية داخلا في الموضوع له والمستعمل فيه .
وذكـر الـمـحـقـق الاصبهاني (ره ) ان الامر في مثل قوله بعت داري من الصيغ المشتركة بين
الاخـبار والانشاء هو كماذكره (ره ) من ان المستعمل فيه للهيئة نسبة بيع الدار الى المتكلم , وهذه
الـنسبة تكون لقصد الحكاية تارة , ولقصد الانشاء اخرى . واما في مثل قوله : (اضرب زيدا)وقوله :
(اطـلـب منك ضرب زيد) مما لا اشتراك فيه بين الجملة الانشائية والجملة الخبرية لفظا وهيئة ,
فلا يتم ذلك , لان الاول موضوع للبعث الاعتباري لا بما هو هو, بحيث يكون البعث ملحوظا بذاته , بل
بما هو نسبة بين المتكلم والمادة والمخاطب , ولذا لا تكون لتلك النسبة واقعية لتطابقها او لاتطابقها.
وبـتـعبير اخر: كما انـه اذا حرك شخص غيره نحو الفعل تحريكا خارجيا لايكون ذلك التحريك
الـخـارجي ملحوظا بذاته ,بل الملحوظ هو الفعل من المحرك , كذلك في التحريك والبعث الانشائي
الاعتباري , يكون الملحوظ بالذات نفس المادة من المخاطب , كما في قوله : (اضرب زيدا), واما اذا
قـال : (ابـعثك نحو ضرب زيد) او (احركك نحو ضرب زيد) او(اطلب منك ضرب زيد) اخبارا,
فليس الملحوظ بالذات ضرب زيد (بان يكون البعث مفاد الهيئة وملحوظا لا بذاته )حتى يقال لا فرق
فـي الـمـعـنـى بـيـن الهيئة الانشائية والاخبارية , لان البعث معنى واحد, والتفاوت باللحاظ غير
الـمـقـوم للمستعمل فيه , بل مضمون الهيئة ومدلولها في موارد الاخبار نسبة نفس البعث الى المتكلم
بنسبة صدورية , وكم فرق بين النسبة البعثية وبين نسبة البعث ((23)) ؟
اقول : يرد على المصنف (ره ) انه لو لم يكن فرق في ناحية المستعمل فيه والموضوع له في قوله :
(اضـرب زيـدا)انـشاء, و(اطلب منك ضرب زيد) اخبارا,ل -كان استعمال الاول في م -ورد الثاني
صح -يحا, غاية الام -ر لا يكون الاستعمال على طبق الوضع فيحتاج الى القرينة , كما تقدم في استعمال
الحروف في موضع الاسم .
ويـرد عـلـى مـا ذكره المحقق الاصفهاني (ره ) ان ما ذكره هو بيان للفرق بين الهيئة الداخلة على
الـمـادة المضاف اليهاالطلب , كما في قوله : (اضرب زيدا) وبين الهيئة الداخلة على مادة الطلب عند
ارادة الحكاية عن نفس الطلب , كقوله :(اطلب منك ضرب زيد) وانـه يكون الطلب في الاول ملحوظا
اليا, وفي الثاني ملحوظا استقلالا, وهذا الفرق مما لابدمنه على مسلكهم , حيث ان استعمال الهيئة في
الاول فـي الطلب لا يزيد على استعمال الحروف , بخلاف قوله : (اطلب منك ضرب زيد فان دلالته
على الطلب بمادته وبمدخول الهيئة , ومعنى الطلب فيه لابد ان يكون ملحوظا بذاته ,كالمعنى الاسمي
فـي اسـتـعـمـال سـائر الاسماء الا ان هذا ليس فرقا بين الانشاء والاخبار, فانه لو قصد من قوله
(اطلب منك ضرب زيد) الانشاء لكان بين مدلوله ومدلول قوله (اضرب زيدا) ذلك الفرق , بمعنى ان
الـمـنـتسب الى المتكلم في الثاني هو الضرب بنسبة طلبية وبعثية , وفي الاول المنسوب اليه طلب
الضرب بنسبة قيامية , وليس هذا محل الكلام وانما الكلام في المائز بين الانشاء والاخبار وان ذلك
الـميز داخل في المستعمل فيه والموضوع له , او انـه امر خارج عنهما وانه شرط للوضع في كل
من الجملة الانشائية والخبرية .
ويـشهد لما ذكرنا انـه لو اراد من قوله (اطلب منك ضرب زيد) الانشاء تارة والاخبار اخرى , لما
كان بينهما فرق في كون الطلب المتعلق بضرب زيد ملحوظا بذاته , كما لا يخفى .
وذكـر سيدنا الاستاذ (ره ) ان الجملة الخبرية لا يمكن وضع هيئتها للنسبة الخارجية -اي وضعها
لثبوت شي ء لشي ءخارجا فانه ربما لا تكون في الخارج نسبة كما في (الانسان موجود) او (شريك
الـبـاري مـمتنع ) او (الانسان ممكن )والالتزام باستعمال الهيئة في مثل هذه الموارد بالعناية خلاف
الـوجدان , مع انـه لا معنى لدلالة الهيئة على النسبة الخارجية فانها لا تفيد الظن بالثبوت الخارجي ,
فـضـلا عن العلم به , ولا معنى لدلالة الهيئة على النسبة الخارجية , غيركونها كاشفة عنها علما او
ظـنـا, كـمـا لا مـعـنى لوضعها للنسبة الكلامية بان توجد النسبة بين اجزاء الكلام -نظير ما تقدم
في الحروف من انها موضوعة لايجاد الربط بين المعاني الاسمية -.
نعم الجملة الاسمية يوجب سماعها انتقال الذهن الى ثبوت المحمول للموضوع بنحو التصور, ولكن
ذلك المتصور لا يمكن ان يكون مستفادا من الهيئة ومدلولا لها, فانها من قبيل التصور, ومفاد الهيئة في
الجملة الخبرية تصديقي . فالصحيح ان الهيئة في الجملة الخبرية موضوعة للدلالة على قصد المتكلم
الـحـكـاية عن الثبوت الواقعي , اي ثبوت شي ء لشي ء, ويعبر عن ذلك بثبوت المحمول للموضوع او
ثبوت شي ء في موطنه من ذهن او خارج .
وبـتعبير اخر: تكون الهيئة بحسب وضعها كاشفة عن قصد المتكلم الاعلام بالثبوت الواقعي , حيث
ان الـوضع في الالفاظ -كما تقدم - بمعنى التعهد والالتزام , والتعهد من شخص انما يتعلق بفعل نفسه
وعلم الغير بثبوت شي ء لشي ء,او ظنه به خارج عن اختيار المتكلم , فلا يتعلق به التعهد, والذي هو
فـعل اختياري له , هو قصد الحكاية عن ثبوت شي ءلشي ء او نفس ثبوته او لا ثبوته , وعلى ذلك فلا
يـكـون الصدق والكذب من اوصاف نفس مدلول الجملة الخبرية , بل من اوصاف متعلق المدلول , (يعني
الـحـكـايـة ). هـذا بالاضافة الى الجملة الاسمية المستعملة في مقام الاخبار, واما اذا كانت فعلية
فهيئتهاايضا تدل على قصد الحكاية عن تحقق المبدا بنحو المضي او الترقب ((24)) .
اما الانشاء فهو عبارة عن ابراز اعتباره فيما يكون ثبوت الشي ء بذلك الاعتبار, والاعتبار وان كان
امرا نفسانيا الا انه غيرقصد الحكاية .
ومـا اشـتهر من ان الانشاء عبارة عن ايجاد المعنى خارجا باستعمال اللفظ, لايمكن المساعدة عليه ,
وذلـك لانـه ان اريد من المعنى في انشاء البيع مثلا الملكية التي يعتبرها المتكلم , فلا يكون ايجادها
بـاللفظ, بل وجودها بالاعتبار القائم بالنفس ولا يحتاج الى اللفظ, بل اللفظ مبرز لذلك الاعتبار, وان
اريـد الـملكية العقلائية او الشرعية -يعني امضاء العقلاءاو الشارع لتلك الملكية - فمن الظاهر ان
امـضـاء الـعـقلاء او الشارع لا يكون من فعل المستعمل ليوجده باللفظ او بغيره , بل هو فعل العقلاء
والـشـارع , فـيـكـون حـكـمـا مـتـرتـبـا عـلـى الانـشاء او المنشا لا موجودا بفعل المستعمل
للجملة الانشائية ((25)) .