انه لا خلاف قطعا في نجاسة المشركين و منكري الصانع و أمثالهم ، و على الجملة فهذا هو مذهب علمائنا الاخيار المتفرقين في البلدان و الامصار ، طيلة قرون و إعصار ، فهم أجمعوا على نجاسة الكفار و لم يخالفوا في ذلك ، نعم نسب الخلاف إلى شاذ منهم و هو الشيخان - المفيد و الطوسي - و القديمان - العماني و الاسكافى - و لكن الظاهر عدم خلافهم ايضا فيما هو المقصود ، فان السبب في عد الشيخ من المخالفين انه قال في النهاية 1 : و يكره ان يدعو الانسان احدا من الكفار إلى طعامه فيما كل معه فان دعاه فليأمره بغسل يديه ثم يأكل معه ان شاء انتهى .حيث انه عبر بالكراهة و لم يقل يحرم و مفاد كلامه ان المؤاكلة مع الكفار للمسلم مكروه ، و كذا قال بانه لو دعاه إلى طعامه فليأمره بان يغسل يده ثم يأكل هذا المسلم مع الكافر الذي غسل يديه ، فلو كان نجسا ذاتيا فكيف يؤمر بغسل يديه ؟ و هل غسل اليد يرفع النجاسة العينية و يزيلها ؟ .و على الجملة فكراهة الاكل معه و امره بغسل اليدين ينافيان النجاسة العينية الذاتية .و فيه انه قدس سره قال في النهاية قبل العبارة المذكورة بأسطر قليلة : لا يجوز مؤاكلة الكفار على اختلاف مللهم و لا استعمال أوانيهم الا بعد غسلها بالماء ، و كل طعام تولاه بعض الكفار بأيديهم و باشروه بنفوسهم لم يجز ا كله لانهم انجاس ينجس الطعام بمباشرتهم إياه و قد رخص في جواز استعمال الحبوب و ما اشبهها مما لا يقبل النجاسة و ان باشروها بأيديهم ، انتهى كلامه رفع و قال علم التحقيق شيخنا الانصاري قدس سره في طهارته بعد ادعاءه الاجماعات المستفيضة : بل يمكن دعوى الاجماع المحقق .1 .كتاب الا طعمة و الا شربة باب الا طعمة المحظورة و المباحة ص 589
(57)
مقامه .1 و هذه العبائر كما ترى صريحة جدا في نجاستهم بحيث لا تنالها أيدي الاحتمالات و هي نصوص قاطعة منه قدس سره على موافقته للمشهور في نجاسة الكفار ، و انهم من النجاسات ، فهل يمكن ان يقال انه نسى تلك العبارات الناطقة بالمطلوب ، و غفل عنها أو انه رجع عن الحكم في هذه المسافة القصيرة و الاسطر القليلة ، و افتى بخلافه ؟ .فحينئذ لابد من رد اللاحق إلى السابق و حمل عبارته الاخيرة على ما لا تخالف كلامه الصريح 2 .و هذا بمكان من السهولة ، و حمل الظاهر على النص امر رائج عند الفقهاء .و يؤيد ذلك ان إرادة الحرمة من الكراهة و استعمال الكراهة في الحرمة في كلمات اصحابنا السابقين و اساطير أعلامنا الماضين عزيز ، و ارادة المعنى اللغوي من الكراهة في عرف القدماء شايعة 3 .و ان ابيت عن ذلك فنقول : سلمنا إرادة الكراهة المصطلحة من لفظ الكراهة ، الا ان المراد من المؤاكلة هنا المؤاكلة في اليابس .و اما الامر بغسل يده ثم الاكل معه فلا يستلزم جواز الاكل معه بعد ذلك مطلقا حتى في إناء واحد كى يستلزم ذلك كونه طاهرا بالذات بل المقصود من غسلها نظافتها و رفع القذارة عنها كيلا يتنفر الجلساء 4 فيأكل هذا من إناء و ذاك 1 .نفس الصفحة المذكورة 2 .بتنزيل الطعام على ما ليس برطب ، و ما لا سراية فيه كطبخ الارز ، يأكل من جانب ، و غسل اليدين لا زالة ما عساه يعلق بأيديهم من اقذارهم ثم ينتظر حتى يجف ، كذا في و سائل الشيعة للفقيه الكاظمي ص 145 3 .أقول : و قد صرح في المبسوط بنجاسة أوانى المشركين واهل الكتاب و ساير الكفار إذا باشروها باجسامهم فراجع ج 1 ص 14 4 .أقول : و قد تعرض لهذا ، المحقق في نكت النهاية و أجاب ببعض ما افاده سيدنا الاستاذ ، دام ظله العالي و إليك عين العبارة : قوله و يكره ان يدعو الانسان واحدا من الكفار إلى طعامه
(58)
من آخر و المؤاكلة مع لا يستلزم وحدة الانآء ايضا .هذا بالنسبة إلى شيخ الطائفة اعلى الله مقامه .و اما الشيخ المفيد قدس الله أسراره فقد عبر في الرسالة الغرية بالكراهة في اسئارهم و صار هذا التعبير منه سببا في عده ايضا من المخالفين .لكن الظاهر عدم دلالته على كونه قائلا بطهارتهم ، لا مكان إرادة الحرمة من الكراهة كما ذكرناه آنفا .و يؤيد ذلك انه في هذه الرسالة من كتبه افتى بالنجاسة .هذا مضافا إلى ان اتباعه و تلاميذه الذين هم أعرف بمذهبه و فتاواه من غيرهم ادعوا الاجماع على النجاسة ، و لم ينقلوا عنه خلافا ، و لا القول بكراهة اسئار الكفار - اليهود و النصارى - و هو بمكانه الخاص به من كونه رئيس الفرقة ، و عماد الامة ، بل نقله عنه بعد ذلك المتوسطون ، فهو لم يحسب مخالفا في المسألة عند اصحابه و اتباعه ، و على ذلك فلا بد اما من حمل الكراهة في كلامه على الحرمة ، كما احتملنا ذلك في كلام شيخ الطائفة ، و اما من القول بانه قد عدل عن قوله كما يشهد بذلك شأن سائر كتبه ، و ما ذكرنا من حال اصحابه و تلاميذه .و على هذا فكيف يعد و يحسب المفيد مخالفا في المسألة و الحال هذه ؟ و هل يمكن نسبة المخالفة اليه مع تلك القرائن الظاهرة و الامارات الدالة على قوله بالنجاسة ؟ . فيأكل معه فان دعاه فليأمره بغسل يده ثم يأكل معه ان شاء .ما الفائدة في الغسل و هو لا يطهر به ؟ الجواب الكفار لا يتورعون عن كثير من النجاسات ، فإذا غسل يده فقد زالت تلك النجاسة و هذا يحمل على حال الضرورة أو على مؤاكلة اليابس ، و غسل اليد لزوال الاستقذار النفساني الذي يعرض من ملاقات النجاسات العينية و ان لم يفد طهارة اليد .ثم استشهد المحقق برواية عيص بن قاسم فراجع الجوامع الفقهية ص 437 .
(59)
و اما ابن ابى عقيل فهو و ان كان يقول بطهارة سؤر الذمي ، الا انه ليس ذلك لا جل كونه قائلا بالطهارة ، بل ان فتواه بذلك ناشئة عما تحقق عنده من عدم انفعال الماء القليل بملاقات النجس ، و من نسب الخلاف اليه استفاد ذلك من تصريحه بطهارة سؤر الذمي ، و الحال ان افتاءه بطهارة سؤره مبنى على اجتهاد خاص به في الماء القليل حيث انه على خلاف كافة العلماء و الاصحاب - القائلين بان الماء القليل ينجس بملاقات النجاسة ، و ان الكر لا يتنجس الا إذا تغير احد أو صافه الثلاثة بها - يقول ان الماء القليل ايضا مثل الكثير لا يتنجس بمجرد الملاقات ، و بعبارة اخرى انه قائل بعدم انفعال القليل بالنجاسة ، و سؤر الذمي طاهر عنده لذلك - بعد تخصيص السؤر بالماء 1 - فلا يدل افتاءه بذلك على طهارتهم أصلا .بقي من هؤلاء الذين قد يدعى مخالفتهم للاصحاب ابن الجنيد الاسكافى .2 و الذى يسهل الخطب و يهون الامر انه مرمى بشذوذ القول و الميل إلى القياس و الافتاء غالبا على طبق مذهب العامة و قد شنعوا عليه في ذلك و صار 1 .أقول : كما عليه جملة من الاصحاب على ما صرح به في المدارك .و قال في كشف الغطاء : الاسئار جمع سؤر و هو فضلة الشرب من قليل الماء من حيوان ناطق أو صامت و ان اشتهر في الثاني أو ما أصاب أو اصابه فم حيوان أو جسم حيوان كذلك و الاظهر الاول . 2 .فان له كلامين ظاهرين في مخالفته للاصحاب و ذهابه إلى طهارة أهل الكتاب و قد نقلهما علم التقي الشيخ المرتضى قدس سره الشريف في طهارته .قال في احد كلاميه : التجنب من سؤر من يستحل المحرمات من ملى أو ذمى احب اليه إذا كان الماء قليلا .و فى الآخر : ان التجنب مما صنعه أهل الكتاب من ذبائحهم و فى آنيتهم و مما صنع في أوانى مستحلى الميتة و مؤكلتهم ما لم تيقن طهارة آنيتهم و أيديهم احوط ، انتهى .فتارة عبر ، بان التجنب احب و اخرى بانه احوط فتأمل .
(60)
هذا سببا لرفض اقواله عند الاصحاب و عدم اعتنائهم بفتاويه 1 و على هذا فافتاءه بطهارة أهل الكتاب ضائر بالاجماع بعد ان كان رأيه متروكا .و لذا لم يوافقه في هذه الفتوى احد من المتقدمين و لم يسلك سبيله في هذا الرأي من عرف بدقة النظر وجودة الرأي من المتأخرين .نعم مال اليه المحقق السبزواري 2 و المحدث الفيض الكاشاني رضوان الله عليهما الا انهما ايضا معروفان بشذوذ القول و مرميان بالفتاوى الغريبة و الآراء النادرة حتى انه قد يقال في حق الاول منهما انه في المتأخرين كابن الجنيد في المتقدمين .فتحصل مما ذكرنا في هذا المضمار ان الاجماع قائم على نجاستهم بلا خلاف قادح في المسألة .نعم يمكن ان يقال : ان الاجماع لا يعتد به في المقام لعدم كونه دليلا مستقلا ممتازا عن الادلة اللفظية الواردة .و الاجماع حجة إذا لم يكن في المسألة دليل صالح للاستناد اليه ، فانه يحدس هناك وجود دليل معتبر عند المجمعين و 1 .أقول يؤيد ما افاده سيدنا الاستاذ دام ظله ما ذكره التستري في المقابيس .فانه بعد ان مدح الاسكافى بالفاظ شريفة و اطراه الاطراء الجميل الفائق كقوله العزيز النظير البالغ في الفقة و ساير فنون العلم اقصى المراتب .قال : و صنف كتبا كثيرة جيدة حسنة بديعة و ان كان بعضها مما يتعلق بالقياس و الاجتهاد فاسد الوضع كما بيناه في موضع آخر و قد نقلوا عنه انه كان يرى القول بالقياس فتركت لذلك كتبه و لم يعول عليها .انتهى .و فى مقدمة كتاب المقنع : و حكى بعض ان الشيخ المفيد قدس سره صرح في بعض اجوبة المسائل الورادة عليه انه نسب اليه - ابن الجنيد - العمل بالقياس و اتهم بالسلوك مسالك العامة في الفقة . 2 .قال في الكفاية : و لا خلاف بين الاصحاب في نجاسة أهل الكتاب من أصناف الكفار ، و في نجاسة أهل الكتاب خلاف و المشهور بين الاصحاب نجاستهم و ذهب المفيد في احد قوليه و ابن الجنيد إلى الطهارة و أدلة النجاسة محل بحث و الاخبار المعتبرة دالة على الطهارة لكن لا ينبغى الجرأة على مخالفة المشهور المدعى عليه الاجماع .
(61)
عثورهم عليه ، حيث ان بناء هم كان على ان لا يتكلموا من عند أنفسهم و بدون دليل معتبر موثوق به و اما إذا كان في المسألة دليل صالح لان يستند اليه المجمعون فالاعتماد هناك عليه و الاستناد اليه ، و ليس الاجماع شيئا ورائه ، و اللازم حينئذ الاقبال و التوجه إلى هذا الدليل الذي يصلح للاستناد اليه و لو بالنسبة إلى بعض دون الآخرين .و الظاهر عندي ان مسئلتنا كذلك فان الدليل على نجاستهم هو الآية الكريمة الظاهرة في نجاستهم ، و الروايات الشريفة الدالة على ذلك ، غاية الامر ان الخاصة و أصحاب الائمة أخذوا بظاهر الآية و حكموا بالنجاسة العينية الذاتية كما ان الائمة عليهم السلام أخذوا هذا المعنى من القرآن الشريف و الآية الكريمة و نشروه و روجوه باخبارهم فاتخذ الشيعة سبيلهم و سلكوا طريقهم و على منهاجهم .و اما العامة فهم قالوا بالنجاسة الحكمية مؤولين الآية الكريمة عليها و هذا ايضا اثر سيئ من آثار انحرافهم عن معاهد أهل البيت و ثمة تباعدهم عن ولاية أسرة رسول الله خزان علم الله و مهابط وحيه و تراجمة كتابه و ينابيع احكامه .اجل انحرفوا عنهم فصاروا يتيهون في كل واد و يسيرون خلف كل ناعق .و على الجملة فهذا كما ذكرنا تأويل منهم في الآية حيث انها ظاهرة في النجاسة الذاتية ، و فيما ذكره الشيخ الطوسى قدس سره : ( ان الكفار نجس في الجملة ) اشارة إلى ما ذكرناه فان قوله : ( في الجملة يعنى اما ذاتا كما يقوله الشيعة و اما حكما كما جنح اليه العامة هذا و قد علمت مما ذكرنا ان استناد الاصحاب في الحكم بالنجاسة مطلقا إلى الآية الكريمة و الروايات ، فهم قد فهموا و استظهروا النجاسة ، و افتوا بها ، و اجمعوا عليها ، و لم يظهر بينهم طوال الاعصار الكثيرة و السنوات المتمادية خلاف يعبأ به ، فالا عراض عن هذا النظر و و غمض العين عن فتوى الاعلام و الاجلة ، و الرغبة عن الحكم بالنجاسة في غاية الاشكال .
(62)
لا يقال ان الحكم بنجاسة البئر كان مجمعا عليه بن المتقدمين فكانوا يفتون بوجوب نزح المقدارت عند تنجسه ، قاطعين به ، ثم بعد مضى قرون متوالية على هذا اعرض العلماء عن ذلك و افتوا بعدم تنجسه بالملاقات و قالوا باستحباب المنزوحات و اشتهر هذا القول حتى اتفقت كلمة المتأخرين على ذلك ، بلا قيل و قال ، فاى اشكال أو بعد في كون مسئلتنا ايضا كذلك و ان يفتى المتأخرون بطهارة أهل الكتاب و يوافقوا المحقق السبزواري مثلا و زملاءه في الافتاء بذلك بعد ان كان السابقون مجمعين على النجاسة ؟ فانا نقول : بين المسألتين بون بعيد و فرق ظاهر ، فان مسألة البئر و نزحه حكم لم يكن له عرق قرآنى بل مأخذه اخبار واردة في الباب فقط ، و هذه الاخبار و ان كانت مسلمة الصدور عنهم عليهم السلام و لم يكن صدورها للتقية لكنها مع ذلك لم تكن بنحو يوجب حكم الفقهاء جزما بنجاسة البئر لا جلها .فترى الشيخ الصدوق قدس سره قال في الهداية : ماء البئر واسع لا يفسده شيء ، 1 ثم ذكر مقادير النزح من دون تصريح بالنجاسة و هذا سواء كان عين فتواه و نظره أو انه كانت رواية نقلها بصورة الفتوى لا يدل على أكثر من حسن النزح و استحبابه ، أو على الوجوب تعبدا ، و لا دلالة فيه على النجاسة ، و لا تصريح فيه بذلك .و ذهب شيخ الطائفة ايضا إلى القول بعدم الانفعال و التنجس على ما نسب اليه العلامة في المختلف ، و مال اليه جماعة ذكر اسمائهم في مفتاح الكرامة 2 و آل الامر إلى ان قال بعض العلماء 3 : ان الاجماع القائم على انفعال البئر بالملاقات 1 .الهداية ص 14 ، لكن في النسخة الموجودة عندي : ماء النهر . فراجع 2 .ج 1 ص 79 3 .هو المحقق الهمداني على ما يستفاد من كلامه قدس سره .