بل تزداد قوته على المعارضة إذا داوم على تفكيره في قبح الأعمال وعلى إرادة ترك القبيح فإنه يسهل عليه الأمر جدا كما هو واضح للمشاهدات والوجدان وأن المداومة تؤثر حتى في الطبيعيات وتحدث في أعضاء الجسم قوة. ترى الانسان إذا تعلقت إرادته بالركض الشديد فاشتد ركضه فإنه لا يقدر حينئذ بحسب طبيعية الجسم على الوقوف بأول فكرة فيه وأول إرادة له وذلك لما يحصل له من قوة الحركة (وهي الحالة التي تسمى عطلة الحركة) ولكنه إذا أقبل على تفكيره في الوقوف وإرادته له فإنه يأخذ بتخفيف الركض إلى أن تزول تلك العطلة فيقف. على أن ألفة العمل القبيح ليست طبيعية مثل عطلة الحركة التي تسلب الأعضاء والعضلات قدرتها على ضد الحركة ما دامت العطلة. ألا ترى أن أشد الناس انهماكا بالأعمال الفاسدة وألفة لها يجعل إلفته وانهماكه بها تحت قدمه دفعة واحدة إذا حصل له بعض الدواعي التي يمعن فيها بالتفكير وذلك مثل حكم معشوقته أو حضور من يحتشمه أو يخاف منه أو يرجوه أو غير ذلك كما ذكر قريبا. ولكن يا للأسف إن فكرة الصلاح والكمال يتساهل فيها.
مخادعات الأهواء
مخادعات الأهواء
عمانوئيل: ما أدري ما هذه التشكيكات في أمر المعاد والحساب. وما هي إلا من مغالطات الأهواء للفكر. وكثيرا ما يغالط المتمرد المتهور بهواه في الأخطار فيدعي أنه آمن وليس وراءه خطر بل ربما يغالط عقله بذلك ومن نحو ذلك ما ينقل عن (أبيقورس) من قوله (إن راحة البال التي تقوم بها سعادة الانسان هي في اضطراب دائم من جري الريب الواقع من نسبة الانسان إلى الخليقة وإلى الله) يا للعجب ما هي سعادة الانسان التي تقوم براحة البال المضطربة من الله.
هل هي سعادة الأخلاق الفاضلة والعلم والأعمال الصالحة، والمعارف المستقيمة. والعدل والاستقامة وترك الفساد، والتنزه عن الأعمال الشريرة. يا للعجب كيف تضطرب راحة البال في هذه السعادة من الله. بل إن صاحبها وباله وأمله في ابتهاج عظيم ببشرى سعادة أكبر منها عند الله وبشري قبول وكرامة وفضل عند الناس. أم يزعم ويراد من سعادة الانسان تقلبه في رجاسات الدعارة والفساد والشهوانية والخلاعة ورذالة الأخلاق هذه الرذائل التي ينبغي لصاحبها أن يكون دائم الاضطراب من الله ومن الناس إن كان له عقل وحياء. فهب أن هذا الزاعم يأمل أن تقام له حفلة التبريك بهذه السعادة التي يستهزئ بها الشعور ولكن كيف يرتفع الاضطراب بمغالطة الجحود لله لأجل تأمين هذه التي يسميها سعادة. وليأسف هذا المغالط فإن راحة باله التي تقوم بها سعادة أهوائه لا تزال مهددة بالسياسة وتأديبها حتى السياسة الاشتراكية فإنها تهدد راحة باله في سعادته بدعارته وأهوائه التي يسلب بها حرية غيره.
اليعازر: هؤلاء الذين يغالطون وتغالطهم أهواؤهم بجحود الله ويوم القيامة مثلهم كمثل مديون ضايقه الدائن بالمطالبة فجلس في بيته مفكرا مهموما لا يكلم امرأته ولا أولاده ثم رفع رأسه مبتهجا فقالت له ماذا صنعت في أمر الدين والدائن فقال قد وجدت لي من ذلك مخرجا حسنا. أجحد على الدائن ثلث الدين وأدعي عليه أني وفيته مقدار ثلث وحينئذ لا بد أن يستحي ويسامحني من الباقي إذا طلبت منه المسامحة.
هذا الرجل يريد أن يرجع إلى إسرافه وتمرده على الدائن وعلى شرف الذمة فصارت أهواؤه تسخر به وتبعثه على أن يتصامم عن توبيخ عقله ويغالط بهذه المغالطة التي يستهزئ فيها إلا بنفسه.. ومن العجب أن بعض من ينتسب إلى بعض الأديان لا يرضى أن يقال إنه مادي ومع ذلك يحتج لأهوائه ومضادة الأديان بهذه الشبهات الواهية.
وكأنه لا يدري أن هذه الأحوال تنادي بأنه مادي ومنافق ومخدوع مخادع.