إنّ وزان "العقيدة والعمل الصالح" وزان الجذور والسيقان في الشجرة
فكما أنّ تقوية الجذور موَثرّة في قوة السيقان، وكمال الشجرة و جودة ثمرتها،
فكذلك تهذيب السيقان ورعايتها بقطع الزوائد عنها وتشذيبها، وتعرضها لنور
الشمس، موَثرة في قوّة الجذور، إنّها علاقة تبادلية بين العمل والعقيدة كالعلاقة
التبادلية بين الجذور والسيقان.
أجل ذلك هو الحال بالنسبة إلى تأثير الاِيمان في العمل، وهكذا الحال
بالنسبة إلى تأثير العمل في الاعتقاد، فإنّ الذي ينطلق في ميدان الشهوة بلا قيد،
ويمضي في إشباع الغرائز إلى أبعد الحدود، يستحيل عليه أن يبقى محافظاً على
أفكاره واعتقاداته الدينية وقيمه الروحية.
إنّه كلّما ازداد توغّلاً في المفاسد ازداد بعداً عن قيم الدين، وهي تمنعه
عن المضى في سبيله والتمادي في عصيانه، وهكذا يتحرّر، عن تلك
المعتقدات شيئاً فشيئاً وينسلخ منها وينبذها وراءه ظهريّا.
وقد أشارت الآية الكريمة إلى هذه الحقيقة أيضاً.
وبهذا يعتبر الفصل بين العمل والكفر، بين العقيدة والسلوك على وجه
الاِطلاق نظرية خاطئة ناشئة من الغفلة عن التأثير المتقابل بين هذين البعدين.
ولهذا يسعى المستعمرون دائماً إلى إفساد الاَجواء الاجتماعية بهدف
إفساد الاَخلاق والسلوك تمهيداً لتغيّر الاَفكار والقضاء على المعتقدات.
وعلى هذا الاَساس صح التقسيم الثلاثي في سورة الواقعة إلى السابقين
وأصحاب الميمنة، وأصحاب المشئمة(1)
1. الواقعة: 7 ـ 39.
الجهة الرابعة : فيما يجب الإيمان به
الجهة الرابعة:
فيما يجب الاِيمان به
إذا كان النبي الاَكرم مبعوثاً من قبل الله سبحانه وموحى إليه، فيجب
الاِيمان بكل ما جاء به ولا يصح التبعيض بأن يُوَمنَ ببعض ويُكفرَ ببعض، فإنّ
ذلك تكذيب للوحى، غير أنّ ما جاء به النبي في مجال المعارف والاَحكام لمّا
كان واسعاً مترامي الاَطراف لا يمكن استحضاره في الضمير ثم التصديق به،
فلذلك ينقسم ما جاء به النبي إلى قسمين، قسم منه معلوم بالتفضيل كتوحيده
سبحانه والحشر يوم المعاد ووجوب الصلاة والزكاة، وقسم آخر معلوم
بالاِجمال وهو موجود بين ثنايا الكتاب وسنّة النبي الاَكرم، فلا محيص من
الاِيمان بما علم تفصيلاً بالتفصيل، وبما علم إجمالاً بالاِجمال، هذا هو الموافق
للتحقيق وما عليه المحقّقون.
قال عضد الدين الاِيجي: الاِيمان عندنا وعند الاَئمة كالقاضى(1)
والاَُستاذ(2)
ص: التصديق للرسول فيما علم مجيئه به ضرورة فتفصيلاً فيما علم
تفصيلاً، وإجمالاً فيما علم إجمالاً(3)
وقال التفتازاني: هو تصديق النبي فيما علم مجيئه به بالضرورة أي فيما
1. يريد القاضى الباقلانى (ت 403هـ).
2. يريد أبا إسحاق الاسفرائينى.
3. الاِيجي، المواقف: 384.
ما يجب الإيمان به تفصيلاً
اشتهر كونه من الدين بحيث يعلمه من غير افتقار إلى نظر واستدلال، كوحدة
الصانع ووجوب الصلاة وحرمة الخمر ونحو ذلك، ويكفي الاِجمال فيما
يلاحظ إجمالاً. ويشترط التفصيل فيما يلاحظ تفصيلاً حتى لو لم يصدق
بوجوب الصلاة وبحرمة الخمر عند السوَال عنهما كان كافراً، وهذا هو المشهور
وعليه الجمهور(1)
وعلى ضوء ذلك نقول: إنّ الاِيمان يتمثل بالاعتقاد بأُمور ويكفي في
انتفائه، انتفاء الاِيمان بواحد منها شأن كل أمر مركب يوجد بوجود جميع
الاَجزاء، وينتفي بانتفاء جزء منها.
ما يجب الاِيمان به تفصيلاً:
أمّا الذي يجب الاِيمان به تفصيلاً فهو عبارة عن الاَُمور التالية:
1 ـ وجوده سبحانه ـ جلّت عظمته وتقدّست ذاته ـ وتوحيده وأنّه واحد
لاندّ له ولا مثل، وقد تمثّل هذا النوع من التوحيد في سورة الاِخلاص، قال
سبحانه: (قُل هُو اللهُ أحدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَم يُولَدْ * وَلَم يَكُن لَهُ كُفُواً أحَدٌ) .
2 ـ أنّه متفرّد في الخالقية ولا خالق للعالم وما فيه إلاّ الله سبحانه، وقد أكد
القرآن على ذلك أشد تأكيد، قال سبحانه:
(قُلِ اللهُ خالِقُ كُلّ شَيْءٍ وَهُوَ الواحِدُ القَهّار) (الرعد ـ 16).
(اللهُ خالِقُ كُلّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَىْءٍ وَكِيل) (الزمر ـ 62).
(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلّ شَيْءٍ لا إلهَ إلاّ هُو) (الموَمن ـ 62).
1. التفتازاني: شرح المقاصد: 5/127.