"الطليعية" ملتبسة بالوجودية وبالعبث
تلعب سيرورة الشخص دوراً هاماً في تحولاته، وتلقي بظلالها على أفعاله، ومنها فعله الإبداعي، هكذا أرى الأمر بعيداً عن مدارس الحداثة الغربية التي قالت بموت المؤلف في نصه، ثم طالت النص نفسه بالتفكيك إقصاء للمعنى. لهذا اعتبر مسرحية القلعه جي "غابة غار" جسراً بين الشاعر الذي فيه، وبين المسرحي الذي يطمح أن يكونه، لا سيما لجهة اللغة الشعرية التي كانت محرق جملته المسرحية، طاغية على ما عداها من خصوصية اللغة المسرحية في "غابة غار" ثم توارت في النصوص اللاحقة لصالح الدراما، وإن لم تختف ظلالها تماماً، ثم هناك التجريد، والحدث المجرد، والأفكار المجردة التي يفترضها الشعر بخصوصيته بين الأجناس الأدبية.. في الشعر يطغى صوت الأنا في مواجهة عالم خارجي مقاد غالباً، بينما يفترض المسرح تعدد الأصوات حتّى داخل الصوت الواحد.حمل القلعه جي من الشعر لغة عالمة وذاتاً يائسة من أي تغيير لصالح المتسامي في البشر، كما حمل أسئلة ذات ظلال وجودية، وتشاؤماً ذا ظلال نيتشوية، وعبثاً إزاء كل صيرورة دنيوية لا تتخطى دنياها إلى اليقين السرمدي.. كل هذا على أرضية من نشأة دينية في فضاء الحارة الشعبية الحلبية، قريباً من قلعتها ومن مزارات المتصوفة والتكايا والأذكار. الصبغة التشاؤمية في نصوص مرحلته الأولى، عززتها النكسة، حتى لكأنها صرخة إنسانية لا خلاص فيها ولا أمل، أما فضاءات نصوص تلك المرحلة فمغلقة.. الكهف في مسرحيته "طفل زائد عن الحاجة" حيث يدور حوار الزوج وزوجته في اللايقين، بعد انقطاع أي اتصال لهما مع العالم الخارجي، في حين ينتظران طفلاً لن يولد، رغم كل سمات الحمل، بل إنه الطفل الزائد عن الحاجة، وفي الدلالة يصير الوجود الإنساني نفسه زائداً عن أي حاجة في زمان مهشم وعقيم وقابل للفساد كالمشيمة ذاتها.. هل هذه إحالة إلى أمةُّ هُزمت؟! محصلة مثل هذه الصيرورة أن يتحول الزوجان في نهاية النص إلى تمثالي مانيكان.. إنهما يتشيأان بعد اغتراب دواخلهما بالتعارض مع كل خارجي فاسد ومهزوم.
في نصه "اللحّاد" تغوص مدينة في باطن الأرض ـ أي:
إلى مكان مغلق ـ لا يتبقى منها سوى المقبرة ـ والمقبرة فضاء مغلق ـ وسوى لحّادها في مواجهة رسام يعلق لوحاته على شواهد القبور.. "رسومه غامضة، قاتمة الألوان، ضبابية" وبعد حوارات ذهنية مستفيضة عن الجدوى وعن اليقين يتمدد الرسام طواعية في قبر، والقبر رحم مغلق، ليبقى اللحّاد سيد مكانه وزمانه.. فهذا عصر لا يحتاج لغير اللحّادين.