بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، و الصلاة على رسول الله، ثم على اهل بيت رسول الله.
كتاب القضاء و الشهادات
و فيه مقصدان:
المقصد الاول: في القضاء
و هو: ولاية حكم خاص-او حكم خاص-في واقعة مخصوصة و على شخص مخصوص، باثبات ما يوجب
عقوبة دنيوية شرعا، او حق من حقوق الناس بعد التنازع فيه، او بنفي واحد منهما.
و في هذا المقصد مقدمة و اربعة مطالب.
اما المقدمة ففي بيان فضله، و شرفه، و عظم خطره، و وجوبه
و فيها ست مسائل:
المسالة الاولى:
القضاء منصب عال عظيم، و شرفه جسيم.
و لعلو مرتبته و سمو شانه جعل الله سبحانه تولية ذلك الى الانبياء و الاوصياء
من بعدهم صلوات الله عليهم، ثم الى من يحذو حذوهم، و يقتدي بهم، و يسير بسيرهم، من
العلماء الآخذين علومهم منهم، الماذونين من قبلهم بالحكم بين الناس بقضائهم. و
كفى بجلالة قدره تولية النبي صلى الله عليه و آله اياه بنفسه الشريفة الزكية لامته،
ثم تفويضه الى سيد الاوصياء بعده، ثم الى اوصيائه القائمين مقامه، و خصصهم بذلك
دون سائر الناس، و كذلك من قبله من الانبياء و خلفائهم.
و لعظم شانه جعل الله يده فوق راسه، و اهبط اليه الملك يسدده.قال ابو عبد الله عليه
السلام في خبر السكوني: «يد الله فوق راس الحاكم ترفرف بالرحمة، فاذا حاف و
كله الله تعالى الى نفسه » (1) .
و في خبر آخر: «اذا جلس القاضي او اجلس في مجلسه هبط اليه ملكان يسددانه و
يرشدانه و يوفقانه، فاذا جار عرجا و تركاه » (2) .
المسالة الثانية:
خطر القضاء عظيم، و اجره جسيم فان القاضي لفي شفا جرف هار، فان جار في الحكم او
حكم بغير علم انهار به في نار جهنم، و ان عدل و حكم بما انزل الله عالما به متبعا
لسنته فقد فاز فوزا عظيما، و نال نيلا جسيما.
و لذا قال النبي صلى الله عليه و آله: «من جعل قاضيا ذبح بغير سكين » (3) .
و قال امير المؤمنين عليه السلام في رواية اسحاق بن عمار: «يا شريح، قد جلست
مجلسا لا يجلسه الا نبي او وصي نبي او شقي » (4) .
و قال ابو عبد الله عليه السلام-كما في مرفوعة البرقي-: «القضاة اربعة، ثلاثة في
النار و واحد في الجنة: رجل قضى بجور و هو يعلم فهو في النار، و رجل قضى بجور و هو
لا يعلم انه قضى بجور فهو في النار، و رجل قضى بحق و هو لا يعلم فهو في النار، و رجل
قضى بحق و هو يعلم فهو في الجنة » (5) .
و في مرسلة الفقيه: «من حكم في درهمين بغير ما انزل الله عز و جل فقد كفر بالله » .
و في اخرى: «من حكم في درهمين فاخطا كفر» .
و في ثالثة: «اذا كان الحاكم يقول لمن عن يمينه و لمن عن يساره: ما ترى؟ ما
تقول؟ فعلى ذلك لعنة الله و الملائكة و الناس اجمعين » (6) .
و في صحيحة ابي بصير: «من حكم في درهمين بغير ما انزل الله فهو كافر بالله
العظيم » (7) .
و في رواية انس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه و آله: «لسان القاضي بين جمرتين
من نار حتى يقضي بين الناس، فاما في الجنة، و اما الى النار» (8) .
و في رواية سعيد بن ابي الخضيب: انه قال ابو عبد الله عليه السلام لابن ابي ليلى
القاضي: «ما تقول اذا جي ء بارض من فضة و سماء من فضة، ثم اخذ رسول الله بيدك
فاوقفك بين يدي ربك، فقال: يا رب ان هذا قضى بغير ما قضيت؟ » (9) الحديث، الى غير
ذلك.
المسالة الثالثة:
القضاء واجب على اهله، بحق النيابة للامام في زمان الغيبة في الجملة باجماع
الامة، بل الضرورة الدينية.
لتوقف نظام نوع الانسان عليه.
و لان الظلم من طبائع هذه الاشخاص و اختلاف نفوسهم المجبولة على محبة الترفع
و التغلب و ارادة العلو و الفساد في الارض «و لو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض
لفسدت الارض » (10) «و ان كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض » (11) ، فلا بد من حاكم
بينهم ينتصف من الظالم للمظلوم و يردعه عن ظلمه.
و لما يترتب من الامر بالمعروف و النهي عن المنكر.
و للامر به في الكتاب و السنة، قال الله سبحانه: «يا داود انا جعلناك خليفة في
الارض فاحكم بين الناس بالحق » (12) .
و قال تعالى شانه: «انا انزلنا عليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما اريك
الله » (13) .
و في رواية معلى بن خنيس: «و امرت الائمة ان يحكموا بالعدل، و امر الناس ان
يتبعوهم » (14) .
و في مرسلة ابن ابي عمير: «ما تقدست امة لم يؤخذ لضعيفها من قويها بحقه غير متعتع » (15) ،
و غير ذلك من الاخبار.
المسالة الرابعة:
ان القابل للحكومة و الاهل للقضاء في البلد او في مكان لم يتعسر الوصول اليه اما
واحد باعتقاد ذلك القابل و سائر اهل البلد بعد بذل جهدهم، او متعدد.
فعلى الاول: يكون القضاء واجبا عينيا على ذلك القابل، و الوجه ظاهر.
و على الثاني: فاما يكون القابل متعددا باعتقاد الجميع، او لا يكون كذلك.
فعلى الاول: يكون القضاء على كل من المتعددين واجبا كفائيا، و وجهه ايضا ظاهر.
و على الثاني: فاما يكون الاهل-باعتقاد واحد ممن له الاهلية- متعددا، دون
اعتقاد الرعية، بل هم لا يعتقدون الاهلية الا لهذا الشخص.
او يكون بالعكس، اي لا يعتقد ذلك الاهل اهلية غير نفسه، و الرعية يعتقدون اهلية غيره
ايضا.
فعلى الاول: فان علم ذلك الاهل ان عدم اعتقاد المعتقدين للغير ليس مستندا الى
تقصيرهم في الفحص، بل هو اما منبعث عن الفحص، او هم قاصرون عن الفحص-اي غير متمكنين
من المعرفة، لعدم شياع و استفاضة مفيدين للعلم لكل احد، و عدم دليل آخر لهم-فيكون
القضاء عليه واجبا عينيا، للانحصار فيه حقيقة، لانه لا يكفي في الاهل وجوده الواقعي،
بل اللازم وجوده بحسب علم المكلف.
و ان علم ان عدم اعتقادهم في الغير ناشى ء عن التقصير في الفحص مع تمكنهم منه، لا
يجب عليه عينا، بل يكون واجبا كفائيا عليه.
و على الثاني: فان لم يعلم انبعاث اعتقادهم عن تقصير او قصور، لا يجب عليه
ايضا عينا، بل يكون كفائيا، و ان علم ذلك يجب عليه عينا.
و منه يظهر الحكم في الصورتين الاخيرتين اذا اختلفت الرعية في اعتقاد الغير
و عدمه، فتكون العينية و الكفائية لذلك الاهل بالنسبة الى القضاء لكل بعض كما ذكر.
و ان كان هناك اهل للقضاء باعتقاد نفسه دون اعتقاد الرعية كلا او بعضا، فيعتقدون
عدم اهليته اما علما او عدالة، او لا يعتقدون اهليته:
فان علم ذلك الاهل ان اعتقادهم العدم او عدم اعتقادهم منبعث عن الفحص و السعي،
لا يجب عليه قضاؤهم اصلا، لان حكمه ليس نافذا عليهم شرعا، فلا يترتب عليه اثر،
بل ربما يحرم عليه لو علم عملهم بحكمه لعدم المبالاة في الدين، لكونه اعانة عليهم
في تاثيمهم، بل هو ليس اهلا شرعا، اذ عرفت انه من كان كذلك باعتقاد المكلف.
بل و كذلك الحكم اذا لم يعلم ذلك، او علم انبعاثه عن التقصير او القصور، لانهم
ما داموا كذلك لا يجب عليهم قبول حكمه، بل لا يجوز لهم، فتامل.
المسالة الخامسة:
وجوب القضاء على من له الاهلية -عينا او كفاية على التفصيل المتقدم-انما هو بعد
الترافع اليه، فلا يجب بدونه، للاصل، و عدم الدليل..فليس عليه الفحص عن وجود
التخالف و التنازع بين الناس، و لا عليه المحاكمة لو علمه و لم يترافع اليه.
نعم، لو علم وجود النزاع و التشاجر، و علم ظلم احدهما على الآخر عدوانا او جهلا
بالمسالة، يجب عليه رفع النزاع باي نحو كان من باب النهي عن المنكر، و كذا لو علم
ترتب منكر آخر على تنازعهم.
و اذا ترافعا اليه، او طلبه المدعي-مع اجتماع شرائط الوجوب كما تقدم-يجب
عليه عينا مع الانحصار، و كفاية مع التعدد.
و لا يجب عينا عليه مع التعدد باختيار المتداعيين او المدعي اياه، للاصل، و عدم
الدليل.
نعم، لو لم يعلما او احدهما التعدد، يجب عليه احد الامرين: اما القضاء، او
الارشاد الى التعدد.
و لو لم يرضيا او المدعي منهما بالترافع الى غيره:
فان كان لادعائه العلم بعدم اهلية الغير، يجب عينا عليه ان لم يمكن ردعه عن
اعتقاده، و ان جوزه يجب عليه اما اثبات اهليته له او الحكم.
و ان كان لعدم علمه بالاهلية، يجب عليه اما الحكم او امرهما بالفحص عن حاله مع
امكانه..بل يمكن ان يقال بعدم وجوب شي ء عليه اذا علم استناد عدم علمهما الى تقصير.
و لو لم يرضيا بالفحص او بالترافع الى الغير مع العلم بالاهلية ففيه اشكال،
سواء لم يعلم ذلك الغير بالتنازع بينهما و مطالبة الحق و لم يمكن له اعلامه، او
علم به الغير ايضا، او امكن اعلامه و لكن لم يترافع اليه المدعي، و الاصل يقتضي
عدم العينية، و لا اثم على احد، لتقصير المتداعيين.
المسالة السادسة:
على العينية او الكفائية، هل هو على الفور، ام يجوز التراخي؟
الظاهر: عدم الفورية، للاصل، و الاجماع، و ما ورد من بعض قضايا امير المؤمنين
عليه السلام من تاخير الحكم و الدخول في الصلاة او الى الغد.
نعم، الظاهر عدم جواز التاخير بقدر يوجب تضييع حق لو كان.
و الاولى انه لو اراد التاخير بدون عذر يستمهل من المدعي.
ثم الوجوب عينا او كفاية انما هو مع احتمال نفوذ حكمه و عدم مظنة الضرر فيه، و
الا لم يجب، و الوجه ظاهر.
تعليقات:
1) الكافي 7: 410-1، الفقيه 3: 5-13، التهذيب 6: 222-528، الوسائل 27: 224 ابواب
آداب القاضي ب 9 ح 1.
2) كنز العمال 6: 99-15015، غوالي اللئالي 3: 515-1.
3) المقنعة: 721، الوسائل 27: 19 ابواب صفات القاضي ب 3 ح 8.
4) الكافي 7: 406-2، الفقيه 3: 4-8، المقنع: 2، التهذيب 6: 217-509الوسائل 27: 17
ابواب صفات القاضي ب 3 ح 2.
5) الكافي 7: 407-1، الفقيه 3: 3-6، المقنعة: 722، التهذيب 6: 218-513، الوسائل 27: 22
ابواب صفات القاضي ب 4 ح 6.
6) الفقيه 3: 3-6، و ص 5 ح 14، و ص 7 ح 20.
7) الكافي 7: 408-2، التهذيب 6: 221-523، الوسائل 27: 31 ابواب صفات القاضي ب 5 ح
2.
8) التهذيب 6: 292-808، الوسائل 27: 214 ابواب آداب القاضي ب 2 ح 3.
9) الكافي 7: 408-5، التهذيب 6: 220-521، الوسائل 27: 19 ابواب صفات القاضي ب 3 ح
9، بتفاوت يسير فيها.
10) البقرة: 251.
11) سورة ص: 24.
12) سورة ص: 26.
13) النساء: 105.
14) الفقيه 3: 2-2، التهذيب 6: 223-533، الوسائل 27: 14 ابواب صفات القاضي ب 1 ح 6.
15) الكافي 5: 56-2، التهذيب 6: 180-371، الوسائل 16: 120 ابواب الامر و النهي ب
1 ح 9، غير متعتع: اي من غير ان يصيبه اذى يقلقه او يزعجه (مجمع البحرين 3: 309) و
في التهذيب و نسخة من الوسائل: متضع، و في اخرى منها: متصنع.