وجهة النظر فی روایات الأصوات العربیة نسخه متنی
لطفا منتظر باشید ...
وعلى نحو آخر نجد (نجيب محفوظ) قد أعلن عن نفسه بشكل غير مباشر في روايته (ميرامار) على الرغم من اختفائه الجيد، إلا أنه أعلن عن وجهة نظره من خلال البناء والتنظيم والتنفيذ لحدود الأصوات، فهو يقدم صورة الكارهين للثورة بشكل لا يبعث ولا يساعد على التعاطف معهم، ثم برزت الأصوات المناهضة للفكر الثوري في قدرة حوارية ضعيفة، وبحجم ثقافي محدود إذا ما قيس باختياره للأصوات المؤيدة للثورة، وكان (طلبة مرزوق) مكروهاً في البنسيون أما (حسني علام) فكان رمزاً للجاهل المستهتر.. ولأنهما من الإقطاعيين فكان من الطبيعي أن يناهضا الفكر الثوري، لكن المؤلف لم يمكنهما من الحوار القوي لإبراز وجهة نظرهما. وحتى (منصور باهي) كان مناهضاً للفكر الثوري ولكن الروائي لم يعطه فرصة التعبير عن وجهة نظره، ولم يبرزها بشكل سردي أو حواري، واكتفى بالإشارة فقط إلا أن أخاه قد أنقذه من ورطة الاعتقال، ولكننا لا نعرف نوع ممارساته الفكرية المناهضة للثورة وظل ذلك سراً حتى انتهت الرواية. وجعل المؤلف حوارات المناهضين للثورة غير حماسية وغير مقنعة لأن (حسني علام) كان جاهلاً، ولأن (طلبة مرزوق) كان يهيئ نفسه للسفر خارج البلاد. بينما كانت حوارات وحماسات المؤيدين للثورة قوية ومترادفة حتى كادت تمثل وعيا جمعياً عند (البحيري /وعامر وجدي) وعلى نحو رمزي عند (زهرة). وتلاحظ أيضاً أن المؤلف قد ألقى على الثورة ظلالاً من وعي الشخصيات الناضجة المتزنة مثل (عامر وجدي/ البحيري..) فجرى التأكيد ولم يجر التعبير. نعم فكر المؤلف كائن من بعيد، ولكن ليس على المؤلف أن يبرمج الأصوات لتتويج فكرة كما فعل (القعيد)، أو ينظم ويختار أصواته بشكل يبرز وجهة نظره كما فعل (نجيب محفوظ)، لأن مؤلف الأصوات ينبغي أن يكون حيادياً، وقد بالغ بعض الأدباء الروس في هذه الحيادية لدرجة أنه وصف حياديته بأنها ينبغي أن تكون باردة كالجليد. إنه الروائي الروسي (ن.غ. تشيرنيشيفسكي) الذي أعلن الحيادية المفرطة ليقاوم توجهات الرواية المنولوجية، وكان يقول بأنه يظهر رأي الأصوات أما هو فيحتفظ برأيه لنفسه. وهذا الرأي فيه درجة من التطرف الحيادي لأنه من غير المعقول أن يجمد الروائي أحاسيسه ومشاعره، وقد وجد النقاد صعوبة كبيرة لتحقيق هذه الدرجة المبالغ فيها من الموضوعية. وهنا نقترب من التحديد الدقيق لموقع كاتب رواية الأصوات، فلا هو ظاهر كما نجده في الرواية التقليدية، ولا هو حيادي لدرجة البرود والجمود كما قال (تشيرنيشفسكي) وإنما هو في درجة وسط. "ومؤلف رواية الأصوات مطالب لا بالتنازل عن نفسه، ولا عن وعيه- كما قال تشيرنيشفسكي- وإنما يتوسع ويتعمق إلى أقصى حد في إعادة تركيب هذا الوعي من أجل أن يصبح قادراً على استيعاب أشكال وعي الآخرين المساوية له في الحقوق. في رواية الأصوات يتنازل الكاتب عن حقوقه ومهامه كلية للصوت، ليقدم نفسه، ويرصد وعيه بذاته وبالآخرين رصداً حراً، وتصبح استقلالية الأصوات مقدرة بحجم اختفائه، وبحجم الحد التنفيذي لخطة الروائي الساعي إلى الاكتشاف لا إلى التسجيل وهذا الاكتشاف هو الذي يساعد بدوره على الاحتفاظ بمسافة طبيعية بين الروائي وأصواته علماً بأن منطق الوعي الذاتي للروائي لا يسمح إلا بوسائل فنية محددة للكشف والتصوير. وإذا كنا سنسعى للبحث عن وجهة النظر الكلية في الرواية فهذا لن يلغي استقلالية وأهمية وجهات نظر الأصوات الروائية، لأن وجهة نظر المؤلف الكلية قد تفهم بالتأويل من مصادر مختلفة كالبناء والتكنيك واختيار الموضوع والأصوات ولأن المؤلف هو القائد للتماس الحواري الكبير بين الأصوات، لكن وجهة نظر الصوت الجزئية تفهم من خلال حديثه عن نفسه وحديثه مع الآخر بشكل مباشر إذن فوجهة نظر المؤلف الكلية تمثل كلمة حول الكلمة، كلمة كلية تأويلية لا تلغي الكلمة الجزئية للصوت، ولا تعلن اتحادها أو التباسها وتوافقها وإنما تظل محتفظة بكيانها الاستقلالي إذن فكلمة المؤلف هي كلمة حول الكلمة، وكلمة (حول) هنا تحتفظ بحقوق الاستقلال لوجهتي النظر الكلية والجزئية.