و انما الذي ذكرناه في النهي عن المبالغة،أردنا به أن القلب الصافي المعتدل هو الذيلا يجد حزازة في مثل تلك الأمور. فإن مالقلب موسوس عن الاعتدال، و وجد الحزازةفأقدم مع ما يجد في قلبه، فذلك يضره. لأنهمأخوذ في حق نفسه بينه و بين الله تعالىبفتوى قلبه. و كذلك يشدد على الموسوس فيالطهارة و نية الصلاة. فإنه إذا غلب علىقلبه أن الماء لم يصل إلى جميع أجزائهبثلاث مرات، لغلبة الوسوسة عليه، فيجبعليه أن يستعمل الرابعة و صار ذلك حكما فيحقه، و إن كان مخطئا في نفسه. أولئك قومشددوا فشدد الله عليهم و لذلك شدد على قومموسى عليه السلام، لما استقصوا في السؤالعن البقرة. و لو أخذوا أولا بعموم لفظالبقرة، و كل ما ينطق عليه الاسم، لأجزأهمذلك. فلا تغفل عن هذه الدقائق التي رددناهانفيا و إثباتا، فإن من لا يطلع على كنهالكلام و لا يحيط بمجامعه يوشك أن يزل فيدرك مقاصده.
و أما المعصية في العوض فله أيضا درجات:
الدرجة العليا: التي تشتد الكراهة فيها،
أن يشترى شيئا في الذمة، و يقضى ثمنه منغصب أو مال حرام. فينظر، فإن سلم إليهالبائع الطعام قبل قبض الثمن بطيب قلبه،فأكله قبل قضاء الثمن، فهو حلال، و تركهليس بواجب بالإجماع، أعنى قبل قضاء الثمن.و لا هو أيضا من الورع المؤكد. فإن قضىالثمن بعد الأكل من الحرام، فكأنه لم يقضالثمن.
و لو لم يقضه أصلا، لكان متقلدا للمظلمةبترك ذمته مرتهنة بالدين، و لا ينقلب ذلكحراما.
فإن قضى الثمن من الحرام، و أبرأه البائعمع العلم بأنه حرام، فقد برئت ذمته. و لميبق عليه إلا مظلمة تصرفه في الدراهمالحرام بصرفها إلى البائع. و إن أبرأه علىظن أن الثمن حلال، فلا تحصل البراءة، لأنهيبرئه مما أخذه إبراء استيفاء، و لا يصلحذلك للايفاء. هذا حكم المشتري و الأكل منهو حكم الذمة و إن لم يسلم إليه بطيب قلب، ولكن أخذه، فأكله حرام، سواء أكله قبلتوفية الثمن من الحرام أو بعده. لأن الذيتومئ الفتوى به ثبوت حق الحبس للبائع، حتىيتعين ملكه بإقباض النقد، كما تعين ملكالمشتري. و إنما يبطل حق حبسه، امابالإبراء أو الاستيفاء، و لم يجر شيءمنهما. و لكنه أكل ملك نفسه، و هو عاص بهعصيان الراهن