عـن ((الـسـائحـيـن )) في قوله تعالى : (التائبون العابدون
الحامدون الـسائحون الراكعون
الساجدون ) ((407)) , فقال : هم الصائمون ((408)) فلا غموض في معنى
الـسياحة , و لكن اى مصاديق السياحة
مقصودة هنا؟ و لعل هنا استعارة جات لامر معنوي , مما يدعو
الـى الـسؤال عنه و
مراجعة اهل الذكر قال الطبرسي : السائح من : ساح في الارض يسيح سيحا, اذا
اسـتـمـر فـي الذهاب , و منه
السيح للماالجاري , و من ذلك يسمى الصائم سائحا, لاستمراره على
الطاعة
في ترك المشتهى قال : و روي عن النبي انه قال : ((سياحة امتي
الصيام )) ((409)) .
و سـئل عـن الاسـتـطـاعـة
فـي قـولـه تـعـالـى : (و للّه عـلـى الـنـاس حج البيت من استطاع
اليه سبيلا) ((410)) قال (ص ): ((الزاد و الراحلة )) ((411)) فان مفهوم الاستطاعة عام يشمل
اى نحو من الاستطاعة و باى وسيلة
مقدورة و كانت بالامكان , غير ان هذا غير المراد بالاستطاعة
الى الحج الواجب , فبين (ع ) انه
القدرة على الزاد و الراحلة , ان كان ذلك بوسعه من غير تكلف و هذا
كناية
عن الاستطاعة المالية , كما فهمه الفقهارضوان اللّه عليهم .
و هـكـذا لـما سالته عائشه عن الكسوة
الواجبة في كفارة الايمان , في قوله تعالى : (فكفارته اطعام
عـشـرة مـسـاكـيـن مـن اوسـط مـا تـطـعـمـون اهليكم , او
كسوتهم ) ((412)) اجاب (ص ):
((عباة لكل مسكين )) ((413)) .
و سـالـه رجـل من هذيل عن قوله تعالى : (ومن كفر فان اللّه غني عن
العالمين ) ((414)) قال : يا
رسـول اللّه , مـن تـركه
فقد كفر؟ فقال (ص ): ((من تركه
لايخاف عقوبته و لا يرجو مثوبته )) ((415)) كناية عمن تركه جحودا
لا يـؤمـن بعاقبته , فهذا كافر
بالمعاد و بيوم الجزاو الحساب , الامر الذي يعود الى انكار ضروري
للدين و انكار الشريعة
راسا, اما الذي تركه لا عن نكران فهوفاسق عاص و ليس بكافر جاحد.
و هـكـذا روي عـن الامـام موسى
الكاظم (ع ) حينما ساله اخوه على بن جعفر: من لم يحج منا فقد
كفر؟ ((416)) .
و سئل عن
قوله تعالى : (كما انزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن
عضين ) ((417)) , مامعنى
((عضين ))؟ فقال (ص ): ((آمنوا ببعض و كفروا
ببعض )) ((418)) .
فـالايـة الـكريمة انكار على
الذين فرقوا بين اجزا القرآن الامر يثير السؤال عن المراد من هذه
التجزئة المستنكرة ؟ و من
ثم كان الجواب : انها التفرقة في الايمان بالبعض و الكفر بالبعض .
و سـئل عـن قوله تعالى : (فمن يرد اللّه ان يهديه يشرح صدره
للاسلام ) ((419)) , كيف يشرح
صدره ؟قال (ص ): ((نور يقذف به
فينشرح له و ينفسح ((الانـابـة الـى دارالـخـلـود,
و الـتـجـافـي عـن دار الـغـرور, و الاسـتعداد للموت قبل لقا
الموت )) ((420)) .
و سـالـه عـبـادة بـن
الـصـامت ((421)) عن قوله تعالى : (لهم البشرى في الحياة الدنيا و في الا
خرة ) ((422)) ,ماذا تكون
تلك البشارة ؟ قال (ص ): ((هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل , او ترى
له )) ((423)) .
و روى الكليني في الكافي و الصدوق
في الفقيه باسنادهما عن النبى (ص ) قال : ((البشرى في الحياة
الـدنيا هي الرؤيا الحسنة يراها المؤمن
فيبشر بها في دنياه )) و زاد في الفقيه : ((و اما قوله : (في
الاخرة ), فانها بشارة المؤمن
عند الموت , يبشر بها عند موته : ان اللّه عز و جل قد غفر لك و لمن
يـحملك الى قبرك )) و قال على
بن ابراهيم القمي : و (في الاخرة ) عند الموت , و هو قوله تعالى :
(الذين تتوفاهم
الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم
تعملون ) ((424)) .
و سـئل عـن قـولـه تـعـالـى :
(الـذيـن يحشرون على وجوههم الى جهنم اولئك شر مكانا واضل
سـبـيـلا) ((425)) كـيف
يحشر اهل النار على وجوههم ؟ فقال (ص ): ((ان الذي امشاهم على
اقدامهم قادر ان يمشيهم على
وجوههم )) ((426)) .
و بـهـذا الـمعنى آية اخرى
اوضحت الحشر على الوجوه بالسحب على و جوههم , قال تعالى : (يوم
يـسـحبون في النار على
وجوههم , ذوقوا مس سقر) ((427)) , و قوله : (و نحشرهم يوم القيامة
على وجوههم عميا و صما و بكما).
و اخرج الحاكم باسناده الى
الاصبغ بن نباتة ـ و قال : انه احسن الروايات في هذاالباب ـ عن الامام
امـير المؤمنين (ع ), قال :
لما نزلت الاية (فصل لربك و انحر) ((428)) قال رسول اللّه (ص ):يا
جـبـرئيل , ما هذه النحيرة
التي امرني بها ربي ؟ قال : انها ليست بنحيرة , و لكنه يامرك اذا تحرمت
لـلصلاة ان ترفع يديك
اذا كبرت و اذا ركعت و اذا رفعت راسك من الركوع , فانها صلاتنا و صلاة
الملائكة الذين في السماوات
السبع ((429)) و في رواية اخرى زيادة قوله : ان لكل شي زينة , و
زيـنـة الـصـلاة رفع
الايدي قال (ص ):رفع الايدي من الاستكانة التي قال اللّه ـ عز و جل : (فما
استكانوا لربهم و
مايتضرعون ) ((430)) .
و سـالـتـه ام هـانـئ (بنت ابي طالب )
عن المنكر الذي كان قوم لوط ياتونه في ناديهم , حيث قوله
تـعـالـى :(وتـاتـون
فـي نـاديكم المنكر) ((431)) ؟ فقال (ص ): ((كانوا يخذفون اهل الطريق
ويسخرون )) ((432)) .
و لعل هذا كان بعض اعمالهم المنكرة ,
ففي المجمع : كانت مجالسهم تشتمل على انواع من المناكير و
القبائح , مثل الشتم و
السخف و الصفع و القمار, و ضرب المخارق و خذف الاحجار على المارين و
ضرب المعازف و المزامير,
و كشف العورات و اللواط, و قيل : كانوايتضارطون من غير حشمة و
لا
حيا ((433)) .
و ربـمـا سـالوه عن عموم
حكم و شموله لبعض ما اشتبه عليهم امره , فقد ساله جريربن عبد اللّه
الجبلي ((434)) عن نظرة الفجاة , و قد قال تعالى : (قل للمؤمنين يغضوا
من ابصارهم ) ((435)) ,
فهل يشمل
عموم الامر بالغض لما اذا كانت النظرة فجاة , و هي غير ارادية ؟.
قال جرير:
فامرني (ص ) ان اصرف بصري ((436)) , اي لا يداوم في النظرة , و يصرف ببصره
من فوره .
و عـن ابي جعفر الباقر(ع )
قال : جا رجل الى النبى (ص ) و ساله عن امر اليتامى , حيث قوله تعالى :
(و آتـواالـيـتامى اموالهم و لا تتبدلوا
الخبيث بالطيب و لا تاكلوا اموالهم الى اموالكم انه كان حوبا
كـبـيـرا) الى قوله : (و لا تاكلوها
اسرافا و بدارا ان يكبروا, و من كان غنيافليستعفف , ومن كان
فقيرا فلياكل
بالمعروف ) ((437)) فقال : يا رسول اللّه , ان اخي هلك و ترك ايتاما و لهم ماشية , فما
يـحـل لـي مـنها؟ فقال
رسول اللّه (ص ): ان كنت تليط حوضها, و ترد ناديتها, و تقوم على رعيتها,
فاشرب من البانها, غير مجتهد و لاضار بالولد, و اللّه يعلم المفسد من
المصلح ((438)) اشارة الى
قوله تعالى : (ويسالونك عن اليتامى
قل اصلاح لهم خير و ان تخالطوهم فاخوانكم و اللّه يعلم المفسد
من
المصلح ) ((439)) .
و احيانا كانت الاسئلة لغوية , على ما
اسبقنا ان القرآن اخذ من لغات القبائل كلها, و ربما كانت اللفظة
المتداولة في قبيلة , غير معروفة عند الاخرين .
مـن ذلك ما ساله قطبة بن مالك
الذبياني ((440)) عن معنى ((البسوق )) من قوله تعالى : (و النخل
بـاسـقـات لـهـاطلع
نضيد) ((441)) قال : ما بسوقها؟ فقال (ص ): طولها ((442)) قال الراغب :
بـاسقات , اي طويلات و
الباسق هوالذاهب طولا من جهة الارتفاع , و منه بسق فلان على اصحابه :
علاهم .
و سـالـه
عبد اللّه بن عمرو بن العاص عن الصور في قوله تعالى : (و نفخ في
الصور), ((443))
قال (ص ): هو قرن ينفخ
فيه ((444)) .
و عـن الامـام جـعـفـر
بـن مـحـمد الصادق (ع ) قال : قال رسول اللّه (ص ) في قوله تعالى :(فتقعد
ملومامحسورا) ((445)) ـ, الاحسار:
الاقتار ((446)) .
الـحسر: كشف الملبس عما
عليه و الحاسر: من لا درع له و لا مغفر و ناقة حسير: انحسر عنها
اللحم و القوة والحاسر: المعيا, لانكشاف قواه .
اذن فـالـمـحـسور: من افتقد
اسباب المعيشة التي اهمها المال , و ليس من الحسرة كماتوهم , فصح
تفسير المحسور
بالمقتر, لان القتر فقد النفقة او تقليلها, و المقتر: الفقير.
و ربـما كانت الاية شديدة الوطاة ,
قد تجعل المسلمين في قلق , لولا مراجعته (ص )ليفسرها لهم بما
يرفع عنهم الم الياس و قلق الاضطراب .
مـن ذلك ما رواه محمد بن مسلم
عن الامام ابي جعفر الباقر(ع ) قال : لما نزلت الاية : (من يعمل سؤ
((447)) فقال لهم رسول اللّه : اما
,
قال بعض اصحاب رسول اللّه (ص ): ما اشدها من آية تـبـتـلون في اموالكم وانفسكم
و ذراريكم ؟ قالوا: بلى , قال : هذا مما يكتب اللّه لكم به الحسنات و
يمحو به
السيئات ((448)) .
و سـئل فـيما النجاة
غدا؟ فقال (ص ): ((النجاة ان لا تخادعوا اللّه فيخدعكم , فانه من يخادع اللّه
يخدعه و يخلع منه الايمان , و نفسه يخدع لو يشعر)).
فقيل : كيف يخادع اللّه ؟ قال : ((يعمل
بما امره اللّه ثم يريد به غيره , فاتقوا اللّه فاجتنبوا الريا فانه
شرك باللّه )) ((449)) , و ذلك
قوله تعالى : (ان المنافقين يخادعون اللّه و هو خادعهم و اذا قاموا
الى الصلاة قاموا كسالى يراؤون
الناس ) ((450)) .
و
لـمـا نـزلـت الاية : (و ان تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا
امثالكم ) ((451)) قالوا: يا
رسـول اللّه , مـن هؤلا الذين
اذا تولينا استبدلوا بنا؟ هـذا و قـومه و في رواية الطبري :
فضرب على منكب سلمان و قال : من هذا و قومه و الذي نفسي
بـيـده لو ان الدين تعلق بالثريالنالته
رجال من اهل فارس و في رواية البيهقي : لو كان الايمان منوطا
بالثريا لتناوله رجال
من فارس ((452)) .
و ربما سالوه (ص ) عن
غير الاحكام مما جا ذكره في القرآن اجمالا, ليبعثهم حب الاستطلاع على
الـسـؤال عـنـه من
ذلك سؤال فروة بن مسيك المرادي ((453)) عن ((سبا)): رجل او امراة ام
ارض ؟ فقال (ص ): هو رجل ولدعشرة
من الولد, ستة من ولده باليمن , و اربعة بالشام فاما اليمانيون
فـمذحج و كندة و الازد والاشعريون
و انمارو حمير, خير كلها, و اما الشاميون فلخم و جذام و
عاملة و
غسان ((454)) .
قـال الطبرسي : سبا, هو ابو عرب
اليمن كلها, و قد تسمى به القبيلة ((455)) , و هو الظاهر من
عـود ضـمـير العقلا اليهم في قوله
تعالى : (لقد كان لسبا في مسكنهم آية , جنتان عن يمين و شمال ,
كلوا من رزق ربكم , و اشكروا له بلدة طيبة و رب
غفور) ((456)) .
و سـالـه ابـو هـريرة عن قوله
تعالى : (و جعلنا من الما كل شي حي ) ((457)) , قال : انبئنى عن
((كـل شي ))؟ قال (ص ):
((كل شي خلق من الما)) ((458)) , بمعنى ان الما اصل الحياة , حيوانا
كان ام نباتا و ورد في الحديث : اول ما خلق اللّه
الما ((459)) .
و احـيـانا كان (ص ) يتصدى
لتفسير آية او آيات لغرض العظة او الاعتبار, كالذي رواه ابو سعيد
الـخـدري ((460)) عـن
رسـول اللّه (ص ) فـي قـولـه تـعـالى : (تلفح وجوههم النار و هم فيها
كـالـحـون ) ((461)) قـال (ص ):تشويها
النار فتتقلص شفاهها العليا حتى تبلغ وسط الرؤوس , و
تسترخي شفاهها السفلى حتى تبلغ الاسرة اخرجه الحاكم , و قال : صحيح
الاسناد ((462)) .
و عن ابي هريرة , قال :
قرا النبى (ص ): (يومئذ تحدث اخبارها)ثم قال : اتدرون ما اخبارها؟ قالوا:
اللّه ورسـوله اعلم في يوم كذا
وكذا ((463)) .
و عـن ابـي
الدردا ((464)) قال : سمعت رسول اللّه (ص ) قرا: (ثم اورثنا الكتاب الذين اصطفينا
من عبادنا, فمنهم ظالم لنفسه و
منهم مقتصد و منهم سابق بالخيرات باذن اللّه , ذلك هو الفضل الكبير,
جنات عدن
يدخلونها) ((465)) ثم قال : ((السابق و المقتصد يدخلان الجنة غيرحساب , و الظالم
لنفسه يحاسب حسابا يسيرا ثم يدخل
الجنة )) ((466)) .
و هكذا روى عمران بن
حصين ((467)) قال : كان النبى (ص ) يحدثنا عامة ليله عن بني اسرائيل ,
لا يقوم الا
لعظيم صلاة ((468)) .
و لعله ذات ليلة او ليالي معدودة كانت معهودة .
هـذا غـيض من فيض و
رشف من رشح , فاضت به ينبوع الحكمة و مهبط الوحي الكريم , و لا زالت
بركاته متواصلة عبر الخلود.
المرحلة الثانية التفسير في دور الصحابة . هم درجات عند اللّه .
المفسرون من الصحابة .
اعلم الصحابة بمعاني القرآن .
قيمة تفسير الصحابي .
ميزات تفاسير الصحابة .
التفسير فى دور الصحابة .
هم درجات عند اللّه
قال تعالى : (نرفع درجات من نشا و فوق كل ذى علمعليم ) ((469)) .
لا شـك ان الـصـحابة ,
ممن (رضي اللّه عنهم و رضوا عنه ) ((470)) كانوا هم مراجع الامة بعد
الرسول (ص )اذ كانوا
حاملي لوائه و مصادر شريعته الى الملا, ليس يعدل عنهم الى الابد.
نـعـم كـانـوا عـلـى درجـات
مـن العلم و الفضيلة حسبما اوتوا من فهم و ذكا و سائرالمواهب و
الاسـتـعـداد(انزل
من السما ما فسالت اودية بقدرها) ((471)) ,(يؤتي الحكمة من يشا و من يؤت
الحكمة فقد اوتي خيرا
كثيرا) ((472)) .
قال
مسروق بن الاجدع الهمداني ((473)) : جالست اصحاب محمد(ص ) فوجدتهم كالاخاذ ـ يعني
الـغـديـر مـن الماـ
فالاخاذ يروي الرجل , و الاخاذ يروي الرجلين , و الاخاذ يروي العشرة , و
الاخاذ يروي المائة , و الاخاذ لونزل به اهل الارض
لاصدرهم ((474)) .
و فـي لـفـظ ابن الاثير: تكفي
الاخاذة الراكب , و تكفي الاخاذة الراكبين , و تكفي الاخاذة الفئام من
الناس
قال : و الاخاذ ككتاب : مصنع للما يجتمع فيه و الفئام : الجماعة
الكثيرة ((475)) .
و يـعـني بالاخير (لاصدرهم )
الامام امير المؤمنين , عليه صلوات المصلين , حيث كان ـ سلام اللّه
عـليه ـ ينحدر عنه السيل
و لا يرقى اليه الطير ((476)) قال مسروق : ((انتهى العلم الى ثلاثة :
عـالم بالمدينة على بن ابي طالب ,
و عالم بالعراق عبد اللّه ابن مسعود, و عالم بالشام ابي الدردا, فاذا
التقوا سال عالم الشام وعالم العراق عالم المدينة و هو لم
يسالهم )) ((477)) .
قال الاستاذ محمد حسين الذهبي : الحق
ان الصحابة كانوا يتفاوتون في القدرة على فهم القرآن و بيان
مـعانيه المرادة منه , و ذلك راجع الى
اختلافهم في ادوات الفهم فقد كانوا يتفاوتون في العلم بلغتهم ,
فـمـنـهـم الواسع الاطلاع الملم
بغريبها (كعبد اللّه بن عباس ), و منهم دون ذلك , و منهم من لازم
الـنـبى (ص )فعرف من اسباب
النزول ما لم يعرفه غيره (كعلى بن ابي طالب (ع )) اضف الى ذلك ان
الـصـحابة لم يكونوا في درجتهم العلمية
و مواهبهم العقلية سوا, بل كانوا مختلفين في ذلك اختلافا
عظيما ((478)) .
هذا عدى بن
حاتم ((479)) , العربي الصميم , حسب من قوله تعالى : (و كلوا و اشربوا حتى يتبين
لكم الخيط
الا بيض من الخيط الا سود من الفجر) ((480)) انه تمايز احد خيطين : ابيض و آخر
اسود,احدهما عن الاخر
في ضؤ الفجر, فاخذ عقالين ابيض و اسود و جعلهما تحت وساده , فجعل
يـنظر اليهما فلايتبين
له احدهما عن الاخر, فلما اصبح غدا الى رسول اللّه (ص ) يخبره بما صنع ,
فضحك رسول اللّه من صنيعه ذلك ,
حتى بدت نواجذه , و في رواية , قال له : ان وسادك اذن لعريض ـ
كـنـاية عن
عدم تنبهه لحقيقة الامر ـ ثم قال له : انما ذاك بياض النهار من سواد
الليل ((481)) , انه
البياض المعترض على الافق
تحت سواد الليل المنصرم وفي الدر المنثور: لا يمنعكم من سحوركم
اذان بـلال و لا الفجر المستطيل
ـ و هو الساطع المصعد ـ و لكن الفجرالمستظهر في الافق , هو
الـمـعـترض الاحمر, يلوح
الى الحمرة و في حديث : لايمنعكم اذان بلال من سحوركم فانه ينادي
بليل , فكلوا
و اشربوا حتى تسمعوا اذان ابن ام مكتوم , فانه لا يؤذن حتى يطلع
الفجر ((482)) .
قـال الامـام ابـو جـعـفر
الباقر (ع ): ((الفجر هو الخيط الابيض المعترض , و ليس هو الابيض
صعدا)) ((483)) .
و زعـمت عائشة من قوله تعالى :
(يوتون ما آتوا) ارادة ارتكاب المثم , الامر الذي يتنافى مع سياق
الايـة الواردة بشان الاشادة بموضع
المؤمنين حقا, قال تعالى : (ان الذين هم من خشية ربهم مشفقون ـ
الـى قـولـه ـ و الـذيـن يـؤتون
ما آتوا و قلوبهم وجلة انهم الى ربهم راجعون اولئك يسارعون في
الخيرات و هم لها
سابقون ) ((484)) .
فـسـالت عن ذلك
رسول اللّه (ص ), و قالت : هو الذي يسرق و يزني و يشرب الخمر, و هو يخاف
اللّه ؟ ((485)) كناية عن اتيانه
الطاعات , وجلا ان لايكون مؤديا لها تامة حسبما اراده اللّه .
و لعلها كانت تتصور من الكلمة انها
مقصورة (ياتون ما اتوا) بمعنى : (يعملون ما عملوا), و قد اسلفنا
الكلام
عن تزييفه ((486)) و
ان الصحيح هو قراة المد (يؤتون ما آتوا) بمعنى : يؤدون ما ادوا, اي
من افعال
البر و الخيرات , من غير اعجاب و لا ريا, و الى ذلك ينظر تفسيره (ص ).
و روى زرارة عـن الامـام
ابي جعفر الباقر(ع ) قال : اتى عمار بن ياسر رسول اللّه (ص ) فقال : يا
رسـول اللّه ,اجنبت الليلة و لم
يكن معي ما قال : كيف صنعت ؟ قال : طرحت ثيابي ثم قمت الى الصعيد
فعلمه رسول اللّه التيمم , سوا اكان بدل وضؤ ام بدل
غسل ((488)) .
و قـرا عـمـر بن الخطاب
من سورة ((عبس )) حتى وصل الى قوله تعالى : (فلينظر الا نسان الى
طعامه , اناصببنا الما صبا, ثم
شققنا الا رض شقا, فانبتنا فيها حبا, و عنبا و قضبا, و زيتونا ونخلا,
و حدائق غلبا, و فاكهة و ابا,
متاعا لكم و لانعامكم ) ((489)) , فقال : هذه الفاكهة قدعرفناها, فما
الاب ؟ ثم رجع الى نفسه فقال : ان هذا لهو التكلف يا عمر و في رواية : ثم رفض ـ او نقض
ـ عصا كانت في يده , و قال : هذا لعمر اللّه هو التكلف , فما عليك
ان لا تـدري ماالاب , اتبعوا ما بين لكم
هداه من الكتاب فاعملوا به , و ما لم تعرفوه فكلوه الى ربه ولعله سئل عن تفسير الاية فحار في الجواب .
و قـد ورد ان ابـابـكـر
ـ ايضا ـ سئل قبل ذلك عن تفسير الاية , فقال : اى سما تظلني , واى ارض
تقلني , اذا قلت في كتاب اللّه ما لم
اعلم ((490)) .
قال الذهبي : و لو اننا رجعنا الى
عهد الصحابة لوجدنا انهم لم يكونوا في درجة واحدة بالنسبة لفهم
مـعاني القرآن ,بل تتفاوت
مراتبهم , و اشكل على بعضهم ما ظهر لبعض آخر منهم و هذا يرجع الى
تـفـاوتهم في القوة العقلية ,و
تفاوتهم في معرفة ما احاط بالقرآن من ظروف و ملابسات و اكثر من
هذا انهم كانوا لا يتساوون في معرفة المعاني
التي وضعت لها المفردات , فمن مفردات القرآن ما خفي
معناه على بعض الصحابة , و لا
ضير في هذا,فان اللغة لا يحيط بها الا معصوم , و لم يدع احد ان كل
فرد من امة يعرف جميع الفاظ لغتها.
قال : و مما يشهد لهذا الذي ذهبنا
اليه , ما اخرجه ابو عبيدة في الفضائل عن انس : ان عمر بن الخطاب
قـرا على المنبر (و فاكهة و ابا)
فقال : هذه الفاكهة قد عرفناها, فما الاب ؟ ثم رجع الى نفسه فقال :
ان هذا لهو التكلف يا عمر و ما روي من ان عمر كان على
المنبر فقرا: (او ياخذهم على تخوف ) ((491)) ثم سال عن معنى
التخوف ,فقال له رجل من هذيل : التخوف عندنا التنقص , ثم انشد:.
تخوف الرحل منها تامكا قردا ـــــ كما تخوف عود النبعة
السفن ((492)) .
قـال الـطبرسي : التخوف : التنقص ,
و هو ان ياخذ الاول فالاول حتى لايبقى منهم احد, و تلك حالة
يخاف معهاالهلاك
و الفنا و هو الغنا تدريجا, ثم انشد البيت بتبديل الرحل الى
السير ((493)) .
قـال الـفـرا: جـا الـتـفـسـيـر
بانه التنقص و العرب تقول : تحوفته ـ بالحا المهملة ـ : تنقصه من
حافاته ((494)) .
و مـعـنـى الاية ـ على ذلك ـ : انه تعالى
يهلكهم على تدرج شيئا فشيئا, بما يجعلهم على خوف الفنا,
حـيـث يـرون انـهم في
تنقيص , و الاخذ من جوانبهم تدريجا, و هذا نظير ما ورد في آية اخرى :
(افـلا يرون انا ناتي الا
رض ننقصها من اطرافها) ((495)) و قوله : (و لنبلونكم بشي من الخوف
و الجوع ونقص من الا موال و الا نفس و
الثمرات ) ((496)) .
و ايـضـا اخـرج ابوعبيدة
من طريق مجاهد عن عبد اللّه بن عباس , قال : كنت لا ادري ما ((فاطر
الـسـماوات )) حتى اتاني اعرابيان
يتخاصمان في بئر فقال احدهما: انا فطرتها, و الاخر يقول : انا
ابتداتها ((497)) .
قـال الذهبي : فاذا كان
عمر بن الخطاب يخفى عليه معنى ((الاب )) و معنى ((التخوف )), و يسال
عنهما غيره , و ابن عباس
ـ و هو ترجمان القرآن ـ لا يظهر له معنى ((فاطر)) الا بعد سماعه من
غـيره , فكيف شان غيرهما؟ مـثـلا ـ ان يـعلموا من قوله تعالى :
((و فاكهة وابا)) انه تعداد للنعم التي انعم اللّه بها عليهم , و لا
يلزمون انفسهم بتفهم معنى الاية تفصيلا, ما دام المراد
واضحاجليا ((498)) .
المفسرون من الاصحاب
اشـتهر بالتفسير من الصحابة اربعة ,لاخامس لهم في مثل مقامهم في العلم بمعاني القرآن , وهم : على
بن ابي طالب (ع ) و كان
راسا و اعلم الاربعة , و عبد اللّه ابن مسعود, و ابى بن كعب , و عبداللّه بن
عباس , كان اصغرهم و اوسع باعا في نشر التفسير.
اما
غير هؤلا الاربعة فلم يعهد عنهم في التفسير سوى النزر اليسير.
قال جلال الدين السيوطي :
اشتهر بالتفسير من الصحابة عشرة : الخلفا الاربعة , و ابن مسعود, و ابن
عباس , و ابى بن كعب , و
زيد بن ثابت , و ابو موسى الاشعري , و عبداللّه بن الزبير اما الخلفا فاكثر
مـن روي عـنـه مـنـهم على
بن ابي طالب , و الرواية عن الثلاثة (ابي بكر و عمر وعثمان ) نزرة
جدا ((499)) .
قـال الاسـتـاذ الـذهـبـي : و
هـناك من تكلم في التفسير من الصحابة غير هؤلا, كانس بن مالك , و
ابـي هـريـرة و عبداللّه
بن عمر, و جابر بن عبد اللّه , و عبد اللّه بن عمرو بن العاص , و عائشة
غـيـر ان ما نقل عنهم في التفسير
قليل جدا, كما ان العشرة الذين اشتهروا بالتفسير, تفاوتوا قلة و
كـثرة , و المخصوصون بكثرة
الرواية في التفسير منهم اربعة : على بن ابي طالب , و ابن مسعود, و
ابـى بـن كعب , و ابن عباس اما
باقي العشرة , و هم : زيد, و ابو موسى وابن الزبير, فقد قلت عنهم
الرواية , و لم يبلغوا ما بلغه الاربعة .
قال : لهذا نرى الامساك عن
الكلام في شان الستة , و نتكلم عن (على بن ابي طالب ) و (ابن مسعود)
و (ابـى بـن كـعـب )
و (ابـن عـباس ) نظرا لكثرة الرواية عنهم في التفسير, كثرة غذت مدارس
الامصار على اختلافها
وكثرتها ((500)) .
اعلم الصحابة بمعاني القرآن فالاعلم
قال الامام بدر الدين الزركشي :و صدر المفسرين من الصحابة هو على بن ابي طالب , ثم ابن عباس و
هـوتـجـرد لهذا الشان , و
المحفوظ عنه اكثر من المحفوظ عن علي (ع ), الا ان ابن عباس كان قد
اخذ
عن علي (ع ) ((501)) .
قـال الاستاذ الذهبي : كان
علي (ع ) بحرا من العلم , و كان قوى الحجة سليم الاستنباط, اوتي الحظ
الاوفـر من الفصاحة و الخطابة
و الشعر, و كان ذا عقل ناضج و بصيرة نافذة الى بواطن الامور و
كثيرا ما كان يرجع اليه الصحابة
في فهم ما خفي , و استجلا ما اشكل و قد دعا له رسول اللّه (ص )
حـيـن ولاه قـضـا الـيـمن , بقوله :
(( اللهم ثبت لسانه و اهد قلبه )) فكان موفقا مسددا, فيصلا في
المعضلات ((502)) , حتى ضرب به المثل , فقيل : ((قضية و لاابا حسن لها)).
قال : و لا عجب , فقد تربى في بيت النبوة ,
و تغذى بلبان معارفها, و عمته مشكاة انوارها و قيل لعطا:
اكـان في اصحاب محمد اعلم
من علي ؟ قال : لا, واللّه لا اعلمه و عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ,
قال : اذا ثبت لناالشي عن علي , لم نعدل عنه الى
غيره ((503)) .
قـال ابـن عـباس : جل ما تعلمت من
التفسير, من على بن ابي طالب و قال : علي علم علما علمه رسول
اللّه , ورسـول اللّه عـلـمه اللّه , فعلم
النبي من علم اللّه , و علم علي من علم النبي , و علمي من علم
علي (ع ) و ما علمي
وعلم اصحاب محمد(ص ) في علم علي الا كقطرة في سبعة ابحر و في حديث
آخـر: فـاذا عـلـمـي بـالقرآن
في علم علي (ع ) كالقرارة في المثعنجر, قال : القرارة : الغدير, و
المثعنجر:
البحر ((504)) .
و قـال : لـقـد اعـطي عـلى
بن ابي طالب (ع ) تسعة اعشار العلم , و ايم اللّه لقد شاركهم في العشر
العاشر,
الامر الذي احوج الكل اليه و استغنى عن الكل , كما قال الخليل .
و قـال سـعـيد بن جبير: كان
ابن عباس يقول : اذا جانا الثبت عن علي (ع ) لم نعدل به و في لفظ ابن
الاثير: اذا ثبت لنا الشي عن علي لم نعدل عنه الى غيره .
و قد عرفت ان ما اخذه ابن عباس من التفسير فانما اخذه عن علي (ع ).
و قـال سـعـيـد بن المسيب : ما
كان احد من الناس يقول سلوني غير على بن ابي طالب قال : كان عمر
يـتـعوذ من معضلة ليس
لها ابو حسن و قد روى البلاذري في الانساب قولة عمر: ((لا ابقاني اللّه
لمعضلة ليس لهاابوحسن )).
و قـال ابـو الطفيل : كان علي (ع )
يقول : سلوني , سلوني , سلوني عن كتاب اللّه تعالى , فو اللّه ما من
آية الا و انااعلم انزلت بليل او نهار.
و قال عبد اللّه بن مسعود:
ان القرآن انزل على سبعة احرف , ما منها حرف الا و له ظهر و بطن , و
ان على بن ابي طالب عنده منه الظاهر و
الباطن ((505)) .
و روى ابو عمرو الزاهد
(261 ـ 345) باسناده الى علقمة , قال : قال لنا عبد اللّه بن مسعود ذات
يـوم فـي حـلـقـته :لو
علمت احدا هو اعلم مني بكتاب اللّه عز و جل , لضربت اليه آباط الابل قال
عـلقمة : فقال رجل من الحلقة :القيت
عليا(ع )؟ فقال : نعم , قد لقيته , و اخذت عنه , و استفدت منه , و
قـرات عـلـيـه , و كـان
خـيـر الناس و اعلمهم بعد رسول اللّه (ص ) و لقد رايته كان بحرا يسيل
سيلا ((506)) .
قـال ابـن ابـي الحديد ـ بصدد كونه
(ع ) مرجع العلوم الاسلامية كلها ـ : و من العلوم علم تفسير
الـقرآن و عنه اخذ,و منه
فرع و اذا راجعت الى كتب التفسير علمت صحة ذلك , لان اكثره عنه و
عن عبد اللّه بن عباس و قد علم الناس
حال ابن عباس في ملازمته له و انقطاعه اليه , و انه تلميذه و
خـريـجـه و قـيـل لـه : ايـن
عـلـمك من علم ابن عمك ؟ فقال : كنسبة قطرة من المطر الى البحر
المحيط ((507)) .
و اخـرج الحاكم باسناده عن
رسول اللّه (ص ) قال : ((علي مع القرآن و القرآن مع علي , لن يفترقا
حـتـى يـرداعـلـي الـحـوض )) و قال :
((انا مدينة العلم و علي بابها, فمن اراد المدينة فلياتها من
بابها)) ((508)) .
و الان فلنستمع الى ما
يصف (ع ) نفسه و موضعه من رسول اللّه (ص ) قال : ((سلوني عن كتاب اللّه ,
فانه ليست آية الا و قد
عرفت بليل نزلت ام بنهار, في سهل او جبل )), ((و اللّه ما نزلت آية الا و
قد علمت فيم
انزلت و اين نزلت و ان ربي و هب لي قلبا عقولا و لسانا سؤولا)).
قـيـل لـه : ((مـا بـالـك
اكـثر اصحاب النبى (ص ) حديثا؟ فقال : لاني كنت اذا سالته انباني , و اذا
سكت ابتداني )) ((509)) .
قال (ع ): ((كنت اول
داخل على النبى (ص ) و آخر خارج من عنده , و كنت اذا سالت اعطيت , و اذا
سكت ابتديت و كنت ادخل على
رسول اللّه في كل يوم دخلة , و في كل ليلة دخلة و ربما كان ذلك في
بـيـتـي , ياتيني رسول اللّه اكثر
من ذلك في منزلي فاذا دخلت عليه في بعض منازله اخلى بي و اقام
نـسـاه , فلم يبق عنده غيري و
اذا اتاني لم يقم فاطمة و لا احدا من ولدي و اذا سالته اجابني , و اذا
سـكـت عنه و نفدت مسائلي ابتداني
فما نزلت على رسول اللّه آية من القرآن الا اقرانيها و املاها
عـلـى و كـتبتها بخطي , فدعا
اللّه ان يفهمني ويعطيني , فما نزلت آية من كتاب اللّه الا حفظتها و
علمني
تاويلها)) ((510)) .
و فـي الـكـافـي : ((فـما نزلت
على رسول اللّه آية من القرآن الا اقرانيها و املاها على , فكتبتها
بخطي , و علمني تاويلها و تفسيرها,
و ناسخها و منسوخها, و محكمها و متشابهها, و خاصها و عامها
و دعا اللّه ان يعطيني فهمهاو
حفظها فما نسيت آية من كتاب اللّه و لا علما املاه على و كتبته , منذ
دعا اللّه لي بما دعا و ما ترك
شيئا علمه اللّه من حلال و لا حرام , و لا امر و لا نهي كان او يكون ,
و لا كتاب منزل على احد قبله
من طاعة او معصية ,الاعل منيه و حفظته , فلم انس حرفا واحدا ثم
وضـع يده على صدري و دعا
اللّه لي ان يملا قلبي علما و فهما وحكما و نورا فقلت : يا نبى اللّه ـ
بابي انت و امي ـ منذ دعوت اللّه
لي بما دعوت , لم انس شيئا و لم يفتني شي لم اكتبه , افتتخوف على
النسيان فيما بعد؟ فقال : لا, لست اتخوف عليك النسيان و
الجهل ((511)) .
و قـد قـال رسـول اللّه (ص )
لعلي (ع ): ((ان اللّه امرني ان ادنيك و لا اقصيك , و ان اعلمك و لا
اجفوك فحقيق علي ان اعلمك , و حقيق عليك ان
تعي )) ((512)) .
و فـي الـخطبة القاصعة
ـ من نهج البلاغة ـ : ((و قد علمتم موضعي من رسول اللّه (ص ) بالقرابة
الـقـريـبـة , و الـمنزلة الخصيصة
وضعني في حجره و انا ولد, يضمني الى صدره , و يكنفني الى
فـراشه , و يمسني جسده , و
يشمني عرفه , ((513)) و كان يمضغ الشي ثم يلقمنيه و ما وجد لي
كذبة في قول , و لا
خطلة ((514)) في فعل .
و لـقد قرن اللّه به (ص ), من لدن
ان كان فطيما اعظم ملك من ملائكته , يسلك به طريق المكارم , و
محاسن اخلاق العالم , ليله و نهاره .
و لقد كنت اتبعه اتباع الفصيل اثر
امه , يرفع لي في كل يوم من اخلاقه علما, و يامرني بالاقتدا به .
و لقد كان يجاور في كل
سنة بحرا, فاراه و لا يراه غيري و لم يجمع بيت واحد يومئذ في الاسلام
غير رسول اللّه (ص )
و خديجة و انا ثالثهما ارى نور الوحي و الرسالة , و اشم ريح النبوة .
و لقد سمعت رنة الشيطان حين
نزل الوحي عليه (ص ) فقلت : يا رسول اللّه , ما هذه الرنة ؟ فقال : هذا
الشيطان ايس من عبادته انك
تسمع ما اسمع , و ترى ما ارى , الا انك لست بنبى و لكنك لوزير و انك
لعلى خير)) ((515)) .
و امـا عـبـد اللّه بن مسعود, فهو
من السابقين في الايمان , و اول من جهر بالقرآن بمكة , و اسمعه
قـريـشـا بعدرسول
اللّه (ص ) و اوذي في اللّه من اجل ذلك و كان قد اخذه رسول اللّه اليه , فكان
يـخـدمـه في اكثر شؤونه , وهو
صاحب طهوره و سواكه و نعله , و يلبسه اياه اذا قام , و يخلعه و
يحمله في ذراعه اذا جلس , و
يمشي امامه اذاسار, و يستره اذا اغتسل , و يوقظه اذا نام , و يلج داره
بلاحجاب , حتى لقد ظن انه من اهل بيت رسول اللّه (ص ).
هاجر
الهجرتين , و صلى الى القبلتين , و شهد المشاهد كلها مع رسول اللّه .
كـان مـن احفظ الناس لكتاب
اللّه , و كان رسول اللّه يحب ان يسمع القرآن منه , و كان (ص ) يقول :
((من سره
ان يقرا القرآن غضا طريا كما انزل فليقراه على قراة ابن ام عبد)).
و كـان حـريصا على طلب العلم
و لا سيما معاني آيات القرآن الكريم , قال : كان الرجل منا اذا تعلم
عشر آيات ,لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن
و العمل بهن , و من ثم كان يقول : و الذي لا اله غيره , ما
نـزلت آية من كتاب اللّه الا
و انا اعلم فيم نزلت و اين نزلت , كما كان شديد الحرص ايضا على بث
العلم و نشره بين العباد.
قـال مسروق بن الاجدع : كان عبد
اللّه يقرا علينا السورة ثم يحدثنا فيها و يفسرها, عامة النهار, و
قد اذعن له عامة صحابة الرسول (ص ) بالفضيلة و العلم بالكتاب و
السنة ((516)) .
و مـن ثـم كانت له مكانة سامية
في التفسير, و بذلك طار صيته , و عنه في التفسيرالشي الكثير, و
الطرق اليه متقنة .
قـال الخليلي في الارشاد:
و لاسماعيل السدي تفسير يورده باسانيد الى ابن مسعود و ابن عباس و
روى عن السدي
الائمة , مثل الثورى و شعبة , و اضاف : ان امثل التفاسير تفسير السدي .
قـال جلال الدين السيوطي
ـ تعقيبا على كلام صاحب الارشاد ـ : و تفسير السدي الذي اشار اليه ,
يـورد مـنـه ابـن جرير
(الطبري ) كثيرا من طريق السدي عن ابي مالك , و عن ابي صالح عن ابن
عـباس , و عن مرة عن ابن مسعود,
و ناس من الصحابة هكذا قال : و الحاكم يخرج منه في مستدركه
اشـيا
و يصححه , لكن من طريق مرة عن ابن مسعود, وناس فقط دون الطريق
الاول ((517)) , اي
طريق ابي صالح عن ابن عباس .
و كـان بـعـد رسـول اللّه (ص )
قـد اخذ العلم من على (ع ) و ليس من غيره بتاتا و قد تقدم حديث
علقمة , قال : قال ابن مسعود ذات
يوم , و كنا في حلقته : لو علمت ان احدا هو اعلم مني بكتاب اللّه عز
و جـل لـضربت اليه آباطالابل قال علقمة :
فقال رجل من الحلقة : القيت عليا؟ فقال : نعم , قد لقيته , و
اخـذت عنه , و استفدت
منه , و قرات عليه و كان خير الناس و اعلمهم بعد رسول اللّه (ص ) و لقد
رايته كان بحرا يسيل
سيلا ((518)) .
و عـده الـخـوارزمـي
و شـمس الدين الجزري في ((اسنى المطالب )) من رواة حديث الغدير من
الصحابة ((519)) .
و اخـرج جـلال الـديـن السيوطي
عنه نزول آية التبليغ (سورة المائدة / 67) بشان على (ع ) يوم
الـغدير, قال : و اخرج
ابن مردويه عن ابن مسعود, قال : كنا نقرا على عهد رسول اللّه (ص ): ((يا
ايهاالرسول بلغ ما انزل اليك من ربك
ـ ان عليا مولى المؤمنين ـ و ان لم تفعل فما بلغت رسالته , و اللّه
يعصمك
من الناس )) ((520)) .
نـعم كان ابن مسعود ممن شد وثاقه
بولا آل بيت الرسول , لم يشذ عن طريقتهم المثلى منذ اول يومه
فالى آخرايام حياته .
روى الصدوق ابو جعفر ابن بابويه باسناده الى زيد بن وهب الجهني ابي
سليمان الكوفي ((521)) :
ان اثـنـي عـشـر
رجـلا من صحابة رسول اللّه (ص ) انكروا على ابي بكر تقدمه على على (ع ) و
عدمنهم : عبد اللّه بن مسعود.
و كـان هـو الـذي اشـاد
بـذكـر اهـل الـبيت , و بث حديث ((الخلفا اثنا عشر)) في الكوفة و ما
والاها ((522)) .
قال المرتضى علم الهدى ـ بشانه
ـ : لا خلاف بين الامة في طهارة ابن مسعود و فضله و ايمانه , و
مدح النبى (ص ) له و ثنائه عليه , و انه مات على الحالة
المحمودة ((523)) .
و سياتي من
تقي الدين ابي الصلاح الحلبي , عده و ابيا من المخصوصين بولاية آل
البيت ((524)) .
و روى رضـي الدين
ابو القاسم على بن موسى بن طاووس (664) عن كتاب ابي عبداللّه محمد بن
عـلـي السراج
في تاويل قوله تعالى : (و اتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا
منكم خاصة ) ((525))
بالاسناد الى عبد اللّه بن مسعود, انه قال :.
قـال النبى (ص ): ((يا ابن مسعود,
انه قد انزلت علي آية (و اتقوا فتنة ) و انا مستودعكها, فكن لما
اقول لك واعيا و عني له مؤديا, من
ظلم عليا مجلسي هذا كمن جحد نبوتي و نبوة من كان قبلي فقال
لـه الـراوي : يـا ابـا
عـبـدالـرحمان , اسمعت هذا من رسول اللّه (ص )؟ قال : نعم قال : فكيف وليت
للظالمين ؟ قال :
لا جرم حلت عقوبة عملي ((526)) , و ذلك اني لم استاذن امامي كما استاذن جندب
و عمار و سلمان , و انا استغفر اللّه و
اتوب اليه )) ((527)) .
و مـمـا يـجـدر الـتنبه له ان عامة
الكوفيين من مفسرين و فقها و محدثين , كان طابعهم الولا لاهل
البيت (ع ) و قدخص اصحاب ابن
مسعود بالميل لعلي (ع ) الامر الذي كانت البيئة الكوفية تستدعيه
بـالـذات , على اثر وفرة العلما
من صحابة الرسول (ص ) هناك و لا غرو فانهم اعرف بموضع اهل
الـبـيـت و لا سيما سيدهم
و كبيرهم على بن ابي طالب , من رسول اللّه , و كثرة وصاياه بشانهم , و
التمسك باذيالهم و السير على هديهم , فلا يضلواابدا.
و من ثم فقد امتازت الكوفة
في امور جعلتها في قمة العظمة و الاكبار, على مدى الدهور:.
اولا: كـانـت مـهـجر علما
الصحابة الاخيار و اعلام الامة الكبار, و بلغ اوجها عند مهاجرة الامام
اميرالمؤمنين (ع ).
اخرج ابن سعد عن ابراهيم ,
قال : هبط الكوفة ثلاثمئة من اصحاب الشجرة ,و سبعون من اهل بدر و
بـذلـك قـال ابن عمرو: ما من يوم
الا ينزل في فراتكم هذا مثاقيل من بركة الجنة كناية عن مهاجرة
اصحاب الرسول اليها فوجا
فوجا ((528)) .
و ثـانـيـا: اصـبحت معهد
العلم في الاسلام في دور نضارته و ازدهار معارفه , فمن الكوفة صدرت
الـعـلـوم و الـمـعـارف
الاسلامية , بشتى انحائها الى البلاد, و سارت به الركبان الى الامصار في
عـهدطويل اخرج ابن
سعد ـ ايضا ـ عن عبيد اللّه بن موسى , قال : اخبرنا عبد الجبار بن عباس عن
ابـيـه , قـال : جالست عطا, فجعلت اساله
فقال لي : ممن انت ؟ فقلت : من اهل الكوفة فقال عطا: ما ياتينا
العلم الا
من عندكم ((529)) .
و ثـالثا: كانت ارضا خصبة لتربية
ولا آل الرسول (ص ) في نفوس مؤمنة صادقة في ايمانها, مؤدية
اجـر رسـالة نبيها, حافظة
لكرامة رسول اللّه في ذريته الانجاب , عارفة بانهم سفن النجاة , و احد
الـثقلين , و العروة الوثقى التي
لا انفصام لها, و من ثم روى ابن سعد: ((ان اسعد الناس بالمهدى اهل
الكوفة )) ((530)) .
امـا اصـحاب ابن مسعود (الصحابي
الجليل الموالي لال بيت الرسول ) فكانوا اصدق عند الناس على
عـلـي (ع ) عـلـى مـا اخرجه ابن سعد باسناده عن ابي بكر ابن عياش عن
مغيرة ((531)) , كانوا
لايـغـالون و لا ينتقصون و من
ثم روي عن على (ع ) ما يدل على رضائه عن موقفهم هذا المشرف ,
قال : ((اصحاب عبد اللّه سرج هذه
القرية )) ((532)) .
ملحوظة .
انـمـا يـعـرف صـلاح الرجل
و استقامته في الدين , بتقواه عن محارم اللّه و استسلامه لاوامره و
نـواهـيه , و في اطاعة الرسول و
اتباع سنته و العمل بوصاياه , من غير ان يكون له الخيرة من امره
بعد ما قضى اللّه و رسوله ,
اذ مقتضى الايمان الصادق ان يسلم امره الى اللّه و رسوله تسليما.