علم الشريعة بالذات , هو الاساس لامكان الحياة المعنوية التي هي سعادة الوجود و البقا مع الخلود.(يا ايها الذين آمنوا استجيبوا للّه و للرسول اذا دعاكم لما يحييكم ) ((48)) .(لـقـد مـن اللّه عـلى المؤمنين اذ بعث فيهم رسولا من انفسهم يتلو عليهم آياته و يزكيهم و يعلمهم
الكتاب و الحكمة و ان كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) ((49)) .فهنا قد لوحظ الما ـ وهو اصل الحياة ـ في مفهومه العام المنتزع منه الشامل للعلم ,فيعم الحياة المادية
و المعنوية .و ايـضـا قـولـه تعالى : (فلينظر الا نسان الى طعامه ) ((50)) , اي فليمعن النظر في طعامه , كيف
عـملت الطبيعة في تهيئته و تمهيد امكان الحصول عليه , و لم ياته عفوا, و من غير سابقة مقدمات و
تـمهيدات لو امعن النظر فيها,لعرف مقدار فضله تعالى عليه , و لطفه و رحمته , و بذلك يكون تناول
الطعام له سائغا, و مستدعيا للقيام بالشكرالواجب .هـذا, و قـد روى ثـقـة الاسلام الكليني باسناده الى زيد الشحام , قال : سالت الامام جعفر بن محمد
الصادق (ع )قلت : ما طعامه ؟ قال : ((علمه الذي ياخذه عمن ياخذه )) ((51)) .والـمـنـاسبة هنا ـ ايضا ـ ظاهرة , لان العلم غذا الروح , و لا بد من الاحتياط في الاخذ من منابعه
الاصيلة , و لاسيما علم الشريعة و احكام الدين الحنيف .و ثانيا: مراعاة النظم و الدقة في الغا الخصوصيات المكتنفة بالكلام , ليخلص صفوه و يجلو لبابه في
مـفهومه العام , الامر الذي يكفله قانون ((السبر و التقسيم )) من قوانين علم الميزان (علم المنطق )
و الـمـعـبـر عنه في علم الاصول : بتنقيح المناط, الذي يستعمله الفقها للوقوف على الملاك القطعي
لحكم شرعي , ليدور التكليف او الوضع معه نفيا و اثباتا, و لتكون العبرة بعموم الفحوى المستفاد,لا
بخصوص العنوان الوارد في لسان الدليل و هذا امر معروف في الفقه , و له شرائط معروفة .و مـثـال تطبيقه على معنى قرآني , قوله تعالى ـ حكاية عن موسى (ع ) ـ : (قال رب بما انعمت على
فلن اكون ظهيرا للمجرمين ) ((52)) .هـذه قـولـة نبي اللّه موسى (ع ) قالها تعهدا منه للّه تعالى , تجاه ما انعم عليه من البسطة في العلم و
الـجـسم : (و لمابلغ اشده واستوى آتيناه حكما و علما و كذلك نجزي المحسنين ) ((53)) قضى
عـلـى عدوله بوكزة وكزه بها, فحسب انه قد فرط منه ما لا ينبغي له , فاستغفر ربه فغفر له فقال
ذلـك تـعـهـدا منه للّه , ان لايستخدم قواه و قدره الذاتية , والتي منحه اللّه بها, في سبيل الفساد في
الارض , و لا يجعل ما آتاه اللّه من امكانات معنوية و مادية في خدمة اهل الاجرام .هذا ما يخص الاية في ظاهر تعبيرها بالذات .و هـل هـذا امـر يـخص موسى (ع ) لكونه نبيا و من الصالحين , ام هو حكم عقلي بات يشمل عامة
اصحاب القدرات , من علما و ادبا و حكما و ارباب صنائع و فنون , و كل من آتاه اللّه العلم و الحكمة
و فـصـل الـخـطـاب ؟ لا ينبغي في شريعة العقل ان يجعل ذلك ذريعة سهلة في متناول اهل العبث و
الاستكبار في الارض ,بل يجعلها وسيلة ناجحة في سبيل اسعاد العباد و احيا البلاد (هو انشاكم من
الا رض و استعمركم فيها) ((54)) .و هذا الفحوى العام للاية الكريمة انما يعرف وفق قانون ((السبر و التقسيم )) و الغاالخصوصيات
المكتنفة بالموضوع , فيتنقح ملاك الحكم العام .وفـي الـقرآن كثير من هذا القبيل , انما الشان في امعان النظر و التدبر في الذكر الحكيم , و بذلك
يبدو وجه استفادة فرض الاخماس من آية الغنيمة , و دفع الضرائب من آية الانفاق في سبيل اللّه .
مزاعم في التاويل
هـنـاك مـن حسب من تاويل القرآن شيئا ورا المفاهيم الذهنية او التعابير الكلامية , و كان من نمط الاعـيـان الخارجية , و كان ما ورد في القرآن من حكم و آداب و تكاليف و احكام كلها تعود اليه , اذتنتزع منه و تنتهي اليه في نهاية المطاف , فكان ذلك تاويلا للقرآن في جميع آياته الكريمة .و قـد اخـتـلـفـوا فـي تـبيين تلك الحقيقة التي تعود اليها جميع الحقائق القرآنية في اصول معارفه
والاحكام :.ذكـر ابـن تـيمية ـ في رسالة وضعها بشان المتشابه و التاويل ـ : ان التاويل في عرف المتاخرين
صـرف الـلـفظ عن معناه الراجح الى معنى مرجوح , لدليل يقترن به فالتاويل ـ على هذا ـ يحتاج الى
دليل , والمتاول عليه وظيفتان : بيان احتمال اللفظ للمعنى الذي يدعيه , و بيان الدليل الموجب للصرف
اليه عن المعنى الظاهر.قـال : و امـا التاويل ـ في عرف السلف ـ فله معينان : احدهما: ما يرادف التفسير والبيان , و هو الذي
عناه مجاهد بقوله : ان العلما يعلمون تاويل القرآن , اي تفسيره و تبيينه .و الثاني : نفس المراد بالكلام , ان كان طلبا فتاويله نفس العمل المطلوب , و ان كان خبرا فتاويله نفس
الشي المخبر به .قـال : و بـيـن هـذا الـمعنى ـ الاخير ـ والذي قبله ـ الذي جا اولا في عرف السلف , والذي جا في
عرف المتاخرين ـ بون , فان الذي قبله يكون التاويل فيه من باب العلم و الكلام كالتفسير و الشرح و
الايضاح ويكون وجود التاويل في القلب و اللسان , له الوجود الذهني و اللفظي و الرسمي .و امـا هـذا ـ المعنى الثاني في عرف السلف ـ فالتاويل فيه نفس الامور الموجودة في الخارج , سوا
كانت ماضية او مستقبلة فاذا قيل : طلعت الشمس , فتاويل هذا نفس طلوعها.قـال : و هـذا الـوضـع و الـعـرف الثالث ـ الذي جا ثانيا في عرف السلف ـ هو لغة القرآن التي نزل
بها ((55)) .و قـال فـي تـفـسـير سورة الاخلاص ـ بعد كلام تفصيلي له عن تاويل المتشابه من الايات , و ان
الـراسـخـيـن فـي العلم يعلمون تاويله , و استعظام ان يكون جبرائيل و محمد(ص ) و الصحابة و
التابعون لهم باحسان و ائمة المسلمين لا يعرفون تاويل متشابه القرآن , و يكون اللّه تعالى قد استاثر
بـعـلـم مـعاني هذه الايات كما استاثربعلم الساعة , و انهم جميعا كانوا يقراون الفاظا لا يفهمون لها
معنى , كما يقرا احدنا كلاما ليس من لغته فلا يعرف معناه , من قال ذلك فقد كذب على القوم , و الماثور
عـنهم متواترا يناقض هذا الزعم , و انهم يفهمون معنى المتشابه كما يفهمون معنى المحكم ـ قال بعد
ذلك :.فان قيل : هذا يقدح فيما ذكرتم من الفرق بين التاويل الذي يراد به التفسير, و بين التاويل الذي في
كتاب اللّه .قـيـل : لا يـقدح في ذلك , فان معرفة تفسير اللفظ و معناه و تصوره في القلب , غير معرفة الحقيقة
الموجودة في الخارج , المرادة بذلك الكلام .فـان الـشـي لـه وجود في الاعيان , و وجود في الاذهان , و وجود في اللسان , و وجود في البيان
فالكلام لفظ له معنى في القلب , و يكتب ذلك اللفظ بالخط فاذا عرف الكلام و تصور معناه في القلب و
عـبـر عنه باللسان , فهذاغير الحقيقة الموجودة في الخارج , و ليس كل من عرف الاول عرف عين
الثاني .مـثـال ذلـك : ان اهل الكتاب يعلمون ما في كتبهم من صفة النبي (ص ) و خبره و نعته , و هذا معرفة
الـكـلام و معناه وتفسيره , و تاويل ذلك هو نفس محمد المبعوث , فالمعرفة بعينه معرفة تاويل ذلك
الكلام .و كـذلك الانسان قد يعرف الحج و المشاعر, كالبيت و المساجد و منى و عرفة و مزدلفة , و يفهم
معنى ذلك ولايعرف الامكنة حتى يشاهدها, فيعرف ان الكعبة المشاهدة هي المذكورة في قوله : (و
للّه على الناس حج البيت ) و كذلك ارض عرفات و غيرها.و كذلك الرؤيا يراها الرجل , و يذكر له العابر تاويلها فيفهمه و يتصوره , ثم اذا كان ذلك فهو تاويل
الرؤيا, ليس تاويلها نفس علمه و تصوره و كلامه , و لهذا قال يوسف الصديق : (هذا تاويل رؤياي من
قبل ) و قال : (لا ياتيكما طعام ترزقانه الا نباتكما بتاويله قبل ان ياتيكما) فقد انباهما بالتاويل قبل ان
ياتي التاويل , فنحن نعلم تاويل ما ذكر اللّه في القرآن من الوعد و الوعيد, و ان كنا لا نعرف متى يقع
هذا التاويل المذكور في قوله تعالى : (هل ينظرون الا تاويله يوم ياتي تاويله ) ((56)) .و قـد اشـاد الـسيد محمد رشيد رضا (منشئ مجلة المنار المصرية ) من هذه النظرة التيمية بشان
تـاويل القرآن , واعجبته غاية الاعجاب قال ـ بعد ان نقل عن شيخه الاستاذ محمد عبده , ان التاويل
بـمـعـنى ما يؤول اليه الشي وينطبق عليه , لا بمعنى ما يفسر به ((57)) ـ : ليس في كتب التفسير
المتداولة ما يروي الغليل في هذه المسالة , و ماذكرناه آنفا هو صفوة ما قالوه , و خيرة كلام الاستاذ
الامام و قد راينا ان نرجع بعد كتابته الى كلام في المتشابه والتاويل , لشيخ الاسلام احمد بن تيمية ,
فـرجعنا اليه و قراناه بامعان , فاذا هو منتهى التحقيق و العرفان , و البيان الذي ليس وراه بيان , اثبت
فيه انه ليس في القرآن كلام لايفهم معناه , و ان المتشابه اضافي اذا اشتبه فيه الضعيف لا يشتبه فيه
الـراسـخ , و ان الـتاويل الذي لا يعلمه الا اللّه تعالى هو ما تؤول اليه تلك الايات في الواقع ,ككيفية
صـفـاتـه تـعـالـى , و كيفية عالم الغيب , و كيفية قدرته تعالى و تعلقها بالايجاد والاعدام , و كيفية
استوائه على العرش و لا كيفية عذاب اهل النار, و لا نعيم اهل الجنة , كما قال تعالى :(فلا تعلم نفس
مـا اخـفي لهم من قرة اعين ) ((58)) فليست نار الاخرة كنار الدنيا, و انما هي شي آخر و ليست
ثـمـرات الـجنة و لبنها وعسلها من جنس المعهود لنا في هذا العالم , و انما هو شي آخر يليق بذلك
العالم و يناسبه .قـال : و انـنـا نـبين ذلك بالاطناب الذي يحتمله المقام , مستمدين من كلام هذا الحبر العظيم , ناقلين
بعض ماكتبه ((59)) و جعل ينقل ما سرده ابن تيمية باسهاب .و هـذا الـذي ذكـره ابن تيمية و اشاد به رشيدرضا, لا يعدو ما يعود اليه امر الشي , اخذا بالمفهوم
اللغوي لمادة التاويل اما العين الخارجية بالذات فلعله من اشتباه المصداق بالمفهوم , فان الوجود العيني
لـلاشـيا هي عين تشخصاتها المعبر عنها بالمصاديق الخارجية , و لم يعهد اطلاق لفظ ((التاويل ))
على المصداق في متعارف الاستعمال الا ان يكون من عرفهما الخاص , و لا مشاحة في الاصطلاح .و على اى تقدير, فانهما لم ياتيا بشي جديد, فان مسالة الوجودات الاربعة للاشيا(الذهني و اللفظي
و الكتبي و العيني ) امر تعارف عليه ارباب المنطق منذ عهدقديم , الا ان الشي الذي لم يتعارف عليه
هـو اطلاق اسم ((التاويل )) على العين الخارجية , باعتبارها مصداقاللوجودات الثلاثة المنتزعة
عنها, سوى كونه مصطلحا جديدا غير معروف .و لسيدنا العلامة الطباطبائي كلام تحقيقي لطيف حول مسالة التاويل , يراه متغايرا مع المفاهيم , بعيدا
عن جنس الالفاظ و المعاني و التعابير, و انما هي حقائق راهنة , موطنها خارج الاذهان و العبارات .انه (ره ) تعرض لكلام ابن تيمية , فصححه من جهة , و خطاه من جهة اخرى , صححه من جهة قوله :
بـشـمول التاويل لجميع آي القرآن , محكمه و متشابهه , و قوله : بانه خارج الاذهان و العبارات لكن
خـطـاه في حصره للتاويل في العين الخارجية البحت , فانه مصداق و ليس بتاويل انما التاويل حقائق
راهـنـة , هـي مصالح واقعية واهداف و غايات مقصودة من ورا التكاليف والاحكام , و كذا الحكم و
المواعظ والاداب , و حتى القصص والاخبار والاثار التي جات في القرآن .قال ـ مناقشا لراي ابن تيمية ـ:.((انـه و ان اصاب في بعض كلامه , لكنه اخطا في بعضه الاخر انه اصاب في القول : بان التاويل لا
يـختص بالمتشابه , بل هو عام لجميع القرآن , و كذا القول : بان التاويل ليس من سنخ المدلول اللفظي ,
بـل هو امر خارجي يبتنى عليه الكلام لكنه اخطا في عد كل امر خارجي مرتبط بمضمون الكلام ـ
حتى مصاديق الاخبار الحاكية عن الحوادث الماضية والمستقبلة ـ تاويلا للكلام )) ((60)) .ثـم قال : ((الحق في تفسير التاويل انه الحقيقة الواقعية التي تستند اليها البيانات القرآنية , من حكم
او مـوعظة اوحكمة , و انه موجود لجميع الايات القرآنية محكمها و متشابهها, و انه ليس من قبيل
المفاهيم المدلول عليهابالالفاظ, بل هي من الامور العينية المتعالية من ان يحيط بها شبكات الالفاظ و
انـما قيدها اللّه سبحانه بقيدالالفاظ لتقريبها من اذهاننا بعض التقريب , فهى كالامثال تضرب ليقرب
بـها المقاصد و توضح , بحسب مايناسب فهم السامع , كما قال تعالى : (والكتاب المبين انا جعلناه قرآنا
عربيا لعلكم تعقلون وانه في ام الكتاب لدينا لعلي حكيم ) ((61)) .و قال ـ في شرح الاية ـ:.((ان هـنـاك كـتابا مبينا عرض عليه جعله مقروا عربيا, و انما البس لباس القراة و العربية ليعقله
الناس , و الا فانه ـوهو في ام الكتاب ـ عند اللّه على لا تصعد اليه العقول , حكيم لا يوجد فيه فصل
و فـصل فالكتاب المبين ـ في الاية ـ هو اصل القرآن العربي المبين , و للقرآن موقع هو في الكتاب
المكنون , و ان التنزيل حصل بعده , و هوالذي عبر عنه بام الكتاب و باللوح المحفوظ فالكتاب المبين
الـذي هو اصل القرآن و حكمه الخالي عن التفصيل , امر ورا هذا المنزل , و انما هذا بمنزلة اللباس
لـذاك ان هذا المعنى , اعني كون القرآن في مرتبة التنزيل بالنسبة الى الكتاب المبين , و نحن نسميه
بـحقيقة الكتاب , بمنزلة اللباس من المتلبس , و بمنزلة المثال من الحقيقة , و بمنزلة المثل من الغرض
المقصود بالكلام )) ((62)) .و اضـاف : (( فـالـحقيقة الخارجية التي توجب تشريع حكم من الاحكام او بيان معرفة من المعارف
الالهية او وقوع حادثة هي مضمون قصة من القصص القرآنية , و ان لم تكن امرا يدل عليه بالمطابقة
نـفـس الامـر و النهي او البيان او الواقعة الكذائية , الا ان الحكم او البيان او الحادثة , لما كان كل
منهاينشا منها و يظهر منها, فهو اثرها الحاكي لها بنحو من الحكاية والاشارة )) ((63)) .و اخيرا لخص كلامه في بيان التاويل بما يلي :.((الـتـاويـل فـي عرف القرآن هو الحقيقة التي يتضمنها الشي و يؤول اليها و يبتنى عليها, كتاويل
الـرؤيـا, و هـوتـعـبـيرها, و تاويل الحكم , و هو ملاكه , و تاويل الفعل , و هو مصلحته و غايته
الحقيقية , و تاويل الواقعة , و هوعلتها الواقعية , و هكذا)) ((64)) .غير ان وقفة فاحصة عند كلام هذا المحقق العلامة , تجعلنا نتردد في التوافق معه , انه (ره ) لو كان
اقـتـصـر عـلـى مـالـخـصه اخيرا, من جعل ملاكات الاحكام و المصالح و الغايات الملحوظة في
التشريعات و التكاليف تاويلا, اي اصلا لها و مرجعها الاساسي لكل ذلك المذكور, لامكننا مرافقته .لـكنه توسع في ذلك , و فرض من تاويل آي القرآن كلها امرا بسيطا ذا احكام رصين , ليس فيه شي
مـن هـذه الـتجزئة و التفصيل الموجود في القرآن الحاضر الذي يتداوله المسلمون منذ اول يومهم
فـالـى مـا لا نـهـاية , فان ذاك عار عن كونه آية آية و سورة سورة , وجودا واحدا بسيطا صرفا,
مستقرا في محل ارفع , في كتاب مكنون لايمسه الا المطهرون .و فرض من القرآن ذا وجودين : وجودا ظاهريا يتشكل في الفاظ و عبارات ذوات مفاهيم معروفة ,
و هو الذي يتلى و يقرا و يدرس , و يتداوله الناس حسبما الفوه طوال عهد الاسلام .و وجـودا آخـر باطنيا, هو وجوده الحقيقي الاصيل , المترفع عن ان تناله العقول والاحلام , فضلا
عن الاوهام , و ذلك الوجود الحقيقي الرفيع هو تاويل القرآن , اي اصله و مرجعه الاصيل .قال ـ بصدد بيان نزول القرآن دفعة واحدة في ليلة القدر من شهر رمضان , و انه لم يكن هذا القرآن
المتلو الذي بايدي الناس , فانه نزل تدريجا بلا ريب ـ:.((و الـذي يـعـطـيه التدبر في آيات الكتاب امر آخر, فان الايات الناطقة بنزول القرآن في شهر
رمضان او في ليلة القدر انما عبرت عن ذلك بلفظ الانزال الدال على الدفعة , دون التنزيل , و اعتبار
الدفعة اما بلحاظ المجموع اوالبعض , و اما لكون الكتاب ذا حقيقة اخرى ورا ما نفهمه بالفهم العادي ,
الذي يقضي فيه بالتفرق و التفصيل والانبساط و التدريج , هو المصحح لكونه واحدا غير تدريجي
و نـازلا بـالانـزال دون الـتـنـزيل , و هذا هو اللائح من الايات الكريمة : (كتاب احكمت آياته ثم
فـصلت ) ((65)) فان هذا الاحكام مقابل التفصيل , و التفصيل هو جعله فصلا فصلا و قطعة قطعة ,
فـالاحـكـام كـونه بحيث لا يتفصل فيه جز من جز, و لا يتميز بعض من بعض , لرجوعه الى معنى
واحـد لا اجزا فيه و لا فصول و الاية ناطقة بان هذا التفصيل المشاهد في القرآن , انماطرا عليه
بـعد كونه محكما غير مفصل , و اوضح منه قوله تعالى : (حم والكتاب المبين انا جعلناه قرآنا عربيا
لعلكم تعقلون و انه في ام الكتاب لدينا لعلي حكيم ) ((66)) فانه ظاهر في ان هناك كتابا مبينا عرض
عـلـيه جعله مقروا عربيا, و انما البس لباس القراة و العربية ليعقله الناس , و الا فانه في ام الكتاب
عـنـد اللّه عـلـى لا يـصـعـد اليه العقول , حكيم لا يوجد فيه فصل فصل فالكتاب المبين الذي هو
اصـل الـقـرآن و حـكـمـه الـخـالـي عن التفصيل امر ورا هذا المنزل و انما هذا بمنزلة اللباس
لذاك ((67)) .ثم احال تمام الكلام الى بيانه الاتي حول آية المتشابهات , قال هناك :.((الـحـق فـي تفسير التاويل انه الحقيقة الواقعية التي تستند اليها البيانات القرآنية , و انه موجود
لـجـمـيع الايات , وانه ليس من قبيل المفاهيم بل من الامور العينية المتعالية من ان يحيط بها شبكات
الالـفاظ, و انما قيدها اللّه بقيدالالفاظ لتقريبها من اذهاننا, قال تعالى : (انا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم
تـعـقـلـون و انه في ام الكتاب لدينا لعلي حكيم ) ((68)) و في القرآن تصريحات و تلويحات بهذا
المعنى ((69)) .و بـعد, فلنتسال : ما هو السبب الداعي لفرض وجودين للقرآن الكريم : وجودا لديه تعالى في كتاب
مـكـنـون , لايـمـسـه الا المطهرون , عاريا عن التجزئة و التفصيل , متعاليا عن شبكات الالفاظ و
العبارات , و وجودا ارضيا نزل تدريجا لهداية الناس , و البس لباس العربية لعلهم يعقلونه ؟ و لـعـلـه لـلـنظر الى قوله تعالى : (شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن ) ((70)) و قوله :(حم و
الـكـتـاب الـمـبـيـن انـا انـزلـنـاه فـي ليلة مباركة انا كنا منذرين فيها يفرق كل امر حكيم امرا
من عندنا) ((71)) و قوله :(انا انزلناه في ليلة القدر ) ((72)) .و قـد ورد فـي الحديث ـ من طرق الفريقين ـ : ان القرآن نزل جملة واحدة في ليلة القدر, ثم نزل
تدريجا طوال عشرين عاما)) ((73)) .و لذلك فرض علامتنا الطباطبائي وجودين للقرآن الكريم و نزولين و كان نزوله الدفعي بوجوده
البسيط الذي كان بمنزلة الروح لهذا القرآن , النازل تدريجا بوجوده التفصيلي .و بـذلـك نراه قد جمع بين ظواهر الايات و دلالة الروايات , و ايد ذلك بالفارق اللغوي بين لفظتي
((الانزال )) و((التنزيل )).لكن تشريف شهر رمضان انما كان بنزول هذا القرآن المعهود لدى المخاطبين بهذا الخطاب , لا بامر
لا يعرفونه عـلـى ان الـقـرآن الـنـازل فـي هـذا الـشـهـر, قد وصف بكونه (هدى للناس و بينات من الهدى
والـفـرقـان ) ((74)) و معلوم ان الهداية و البينات , انما هي بهذا الكتاب الذي يتداولونه , لا بكتاب
مكنون عند اللّه محفوظ لديه في مكان على لا تناله الايدي و الابصار.كـمـا ان الـذي يـبتغيه اهل الزيغ لاجل الفساد في الارض , هو تفسير الايات على غيروجهها, لا
وجودا آخر للقرآن , هو في اعلى عليين .فـقوله (ره ) :((و انه موجود لجميع الايات محكمها و متشابهها, و انه ليس من قبيل المفاهيم بل من
الامور العينية المتعالية من ان يحيط بها شبكات الالفاظ)) غير مفهوم لنا.والفرق بين ((الانزال )) و ((التنزيل )) امر ابدعه الراغب الاصبهاني , و لا شاهد له .قال : و انما خص لفظ الانزال دون التنزيل , لما روي ان القرآن نزل دفعة واحدة الى سما الدنيا, ثم
نـزل نجمافنجما و لفظ الانزال اعم من التنزيل , قال : (لو انزلنا هذا القران على جبل ) ((75)) و
لم يقل : لو نزلنا,تنبيها انا لو خولناه مرة ما خولناك مرارا.و يرد عليه ما حكاه اللّه عن قولة العرب : (لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة ) ((76)) .و كذلك قوله تعالى : (و قالوا لولا نزل عليه آية من ربه ) ((77)) .و قوله : (ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة ) ((78)) .و قوله : (ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه ) ((79)) .و قوله : (لنزلنا عليهم من السما ملكا رسولا) ((80)) .كما جمع بين التعبيرين بشان امر واحد في قوله تعالى : (وانزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل اليهم
و لعلهم يتفكرون ) ((81)) .كما جا استعمال ((الانزال )) بشان التدريجيات ايضا:.(انزل من السما ما فاخرج به من الثمرات رزقا لكم ) ((82)) .(هو الذي انزل عليك الكتاب منه آيات محكمات ) ((83)) .لان الـكتاب الذي منه محكم و متشابه , هو هذا الكتاب الذي نزل تدريجا (افغير اللّه ابتغي حكما و
هوالذي انزل اليكم الكتاب مفصلا) ((84)) , اذ الذي نزل مفصلا هو هذا القرآن الذي نزل منجما.و اخـيـرا فما هي الفائدة المتوخاة من ورا نزول القرآن دفعة واحدة الى السما الدنيا او الى السما
الرابعة , في البيت المعمور او بيت العزة ـ على الاختلاف في الفاظ الروايات ـ , ثم نزوله بعد ذلك
تدريجا في طول عهدالرسالة ؟.و هـل لـوجـود الـقرآن بوجوده البسيط الروحاني ـ في ذلك المكان الرفيع ـ فائدة تعودعلى اهل
السماوات او سكان الارضين ؟.و اجـاب الفخر الرازي عن ذلك , و علل وجود القرآن هناك , في مكان انزل من العرش و اقرب الى
الارض , ليسهل التناول منه لجبرائيل عند مسيس الحاجة ((85)) .و عـلـل بـعـض الاساتذة المعاصرين ذلك , بان الرابط بين ذلك القرآن المحفوظ لديه تعالى , و هذا
الـقـرآن الـمعروض على الناس , هو ((رابط العلية )) فكل ما في هذا القرآن من حكم و مواعظ و
آداب , و تعاليم و معارف و احكام , انما تنشا مما حواه ذلك القرآن , على بساطته و علو رفعته , فهذا
اشعاع من ذلك النور الساطع , و افاضة من ذلك المقام الرفيع ((86)) .غـيـر ان هـذا كله تكلف في التاويل , و تمحل في القول بلا دليل , و لعلنا في غنى عن البسط فيه و
التذييل .و امـا الايـات الـتي استندوا اليها لاثبات وجود آخر للقرآن محفوظ عنداللّه , في كتاب مكنون لا
يمسه الاالمطهرون فهي تعني امرا آخر غير ما راموه .و لـيعلم ان المقصود من الكتاب المكنون , هو: علم الل ه المخزون , المعبر عنه ب (اللوح المحفوظ)
ايضا, و هكذاالتعبير ب (ام الكتاب ) كناية عن علمه تعالى الذاتي الازلي , بما يكون مع الابد.و قـد ذكـر العلامة الطباطبائي ـ في تفسير سورة الرعد حديثا عن الامام الصادق (ع )قال : ((كل
امـر يريده اللّه , فهوفي علمه قبل ان يضعه , و ليس شي يبدو له الا و قد كان في علمه )) قال ذلك
تفسيرا لقوله تعالى : (يمحواللّه ما يشا و يثبت و عنده ام الكتاب ) ((87)) .فقوله تعالى : (و انه في ام الكتاب لدينا لعلي حكيم ) ((88)) يعني قضى اللّه في علمه الازلي الحتم
ان الـقـرآن ـ فـي مسيرته الخالدة ـ سوف يشغل مقاما عليا, مترفعا عن ان تناله ايدي السفها, حكيما
مستحكماقوائمه , لا يتضعضع و لا يتزلزل , يشق طريقه الى الامام بسلام ((89)) .و كـذا قـولـه : (بـل هـو قـرآن مـجـيـد فـي لـوح مـحفوظ) ((90)) اي هكذا قدر في علمه
تعالى المكنون ((91)) .و هكذا ذكر الطبرسي و غيره في تفسير قوله تعالى : (انه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه
الاالـمـطـهـرون ) ((92)) انـه اشارة الى مقامه الرفيع عند اللّه , و قد جرى في علمه تعالى انه
محفوظ عن مناوشة المناوئين .قـال سـيـد قطب : ((انه لقرآن كريم : كريم بمصدره , و كريم بذاته , و كريم باتجاهاته في كتاب
مـكنون : مصون , وتفسير ذلك في قوله تعالى بعده : لا يمسه الا المطهرون فقد زعم المشركون ان
الـشـيـاطـين تنزلت به , فهذا نفي لهذاالزعم فالشيطان لا يمس هذا الكتاب المكنون في علم اللّه و
حـفـظـه , انـما تنزل به الملائكة المطهرون , و لذلك قال ـ بعدها ـ : تنزيل من رب العالمين , اي لا
تنزيل من الشياطين )) ((93)) .
هل يعلم التاويل غير اللّه ؟
سـؤال اثـارتـه ظـاهـرة الـوقـف عـلـى ( الا اللّه ) من قوله تعالى : (و ما يعلم تاويله الا اللّه ) ثم الاستئناف لقوله : (و الراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا) ((94)) .و مـا ورد فـي بـعـض الاحاديث من اختصاص علم التاويل باللّه تعالى , و ان الراسخين في العلم لايـعـلـمـون تاويله , و انما يكلون علمه الى اللّه سبحانه , من ذلك ما ورد في خطبة الاشباح من كلام
مولانا اميرالمؤمنين (ع ):.((فـانـظـر ايها السائل , فما دلك القرآن عليه من صفته فائتم به واستضئ بنور هدايته , و ما كلفك
الـشـيطان علمه مماليس في الكتاب عليك فرضه , و لا في سنة النبى (ص )و ائمة الهدى اثره , فكل
علمه الى اللّه سبحانه فان ذلك منتهى حق اللّه عليك )).((و اعـلـم ان الـراسـخـيـن في العلم هم الذين اغناهم عن اقتحام السدد المضروبة دون الغيوب ,
الاقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب فمدح اللّه تعالى اعترافهم بالعجز عن تناول ما
لـم يـحيطوا به علما, و سمى تركهم التعمق فيما لم يكلفهم البحث عن كنهه رسوخا, فاقتصر على
ذلك , و لا تقدرعظمة اللّه سبحانه على قدر عقلك فتكون من الهالكين )) ((95)) .هـذه الـخـطـبة من جلائل الخطب و اعلاها سندا, فلا مغمز في صحة اسنادها, و انما الكلام في
فحوى المراد منها.و قد اجمع شراح النهج ((96)) على ان مراده (ع ) بهذا الكلام هو الصفات , و ان صفاته تعالى انما
يـجـب التعبد بها والتوقف فيها دون الولوج في معرفة كنهها, اذ لا سبيل الى معرفة حقيقة الصفات ,
كما لا سبيل الى معرفة حقيقة الذات .حيث قوله (ع ) : ((فما دلك القرآن من صفته فائتم به , و ما كلفك الشيطان علمه مما ليس في الكتاب
عليك فرضه )).اذ من وظيفتنا ان نصفه تعالى بما وصف به نفسه في كلامه : سميع بصير, حكيم عليم , حى قيوم و لم
نـكلف الولوج في معرفة حقائق هذه الصفات منسوبة الى اللّه تعالى , اذ ضربت دون معرفتهاالسدد و
الحجب , فلا سبيل الى بلوغها, فيجب التوقف دونها.اذن فـلا مـسـاس لكلامه (ع ) هنا, مع متشابهات الايات التي لاينبغي الجهل بها للراسخين في العلم ,
حيث تحليهم بحلية العلم هي التي مكنتهم من معرفة التنزيل و التاويل جميعا.نعم لا نتحاشا القول بانهم في بد مجابهتهم للمتشابهات يقفون لديها, وقفة المتامل فيها, حيث المتشابه
مـتـشـابه على الجميع على سوا, لولا انهم بفضل جهودهم في سبيل كشفها و ارجاعها الى محكمات
الايـات صـاروايـعـرفونها في نهاية المطاف فعجزهم البادئ كان من فضل رسوخهم في العلم , بان
الـمتشابه كلام صادر ممن صدرعنه المحكم , فزادت رغبتهم في معرفتها بالتامل فيها و الاستمداد
من اللّه في العلم بها, و من جد في امر وجده بعون اللّه .فـوجـه تـناسب استشهاده (ع ) بهذه الاية بشان الصفات محضا, هو العجز البادئ لدى المتشابهات ,
يقربه الراسخون في اول مجابهتهم للمتشابهات , و ان كان الامر يفترق في نهاية المطاف .قال ابن ابي الحديد: ان من الناس من وقف على قوله : (الا اللّه ) و منهم من لم يقف و هذا القول اقوى
من الاول , لانه اذا كان لا يعلم تاويل المتشابه الا اللّه لم يكن في انزاله و مخاطبة المكلفين به فائدة ,
بل يكون كخطاب العربي بالزنجية , و معلوم ان ذلك عيب قبيح .و امـا موضع (يقولون ) من الاعراب , فيمكن ان يكون نصبا على انه حال من الراسخين , و يمكن ان
يكون كلاما مستانفا, اي هؤلا العالمون بالتاويل , يقولون : آمنا به .و قـد روي عـن ابـن عـباس انه تاول آية , فقال قائل من الصحابة : ( و ما يعلم تاويله الا اللّه ) فقال
ابن عباس : (و الراسخون في العلم ) و انا من جملة الراسخين ((97)) .و نـحـن قـد تـكـلـمـنـا عـن هـذه الايـة بـتفصيل و توضيح , عند الكلام عن متشابهات القرآن ,
فراجع ((98)) .
هل التفسير توقيف ؟
ربـمـا كـان بعض السلف يحتشم عن القول في القرآن , خشية ان يكون قولا على اللّه بغير علم , او تـفسيرا برايه الممنوع شرعا و تبعهم على ذلك بعض الخلف , فامسكوا عن تفسير القرآن , سوى ماورد فيه اثر صحيح و نقل صريح .فقد اخرج الطبري باسناده الى ابي معمر, قال : قال ابوبكر: ((اي ارض تقلني و اى سما تظلني اذا
قـلـت فـي الـقـرآن مـا لا اعـلـم )), و فـي روايـة اخـرى ايـضـا عـنه : ((اذا قلت في القرآن
برايي )) ((99)) .و هذا عند ما سئل عن ((الاب )) في قوله تعالى : (و فاكهة و ابا, متاعا لكم و لانعامكم ) ((100)) ,
فقداخرج السيوطي باسناده الى ابراهيم التميمي , قال : سئل ابو بكر عن قوله تعالى : (و ابا), فقال :
((اى سماتظلني و اى ارض تقلني اذا قلت في كتاب اللّه ما لا اعلم )) ((101)) .و هكذا روي عن عمر انه جعل التكلم في الاية تكلفا يجب تركه و ايكاله الى اللّه , اخرج السيوطي
بـعدة اسانيدان عمر قرا على المنبر: (فانبتنا فيها حبا و عنبا و قضبا ـ الى قوله ـ و ابا) قال : كل
هذا قد عرفناه , فماالاب ؟ ثم رفض عصا كانت في يده , فقال : هذا لعمرو اللّه هو التكلف , فما عليك
ان لا تـدري مـا الاب , اتـبـعـوامـا بـين لكم هداه من الكتاب فاعملوا به , و ما لم تعرفوه فكلوه الى
ربه ((102)) .و عن عبيد اللّه بن عمر قال : لقد ادركت فقها المدينة , و انهم ليعظمون القول في التفسير, منهم سالم
بن عبداللّه , و القاسم بن محمد, و سعيد بن المسيب , و نافع و عن يحيى بن سعيد, قال : سمعت رجلا
يسال سعيد بن المسيب عن آية من القرآن , فقال : لا اقول في القرآن شيئا و في رواية اخرى : انه كان
اذا سئل عن تفسير آية من القرآن قال : انا لا اقول في القرآن شيئا, و كان لا يتكلم الا في المعلوم من
القرآن قال يزيد: و اذا سالنا سعيداعن تفسير آية من القرآن , سكت كان لم يسمع .و عن ابن سيرين , قال : سالت عبيدة السلماني عن آية , قال : عليك بالسداد, فقد ذهب الذين علموا فيم
انزل القرآن .و جا طلق بن حبيب الى جندب بن عبد اللّه , فساله عن آية من القرآن , فقال له : احرج عليك ان كنت
مسلما,لما قمت عني , او قال : ان تجالسني .و روي عن الشعبي , قال : ثلاث لا اقول فيهن حتى اموت : القرآن , و الروح , و الراي , و كان يقول :
و اللّه ما من آية الا قد سالت عنها, و لكنها الرواية عن اللّه .و روي عنه انه قال : ادركتهم ـ اي الاوائل ـ و ما شي ابغض اليهم ان يسالوا عنه و لاهم له اهيب ,
من القرآن ذكره صاحب كتاب المباني .و رووا فـي ذلك بطريق ضعيف عن عائشة , قالت : ما كان النبى (ص ) يفسر شيئا من القرآن الا آيا
تعد, علمهن اياه جبريل ((103)) , اي انه (ص )لم يكن يفسر الا القلائل من الايات , تلك القلائل ايضا
كان بوحي و توقيف , و لم يكن عن فهمه .و روي عن ابراهيم , قال : كان اصحابنا يتقون التفسير و يهابونه .قال ابن كثير: فهذه الاثار الصحيحة و ما شاكلها عن ائمة السلف , محمولة على تحرجهم عن الكلام
فـي الـتـفسيربما لا علم لهم فيه فاما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة و شرعا فلا حرج عليه , و لهذا
روي عـن هـؤلا و غـيرهم اقوال في التفسير, و لا منافاة , لانهم تكلموا فيما علموه و سكتوا عما
جـهلوه و هذا هو الواجب على كل واحد,فانه كما يجب السكوت عما لا علم به , فكذلك يجب القول
فيما سئل عنه مما يعلمه , لقوله تعالى : (لتبيننه للناس و لا تكتمونه ) ((104)) .و بعين ذلك ذكر ابن تيمية في مقدمته ((105)) .و قـال ابـن جرير الطبري : ان معنى ((احجام )) من احجم عن القيل في تاويل القرآن وتفسيره من
علما السلف , انما كان احجامه عنه حذرا ان لا يبلغ ادا ما كلف من اصابة صواب القول فيه , لاعلى ان
تاويل ذلك محجوب عن علما الامة , غير موجود بين اظهرهم ((106)) .قـلـت : و الـدلـيل على صحة ذلك ان من تحرج من القول في معاني القرآن من السلف , كانوا هم القلة
القليلة من الاصحاب و التابعين , اما الاكثرية الساحقة من علما الامة و نبها الصحابة فقد عنوا بتفسير
القرآن و تاويله عناية بالغة , كانت الوفرة الوفيرة من رصيدنا اليوم في التفسير.قال ابن عطية : و كان جلة من السلف كثير عددهم يفسرونه , و هم ابقى على المسلمين في ذلك .فاما صدر المفسرين و المؤيد فيهم فعلي بن ابي طالب (ع ), و يتلوه عبد اللّه ابن عباس , و هو تجرد
للامر وكمله , و تبعه العلما عليه , كمجاهد, و سعيد بن جبير, و غيرهما و المحفوظ عنه في ذلك
اكثر من المحفوظ عن على بن ابي طالب .و قال ابن عباس : ما اخذت من تفسير القرآن فعن على بن ابي طالب .و كـان عـلى بن ابي طالب يثني على تفسير ابن عباس , و يحض على الاخذ عنه و كان عبد اللّه بن
مسعود يقول :نعم ترجمان القرآن عبد اللّه بن عباس .و هـو الذي قال فيه رسول اللّه (ص ) : ((اللهم فقهه في الدين )), و حسبك بهذه الدعوة و قال عنه
على بن ابي طالب (ع ): ((ابن عباس كانما ينظر الى الغيب من ستر رقيق )).و يتلوه عبد اللّه بن مسعود, و ابى بن كعب , و زيد بن ثابت , و عبد اللّه بن عمرو بن العاص .قال : و كل ما اخذ عن الصحابة فحسن متقدم ((107)) .و امـا حديث عائشة ـ فضلا عن تكلم ابن جرير و ابن عطية و غيرهما في تاويله و ضعف سنده ـ
فـالارجـح في تاويله : انه (ص ) كان يفسر لهم القرآن اعدادا فاعدادا, كل فترة عددا خاصا حسبما
كان جبرئيل يعلمه عن اللّه ـجل جلاله ـ و لم يكن التعليم فوضى من غير انتظام و سيوافيك حديث
ابن مسعود في ذلك : كان الرجل منا اذاتعلم عشر آيات , لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن .قال صاحب كتاب المباني : و اما ما روي عن عائشة , فان ذلك يدل على انه (ع ) كان يحتاج مع ما انزل
عـلـيه من القرآن الى تفسير آيات يعلمهن اياه جبريل (ع ) و تلك آيات معدودة قد اجملت فيها احكام
الشريعة , بحيث لايوقف عليه الا ببيان الرسول عن اللّه تعالى .و امـا ما ذكروه من امتناع من امتنع من القول في التفسير, فان ذلك بمنزلة من امتنع منهم عن الرواية
عن رسول اللّه (ص ) الا فيما لم يجد فيه بدا.و لـذلك قلت روايات رجال من اكابر الصحابة , مثل عثمان و طلحة و الزبير و غيرهم روى عامر
بـن عبد اللّه بن الزبير عن ابيه قال : قلت للزبير: ما لي لا اسمعك تحدث عن رسول اللّه , كما اسمع
ابـن مـسـعود و فلانا و فلانا؟فقال : اما اني لم افارقه منذ اسلمت , و لكني سمعت رسول اللّه (ص )
يقول : ((من كذب على متعمدا فليتبوا مقعده من النار)).و قيل لربيعة : انا لنجد عند غيرك من الحديث ما لا نجد عندك مـنـه , و لـكـنـي سـمـعت رجلا من آل الهدير يقول : صحبت طلحة و ما سمعته يحدث عن رسول
اللّه (ص ) الا حديثا واحدا.قال : و هذا عبد اللّه بن عباس , لم يدع آية في القرآن الا و قد ذكر من تفسيرها, على ما روت عنه
الرواة , ولذلك قيل : ابن عباس ترجمان القرآن .و روي عن ابي مليكة قال : رايت مجاهدا يسال ابن عباس في تفسير القرآن و معه الواحه , فيقول ابن
عباس : اكتبه , حتى ساله عن التفسير كله .و روي عن سعيد بن جبير انه قال : من قرا القرآن و لم يفسره كان كالاعمى او كالاعرابي .و روى مـسـلـم عـن مـسروق بن الاجدع قال : كان عبد اللّه يقرا علينا السورة ثم يحدثنا فيها, و
يفسرها عامة النهار.و عـن ابي عبد الرحمان قال : حد ثونا الذين كانوا يقرئوننا: انهم كانوا يستقرئون من النبى , فكانوا
اذا تعلموا عشرآيات لم يخلفوها حتى يعلموا ما فيها من العمل , فيعلموا القرآن والعمل جميعا.و عن ابن مسعود: كان الرجل منا اذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن ((108)) .و بـعـد, فـقد ذكر الراغب الاصبهاني هنا شرائط يجب توفرها في المفسر, حتى لايكون تفسيره
تـفـسيرا بالراي الممنوع شرعا و المقبوح عقلا, نذكره بتفصيله , فان فيه الفائدة المتوخاة في هذا
الباب .