اتخذ له مثلا و شريكا ، و هذا مفهوم واسع له جوانب مختلفة و أبعاد متعددة فالشرك مختص بمقام الذات بل يجرى في ناحية الصفات ، و كذا في الافعال كالخلق و الرزق ، و فى العبادة ، حيث انه على وزان التوحيد الذي ينقسم على أربعة أقسام ، و له أربعة معان : توحيد الذات و توحيد الصفات ، و توحيد العبادة ، و توحيد الخلق .فالمشرك تارة يعتقد الشريك له تعالى في ناحية الذات الذي هو واجب الوجود و يقول بأصلين قديمين بالذات .و اخرى يقول به في مقام الصفات بان كان يرى صفات الله تعالى زائدة على ذاته .و ثالثة في مقام العبادة بان يجعل العابد في عبادته نصيبا لغير الله و لو بان يعبد الله لزعمه انه واسطة بينه و بين الله تعالى و مقربه اليه كعبدة الاصنام و الاوثان الذين كانوا يجعلونها و سائل و ذرائع إلى الخالق و قد بينهم الله تعالى في القرآن الكريم بقوله : " و الذين اتخذوا من دونه أوليآء ما نعبد هم الا ليقربونا إلى الله زلفي ان الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون ." 1 و رابعة بالنسبة إلى مقام الصنع و تدبير النظام و فى مقام الخلق و الرزق بان يسند الخلق أو الافعال الخاصة بالله تعالى إلى غيره ، فإذا أنكر كون الله خالقا لكل المخلوقات فلا بد من ان يسند الخلق إلى غيره سبحانه لعدم إمكان تحقق الممكن و وجوده بدون علته ، و اسناد الخلق إلى غيره تعالى هو اشراك الغير مع الله تعالى في الخلق واقعا ، و نسبة عمل خاص بالله إلى غيره شرك حقيقة سواء أثبته لله تعالى ايضا ام لا ، بل و ان أنكر أصل وجوده تعالى فيجرى عليه حكم المشرك ، و من المعلوم ان هذا المفهوم الواسع العام الذي ذكرناه للمشرك شامل لجميع الكفار 1 .سورة زمر الآية 3
(15)
أو أكثرهم فيدخل في هذا العنوان : الدهرية و المجوس و اليهود و النصارى و غيرهم بواحد من معانيه و نواحيه .و ان شئت فقل انه و ان أطلق المشرك لكنه أريد منه الكافر مطلقا و ان لم يطلق عليه المشرك اصطلاحا .و يؤيد ذلك قوله تعالى : " ان الله لا يغفر ان يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء و من يشرك بالله فقد افترى اثما عظيما " 1 فقد صرح بانه لا يغفر كبيرة الشرك ، فهل ترى من نفسك ان لا يغفر الله لمن اشرك به و جعل له ندا و نظيرا و لكنه سبحانه يغفر من أنكر أصل وجوده تعالى و لم يعتقد بالصانع و الخالق كالدهرية الذين يقولون : " ما هى الا حياتنا الدينا " 2 ؟ فهو ايضا كمن اشرك بالله و لذا لا نتمسك هنا بالاولوية على ما تمسك به البعض ، فلعلها مستهجنة بل نقول : ان المراد من الشرك هو مطلق الكفر و يكون هو اسما و اصطلاحا لجيمع أصنافه ، و عنوانا مشيرا إليها ، كما يظهر ذلك من التأمل في سياق الآية الكريمة حيث وقعت في ذيل الخطاب بأهل الكتاب ، قال الله تعالى : " يا أيها الذين اوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل ان نطمس وجوها فنردها على ادبارها أو نلعنهم كما لعنا اصحاب السبت و كان امر الله مفعولا ان الله لا يغفر ان يشرك به . " و الحاصل : ان الكفر ذنب لا يغفر اى صنف من أصنافه كان ، و مطلق الكفر على اختلاف اشكاله و مجرد التدين بغير دين الله شرك ، و يترتب عليه احكامه فتارة يحكم على المتصف به بالنجاسة و اخرى بمنع دخول المساجد و ثالثة 1 .سورة النساء الآية 48 2 .سورة الجاثية الآية 24 و مثلها قوله تعالى حكاية عن قولهم : " ان هى الا حياتنا الدنيا نموت و نحيا و ما نحن بمبعوثين ، سورة المؤمنون الآية 37 "
(16)
بوجوب مقاتلته ، فترى انه تعالى يقول : " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر و لا يحرمون ما حرم الله و رسوله و لا يدينون دين الحق من الذين اوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون " 1 فانه قد حكم بقتال جميع هذه الاصناف و من له هذه الاوصاف ، فالأَوصاف المذكورة كفر و هي ايضا شرك .و الحكم بالنجاسة ، و المنع من دخول المسجد ، و وجوب المقاتلة ، و غيرها أحكام مترتبة على الكفر .و ان شئت زيادة توضيح و تأييد في المقام الفكر في ساير آيات هذه السورة و أمعن النظر في قوله تعالى فيها : " ما كان للمشركين ان يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر . " 2 فقد ابتدأ بذكر المشركين و وصفهم بقوله : " شاهدين على أنفسهم بالكفر " فلو لم يكن المراد من المشرك هو الكافر لكان اللازم ان يقول : شاهدين على أنفسهم بالشرك ، و على هذا فيستفاد منه ان السبب الوحيد في منع المشركين عن عمارة مساجد الله هو الكفر .و انظر إلى قوله تعالى : " و قالت اليهود عزير ابن الله و قالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهون قول الذين كفروا قاتلهم الله انى يؤفكون اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله و المسيح بن مريم و ما امروا الا ليعبدوا الها واحدا لا اله الا هو سبحانه عما يشركون " 3 فان من المعلوم ان هؤلاء الذين ذمهم الله تعالى و عيرهم باتخاذ الاحبار و الرهبان أربابا و لا مهم على ذلك لم يتخذوا الاحبار و الرهبان شركاء لله في ذاته أو في خلقه بل اتخذوهم أربابا في العبادة نظير ما صدر عنهم في مورد المسيح و 1 .سورة التوبة الآية 29 2 .سورة التوبة الآية 17 3 .سورة التوبة الآية 31 - 30
(17)
تشريع الاحكام و تحريم الحلال و تحليل الحرام و قد سمى الله تعالى عملهم شركا و قال : " سبحانه عما يشركون ." و الحاصل : ان اليهود و النصارى مشركون في صريح القرآن 1 و لذا قال العلامة في التذكرة ج 1 ص 442 في ضمن شرائط الذمة : و لا يظهروا شركهم في عيسى و عزيز انتهى .و على هذا الجملة فاتخاذ الله في قباله معبودا و مطاعا ايضا شرك ، كما ان اتخاذ الشريك له في ذاته و جعل الا بن و الانداد و الامثال له تعالى شرك . 1 .قال الفاضل المقداد رضوان الله عليه عند الحكم بتحريم نكاح الكتابية و الاستدلال عليه : انهن مشركات و كل مشركات نكاحهن حرام فنكاح اليهوديات و النصرانيات حرام اما الصغرى فلقوله تعالى : " و قالت اليهود عزير ابن الله و قالت النصري المسيح ابن الله إلى قوله سبحانه : عما يشركون " و اما الكبرى فلقوله تعالى : " و لا تنكحوا المشركات حتى يؤمن " ( سورة البقرة الآية 220 ) و الجمع المعرف بلام الجنس للعموم .ان قلت : الصغرى ممنوعة اذ لا قائل اليوم من اليهود بذلك بل كان شرذمة و انقرضوا فلا يتناول الحكم الموجودين اليوم .قلت : الحجة في قوله تعالى لا في قولهم و قد أخبر الله تعالى عنهم بذلك إذا الجمع المحلى باللام للعموم كما تقرر في الاصول إلى آخر كلامه فراجع التنقيح الرائع ج 3 ص 97 أقول : هذا مضافا إلى ان قولهم بالتثليث : الاب و الا بن و روح القدس ، معروف .و حكى الشيخ محمد عبده عن كتاب اظهار الحق : نقل انه تنصر ثلاثة أشخاص و علمهم بعض القسيسين العقائد الضرورية سيما عقيدة التثليث و كانوا في خدمته فجاء محب من احباء هذا القسيس و سأله عمن تنصر ، فقال : ثلاثة أشخاص تنصروا فسأل هذا المحب : هل تعلموا شيئا من العقائد الضرورية ؟ فقال : نعم ، و طلب واحدا منهم ليرى محبه فسأله عن عقيدة التثليث فقال : انك علمتني ان الآلهة ثلاثة : أحدهم الذي هو في السماء ، و الثاني الذي تولد من بطن مريم العذراء ، و الثالث الذي نزل في صورة الحمامة على الاله الثاني بعد ما صار ابن ثلاثين سنة فغضب القسيس و طرده و قال : هذا مجهول ، ثم طلب الآخر منهم و سأله فقال : انك علمتني ان الآلهة كانوا ثلاثة و صلب واحد منهم فالباقي الاهان فغضب عليه القسيس ايضا و طرده ، ثم الثالث و كان ذكيا بالنسبة إلى الاولين و حريصا في حفظ العقائد فسأله فقال : يا مولاى حفظت ما علمتني حفظا جيدا و فهمت فهما كاملا بفضل السيد المسيح : ان الواحد ثلاثة و الثلاثة واحد و صلب واحد منهم و مات فمات الكل لا جل الاتحاد و لا اله الآن و الا يلزم نفى الاتحاد انتهى راجع المنار ، ج 6 ص 458
(18)
و بعبارة اخرى كما ان المجوس القائلين بفاعلين فاعل الخير المسمى عندهم ب ( يزدان ) و فاعل الشر المسمى عندهم ب ( اهريمن ) و المعتقدين بالنور و الظلمة مشركون ، كذلك من اتخذ الها و معبودا آخر سوى الله يكون مشركا ، و كما يتحقق الشرك بالقول بتعدد واجب الوجود ، كذلك يتحقق بإنكار الله تعالى و جعل ما كان له سبحانه لغيره .و ان ابيت مع ذلك كله عن قبول كون الثاني من الشرك و التزمت بكونه كفرا في الحقيقة لا شركا فالذي يسهل الخطب هو استعمال الشرك في الكفر و الكفر في الشرك في القرآن الكريم ، و التعبير عن كل واحد منهما بالآخر 1 من باب استعمال اللفظ الموضوع للخاص في العام ، و بالعكس ، و فيما نحن فيه استعمل الشرك في الكفر ، و القرينة القطعية قائمة على إرادة الكفر من الشرك ، و هى عدم مناسبة منع المشرك المصطلح اعنى من اتخذ شريكا لله سبحانه عن دخول المسجد مع تجويز ذلك لمن أنكر الله تعالى و نفاه من اصله و جحد مبدأ الكون رأسا .و بعبارة اخرى لا ملائمة بين منع المشرك ، و بين اباحته بالنسبة إلى المنكر .و مما يشهد لاطلاق الشرك على الكفر ما روى عن الفضل : دخل على ابى 1 .فترى ان الله تعالى يقول : " لقد كفر الذين قالوا ان الله هو المسيح بن مريم و قال المسيح يا بني إسرائيل اعبد و الله ربي و ربكم انه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة و مأويه النار " سورة المائدة الآية 75 ، فقد أطلق الشرك على ما هو كفر اصطلاحا و عبر عنه بالكفر أولا في نفس الآية ، و قال تعالى : " لقد كفر قالوا ان الله ثالث ثلاثة و ما من اله الا اله واحد و ان لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب اليم " سورة المائدة الآية 76 .ترى انه أطلق الكفر على القول بان الله ثالث ثلاثة الذي هو شرك صريح ، و هذه الآية مشعرة بان الله عند اليهود ثاني اثنين ، قال في الجواهر : و لا خفاء في ان القول بكون الله ثاني اثنين أو ثالث شرك محض و مع ذلك يقول الله تعالى : " ليمسن الذين كفروا منهم عذاب اليم " انتهى .
(19)
جعفر عليه السلام رجل محصور عظيم البطن فجلس معه على سريره فحياه و رحب به فلما قام قال : هذا من الخوارج كما هو قال : قلت : مشرك فقال : مشرك و الله مشرك .1 ترى ان الامام ابا جعفر عليه السلام أطلق المشرك على هذا الذي كان من الخوارج مع انهم مؤمنون بالله يوحدونه و لا يشركون به شيئا بظاهر حالهم و مقالاتهم و لا يعتقدون في الله شيئا يخالف عقيدتنا بل شعار هم الخاص بهم الذي قالوا تجاه أمير المؤمنين على عليه السلام مخاطبين له : لا حكم الا لله ، هذا .و لكن الانصاف انه على فرض كون الشرك و الكفر شيئين و ان الاول اخص من الثاني فمجرد إطلاق المشرك على الكافر في بعض الموارد لا يوجب و لا يقتضى ظهور الآية الكريمة ايضا في ذلك .أللهم الا ان يقال باستفادة ذلك بمناسبة الحكم و الموضوع ، فان العرف إذا سمع قول الله تعالى : انما المشركون نجس ، و قوله تعالى : و قاتلوا المشركين كافة ، يفهم بارتكازه ان ما هو المناط في نجاستهم هو الكفر و ان الملاك في وجوب مقاتلهم ذلك ايضا فحيثما وجد و تحقق هذا المعيار اعنى الكفر يترتب عليه حكم النجاسة و وجوب المقاتلة ، و لا يفهم ان هذين الحكمين اختصا بالمشرك بمعناه الخاص و الا لكان منكر المبدأ خارجا عنه ، و على الجملة فالعرف لا يرى له خصوصية أصلا بل يفهم ان الكافر نجس و يجب مقاتلته و ان هذين الحكمين و كذا هما من الاحكام تجري على كل فرد من افراد الكافر .نعم قد يحكم الشارع بحكم خاص على صنف خاص من الكفار دون غيره لمصالح خاصة نظير وجوب القتل المختص بالكافر الحربي دون غيره لان حفظ المملكة الاسلامية و كيان المسلمين و إعلاء كلمتهم و سياسة النظام و تدبير 1 .ذكرى الشيعة للشيخ الشهيد ص 13 ، و ضبط اسم الراوي فضيلا .
(20)
الامور و جريانها تقتضي قتل الحربي دون المتسالم الذي يعطى الجزية ، و من المعلوم ان هذه الاحكام معدودة مضبوطة مستفادة من ادلة خاصة و الا فلا فرق بين أصناف الكفار ، هذا ، و قد فسرت الآية في كلمات المفسرين على نحو ما ذكرناه .ان قلت : فإذا كان المشركون نجسا لا لخصوصية شركهم بل بملاك كفرهم كما ذكر فما وجه العدول عما هو الملاك التام إلى غيره ؟ و لما ذا لم يقل الله تعالى : انما الكافرون نجس ؟ نقول : لعل ذلك لان الكافر الذي يدخل المسجد الحرام و كان بينه و بين المسلمين ارتباط و مواصلة و يتكاتفون معه في التجارات و ترويج الاسواق و الذى ابتلى به المسلمون كان كافرا خاصا و هو المشرك و اما الآخرون فلم يكن لهم اهتمام بالمسجد بل كانوا - كما تعلم - يأتون بالفيل لهدم أساسه و تخريب بنيانه قال الله سبحانه : " ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ." 1 و الحاصل : ان الآية نازلة حسب حوائجهم و ابتلائاتهم و مطابقة لشئونهم و حالاتهم و الا فالكفر بواقعه ملة واحدة في اى صورة و حالة و على اختلاف شعبه و تشتت مناهجه و اغصانه و مهما تغير شكله و تبدلت ألوانه .و اما ما ترى من قبول الجزية من اليهود و النصارى دون غيرهما من أصناف الكفار فهو لمكان اعترافهم بالله و قبول الانبياء و الكتب السماوية خصوصا بلحاظ احتوائها لاخبار خاتم النبوات فهم لا محالة في معرض الانتباه و الاستبصار ، و ينتظر منهم الرجوع ، و إقبالهم إلى الاسلام و اعتناقهم به بخلاف المشركين و الملحدين فانه لا يظن بهم و لا يرتجى منهم ذلك غالبا .فالجزية و غيرها من الاحكام الخاصة الاخرى الجارية في خصوص اليهود و النصارى لا 1 .سورة الفيل الآية 1