«وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ»(الأنعام/75). ولكلِّ شيء ملكوت وباطن وهو راجع إلى الأمر لا الخلق «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ»(يس/82). وذلك العالَم هو عالَم الوحدة وهو بيده تعالى، ومن هنا كانت الآية التالية، نتيجةًّ للأولى حيث قال «فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ»(يس/83). وعليه تعرف سبب التحريض بل العتاب في قوله «أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ»(الأعراف/185). . فإذا امتلك الإنسان العين الملكوتيَّة -أعني البصيرة- فلا باس حينئذٍ من أن ينظر إلى الخلق أيضاً، حيث أنَّ نظره هذا لا يُغفله عن باطنه أصلاً ولا يتورَّط بما تورَّط فيه هؤلاء الذين قال عنهم «يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ»(الروم/7). فإذا اكتسب هذه النعمة الجسيمة، فلا مانع أن ينطلق من الظاهر ليقوِّي باطنه كما قال تعالى «وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ»(الذاريات/20). فلم يكن ما في الأرض آية إلا بعد اليقين، وكلَّما ازداد اليقين ازدادت آيتيَّة الأرض وأمثال الأرض. وقال تعالى «وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ»(الجاثية/4). إلى أن يصل الإنسان إلى مستوى من العظمة والمنزلة حيث كان عليٌّ عليه السلام حيث قال ((لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً)).. التذكُّر. نرجع إلى قوله تعالى«وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلاَ تَذكَّرُونَ»(الواقعة/62).. فنقول. ولعلَّ قوله فلولا تذكَّرون يعزز ما قد ذكره الهمداني-قدس سرُّه- فإنَّه نوع إثارةٍ لفكر الإنسان وقلبه، ولكي يتقوَّى مفعول هذه الإثارة، استند سبحانه إلى أمورٍ ثلاثة طُرحت بأسلوب استفهامي حيث قال «أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ»(الواقعة/63). ثمَّ قال «أَفَرَأَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ»(الواقعة/68). وقال «أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ»(الواقعة/71). وكلُّ واحد من هذه الأمثلة الثلاثة، يشتمل على جوانب استدلاليَّة عميقة لا مجال لبيانها هنا وسوف نتطرَّق إليها في محلِّها إن شاء الله تعالى.. والجدير بالذكر ما بَيَّنه السيد الهمداني في تفسيره حيث قال إنَّه تعالى قد عبَّر عن الإيمان بيوم الجزاء بالإيقان وهو مرتبة عالية من الإيمان ، والتناسب الموجود في هذا التعبير هو أنَّه قد أخذت حالة التذكُّر في اليقين ، فالإيقان بيوم الجزاء هو الإعتقاد به بنحو يكون دائماً في ذكره ولا يغفل عنه أبداً لأنَّ أفضل أسلوب لكسب الفضائل الأخلاقيَّة و تحقيق النظم الفردي و الجماعي في البشر إنَّما هو ذكر يوم الجزاء ...وضد التذكُّر هو النسيان و الغفلة عن يوم الجزاء وهو السبب الرئيسي لاتِّصاف الإنسان بالرذائل الخُلقية [385]. أقول الدليل عليه قوله هو ما ذكره سبحانه توصيفاً لإبراهيم وإسحاق ويعقوب (عليهم السلام) «إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ»(ص/46). وأيضاً قوله تعالى «وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ»(الجاثية/32). ونتيجة ذلك هو أنَّهم ابتلوا بالسيئات التِّي فضحوا بها يوم القيامة «وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون»(الجاثية/33). كلُّ ذلك من أجل النسيان «وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ»(الجاثية/34). ثمَّ إنَّ قوله تعالى وبالآخرة هم يوقنون يشتمل على القصر من خلال أمرين 1-تقديم الجار والمجرور وذلك كقوله تعالى «لإِلى اللَّهِ تُحْشَرُونَ»(آل عمران/158).. 2-تقديم المسند إليه أعني هم وهذا يعني أن الإيمان بالآخرة مقصور عليهم.. فهذا يدلُّ على مقام المتَّقين الشامخ حيث أنَّهم جعلوا الآخرة نصب أعينهم، لا خلف ظهورهم، فكلُّ توجههم إليها لا يلتفتون إلى غيرها أصلاً.. والشاهد على ذلك قوله تعالى «الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ»(النمل/3). وأهميَّة هذه العقيدة وخطورتها تظهر عند التأمُّل في قوله تعالى «.. وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ*الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ»(فصلت/6 7). . قال العاملي في الوجيز وفي تقديم الظرف وبناء يوقنون على هم تعريض بغيرهم من أهل الكتاب، وأنَّ ما هم عليه من أمر الآخرة غير مطابق ولا عن إيقان [386]..