الاَصل، وعند ذلك لا يكون الاِنكاران متماثلين في الحكم في جميع الجهات،
بل يقتصر في الثاني على حد خاص وهو تحقّق الملازمة عند المنكر. غاية الاَمر
يكون إنكار الضروري طريقاً إلى إنكار الرسالة، ما لم يُعلم عدم الملازمة عند
المنكر فيحكم بكفر المنكر إلاّ إذا ثبت بالقرائن أنّه لم يكن بصدد إنكار الرسالة،
وإنّما أنكرها لجهله وضعفه الفكري، كما إذا كان جديد العهد بالاِسلام وأنكر
حرمة الفائز مثلاً فيقبل منه ولا يقبل ممّا نشأ بين المسلمين منذ نعومة أظفاره إلى
أن شبَّ وشاب.
وحاصل الكلام: أنّ إنكار الضروري طريق عقلائي وكاشف عن إنكار
الرسالة ورفض الشريعة في مورد الاِنكار فيحكم بالكفر والارتداد، إلاّ إذا ثبت
عذره وجهله.
والفرق بين إنكار الاَصل، وإنكار ما يلازم إنكاره، هو أنّ الاَوّل أصل برأسه
وأُخذ في موضوع الاِسلام ودلّت الروايات على كونه جزء منه بخلاف التالى
فإنّ سببّيته عقلية، وطريقيّته عقلائية فيوَخذ بالطريق إلاّ إذا ثبت تخلّفه.
ثم الفرق بين السبب الثاني (جحد ما علم أنّه من الدين) وهذا السبب
واضح، فإنّ الملاك في السبب المتقدم هو كون جحد الجاحد عن علم بأنّه من
الدين بأحد النوعين، من غير فرق بين الاَُصول والفروع، وبين الضروري
وعدمه، وأنّما نعلم فقط أنّ جحده عن علم. وهذا بخلاف الملاك في السبب
الثالث فمتعلّق الاِنكار، هو ما علم أنّه من الدين بالضرورة من دون أن نعلم أنّه
أنكر عن علم أو لا. ولاَجل ذاك الفرق حكم بالارتداد في السبب الثاني بلا
استثناء لعدم قابليته له، بخلاف الاَخيرة فحكم بكفر المنكر مطلقاً سواء علم
حاله ـ وأنّه أنكره عن علم بأنّه من الدين ـ أو جهل حاله، إلاّ إذا علم أنّه أنكر لا
عن علم، فلاحظ.
أقسام الكفر
أقسام الكفر:
إنّ للكفر أقساماً ذكرها المتكلّمون وأصحاب المعاجم نشير إليها:
1 ـ كفر إنكار: وهو أن يكفر بقلبه ولسانه، فلا يعرف الله ولا رسوله، أو لا
يعرف الرسول فقط.
2 ـ كفر جحود: وهو أن يذعن بقلبه ولا يقر بلسانه بل يجحده، كما في
قوله سبحانه: (وَجَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتها أَنفُسُهُم) (النمل ـ 14).
3 ـ كفر عناد: وهو أن يعرف بقلبه ويقر بلسانه ولا يدين به، عناداً وحسداً.
ويمثل له ببعض كفار قريش كالوليد بن المغيرة، حيث عرف بقلبه واعترف
بلسانه بأعجاز القرآن لكنه لم يَدُنْ به ونسبه إلى السحر(1)
4 ـ كفر نفاق: وهو أن يقر بلسانه ولا يعتقد بقلبه كالمنافق(2)
وقسمه الاِيجي بصورة أُخرى وقال: الاِنسان إمّا معترف بنبوة محمد "صلى الله عليه وآله وسلم"
أو لا، والثاني إمّا معترف بالنبوة في الجملة وهم اليهود والنصارى وغيرهم، وإمّا
غير معترف بها، وهو إمّا معترف بالقادر المختار وهم البراهمة، أو لا، وهم
الدهرية. ثم إنكارهم لنبوته "صلى الله عليه وآله وسلم" إمّا عن عناد وإمّا عن اجتهاد(3)
وللتفتازاني تقسيم آخر للكفر حيث قال: الكافر إن أظهر الاِيمان خص
باسم المنافق، وإن كفر بعد الاِسلام فبالمرتد. وإن قال بتعدد الآلهة فبالمشرك،
وإن تدّين ببعض الاَديان فبالكتابى، وإن أسند الحوادث إلى الزمان واعتقد قدمه
فبالدهرى، وإن نفى الصانع فبالمعطّل، وإن كان مع اعترافه بنبوة النبي "صلى الله عليه وآله وسلم"
1. اقرأ كلماته في كتب التفاسير في تفسير قوله سبحانه: (ذرنى ومن خلقت وحيداً)(المدثر: 11 ـ
25).
2. الزبيدي: تاج العروس: 3 / 254، وابن منظور: لسان العرب: 5 / 144.
3. القاضي: المواقف: 389.