فصل
كيف يفسد الرياء العمل
لو عقد العمل على الاخلاص و استمر الى الفراغ، لم يحبطه السرور بظهوره بعده، لا من
قبله كما دل عليه بعض الظواهر السالفة. و لا يعصى به ايضا ان كان لاجل احد المقاصد
السالفة، و يكتب له معصية ان كان لظنه حصول منزلة له في القلوب. و لو كان ظهوره بعده
من نفسه بالتحدث مع الرغبة و السرور بذلك، فربما قيل باحباطه العمل، اذ حب
التحدث به يدل على ان قلبه عند العبادة لم يخل عن عقد خفى من الرياء. و قد ايد ذلك بما
روى: «ان رجلا قال للنبي صلى الله عليه و آله و سلم: انى صمت الدهر. فقال صلى الله عليه و آله و سلم: لا صمت و لا افطرت! » و ما روى: «ان ابن مسعود سمع رجلا يقول: قرات البارحة سورة البقرة. فقال: ذلك حظه
منها» . و الظاهر انه لا يحبط عمله، بل يثاب عليه، و ان عواقب على ما صدر منه بعد الفراغ من
الرياء. و التعليل لو تم لا يفيد البطلان، اذ العقد الذي لم يشعر به صاحبه لا يؤاخذ
به، و الا لزم التكليف بالمحال. و الخبر لو صح فانكاره صلى الله عليه و آله و سلم
لاجل كراهية صوم الدهر لا لاظهاره. و قول ابن مسعود لو ثبت لا حجية فيه. و لو عقد العمل على الاخلاص، و ورد في اثنائه وارد السرور باطلاع بعض الناس عليه،
فان لم يكن باعثا على العمل و مؤثرا فيه بحيث لو لم يحدث لاتم العمل على الاخلاص
من غير فتور، و كان ايضا لاحد المقاصد الصحيحة المتقدمة، فلا بطلان و لا اثم، لما
تقدم من الاخبار. و ان لم يكن باعثا و لكن لم يكن لشي ء من المقاصد المذكورة، بل
كان لظنه نيل الجاه او المال بالظهور، فالحق بطلان العمل و كونه آثما
للعمومات السالفة و ان كان باعثا و مؤثرا فهو الرياء المحرم، سواء كان
غالبا على قصد التقرب او مساويا له او مغلوبا عنه، فيحبط العمل و عليه الاعادة
لو كان فريضة، لما تقدم من العمومات، و لقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «العمل كالوعاء، اذا طاب آخره طاب اوله » . و قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «من
راءى بعلمه ساعة، حبط عمله الذي كان قبله » . ثم هذا في العمل المركب الذي له اجزاء، و
يتوقف صحته على صحة كل واحد منها، كالصوم و الصلاة و الحج. و اما العمل الذي كل جزء
منه منفرد، كالصدقة و القراءة، فما يطرا من الرياء في اثنائه انما يفسد الباقي دون
الماضي فطرؤه فيه في الاثناء بالنسبة الى الماضي كطروئه بعد الفراغ في الاول. و
هذا حكم الرياء الطارى ء بعد عقد الطاعة على الاخلاص او قبله سواء لم يرجع عنه حتى
يتمها، او ندم بعده في الاثناء ايضا و رجع و استغفر و اما المقارن حال العقد، بان
يبتدى بالصلاة مثلا على قصد الرياء، فان اتمها عليه فلا خلاف في كونه اثما و
عدم الاعتداد بها. و ان ندم عليه في الاثناء و رجع و استغفر، فان مجرد القصد الى
الغير الباعث الى اطلاع الناس لبعض المقاصد المتقدمة و ارتياحه به فلا باس به
و لا يحبط العمل، و ان كان غير ذلك افسده، سواء في ذلك جميع شقوقه المتقدمة، كما علم
وجهه.
فائدة
شوائب الرياء مبطلة للعمل
لما كان المناط في الاعمال، صحة و فسادا، هو القصد و النية، اذ الاعمال بالنيات،
و لكل امرئ ما نوى، فكل عمل تدخله شوائب الرياء فهو فاسد، سواء وقع سرا او علانية، و كل
عمل كان خالصا لله و امن صاحبه من دخول الرياء فيه فلا باس باسراره و لا
باظهاره. ثم لو تعلق قصد صحيح باظهار نفس العمل او التحدث به بعد الفراغ عنه،
كترغيب الناس في الخير و تنبيههم على الاقتداء به فيه، كان اظهاره افضل من
اسراره بشرط عدم اشتماله على رياء او فساد آخر، كاهانة الفقير في التصدق، و لو
اشتمل على شى ء من ذلك، كان اسراره افضل من اعلانه و بذلك يجمع بين الاقوال و
الاخبار. و الحاصل: انه متى انفك القلب عن شوائب الرياء، بحيث يتم الاخلاص على وجه واحد
في الحالتين، فما فيه القدوة و هو العلانية افضل و مهما حصلت فيه شوائب الرياء
لم ينفعه اقتداء غيره، لكونه مهلكا له، فالسر افضل منه. فعلى من يظهر العمل ان يعلم او
يظن انه يقتدى به و ان يراقب قلبه لئلا يكون فيه حب الرياء الخفى، فربما اظهر
العمل لعذر الاقتداء و كان في نفسه قصد التجمل بالعمل و كونه مقتدى به، و هذا حال كل
من يظهر العمل، الا من ايده الله بقوة النفس و خلوص النية، فلا ينبغي لضعيف النفس ان
يخدع نفسه فيضل و يضل و يهلك من حيث لا يشعر. فان الضعيف مثاله مثال الغريق الذى
يعلم سباحه ضعيفة فينظر الى جماعة من الغرقي فيرحمهم، و اقبل عليهم لينجيهم
فتشبثوا به، و هلك و هلكوا. و هذه المواضع مزال اقدام العلماء و العباد، فانهم
يتشبهون بالاقوياء في الاظهار و لا تقوى قلوبهم على الاخلاص، فتحبط اجورهم
بالرياء. و درك ذلك غامض جدا لا يبلغه الا الخائضون في غمرات علم الاخلاق. و يعرف
الخلوص في ذلك بالا يتفاوت حاله باقتداء الناس به و بغيره من اقرانه و امثاله،
فان كان قلبه اميل الى ان يكون هو المقتدى به، فاظهاره العمل غير خال عن شوائب
الرياء.
ايقاظ
لما عرفت ان المناط في صحة الاعمال و فسادها هو القصد و النية، تعلم ان كل عمل لم
يكن خالصا لوجه الله و اريد به غيره سبحانه ينبغي ان يترك و يعرض عنه، و ان كان
خالصا له تعالى مقصودا على قصد صحيح لا ينبغي تركه لمجرد بعض الوساوس و الخواطر
الشيطانية. فان الشيطان يدعو اولا الى ترك العمل فان لم يجب يدعو الى الرياء،
فاذا ايس منه يقول: هذا العمل ليس خالصا، بل هو رياء، فاى فائدة منه؟ ! . ثم الاعمال اما من الطاعات اللازمة التي لا تعلق لها بالغير، كالصلاة و
الصوم و الحج و امثالها، او من الطاعات المتعدية التي لها تعلق بالخلق،
كالامامة و القضاء و الحكومة و الافتاء و الوعظ و التذكير و التعليم و التدريس و
انفاق المال و غير ذلك. و القسم الاول: ان دخله الرياء قبل الفعل، بان يكون باعثه الرياء دون الخلوص و
القربة، فينبغي ان يترك و لا يشرع فيه، و ان دخله بعد العقد او معه، فلا ينبغي ان يترك،
لانه وجد له باعث دينى، و انما طراه باعث الرياء، فليجاهد في دفع الرياء و
تحصيل الاخلاص، و يرد نفسه اليه قهرا بالمعالجات التي نذكرها. و مهما كان في
المجاهدة مع نفسه معاتبا لها قاهرا عليها في ميلها الى الرياء، و وجد من طبعه
كراهية هذا الميل، فالنجاة في حقه مرجوة، و لعل الله يسامحه بعظيم رحمته. و اما
اذا لم يكن في مقام المجاهدة، و لم يكن كارها مما يجد في نفسه من الميل الى
الرياء بل اعطى زمام الاختيار الى النفس الامارة، و هي ترائي في الاعمال، و هو
يتبعها في ذلك من غير قهر عليها و كراهية لفعلها، فلا ريب في فساد اعماله و
اولوية تركها، و ان كان باعثها ابتداء محض القربة و دخلها الرياء مع العقد او بعده.
و اما القسم الثاني: المتعلق بالخلق-اعنى امامة الصلاة و القضاء و التدريس و
الافتاء و الوعظ و الارشاد و امثال ذلك-فاخطارها عظيمة، و مثوبتها جسيمة.
فمن له اهليه ذلك من حيث العلم-ان كان ذا نفس قوية لا يعتني بالناس و لا تزعجها و
ساوس الخناس و له معرفة تامة بعظمة ربه و قدرته و سائر صفاته الكمالية، بحيث شغله ذلك
عن الالتفات الى الخلق و ما في ايديهم حتى يرائى لاجلهم او يختار رضاهم على رضا
ربه-فالاولى لمثله الا يترك هذه المناصب ليفوز بمثوبتها العظيمة. و ان كان ذا
نفس ضعيفة، كخيط مرسل في الهواء تفيئها (1) الريح مرة هكذا و مرة هكذا فهو لا يامن
الرياء و سائر اخطارها. فاللازم لمثله تركها. و لذلك كان اهل اليقين من
السلف يتدافعون هذه المناصب ما وجدوا اليه سبيلا. و ورد ما ورد من الاخبار في
عظم خطرها و كثرة آفاتها و لزوم التثبت و الاحتياط لمن يزاولها و ما ورد
من الوعيد الشديد في حق العلماء السوء يكفي للزوم الحذر عن فتن العلم و غوائله. و
مما يقصم ظهور امثالنا من الذين يقولون ما لا يعلمون و يامرون بما لا يفعلون، قول
عيسى بن مريم-عليهما السلام-: «يا علماء السوء! تصومون و تصلون و تتصدقون و لا تفعلون ما تؤمرون! و تدرسون ما لا تعلمون فيا سوء ما تحكمون! تتوبون بالقول و الاماني، و تعلمون
بالهوى، و ما يغني عنكم ان تتقوا جلودكم و قلوبكم دنسة! بحق اقول لكم: لا نكونوا
كالمنخل يخرج منه الدقيق الطيب و تبقى فيه النخالة كذلك انتم! تخرجون الحكم من
افواهكم و يبقى الغل في صدوركم! يا عبيد الدنيا! كيف يدرك الآخرة من لا تنقضى من
الدنيا شهوته و لا تنقطع منها رغبته! بحق اقول لكم: ان قلوبكم تبكي من اعمالكم، جعلتم
الدنيا تحت السنتكم و العمل تحت اقدامكم بحق اقول لكم: افسدتم آخرتكم بصلاح
دنياكم، فصلاح الدنيا احب اليكم من صلاح الآخرة! فاى ناس اخس منكم لو تعلمون! و
بلكم! حتى متى تصفون الطريق للمدلجين و تقيمون في محلة المتحيرين كانكم تدعون
اهل الدنيا ليتركوها لكم! مهلا مهلا!ويلكم! ماذا يغنى عن البيت المظلم ان يوضع
السراج فوق ظهره و جوفه وحش مظلم! كذلك لا يغني عنكم ان يكون نور العلم بافواهكم و
اجوافكم منه وحشة معطلة. يا عبيد الدنيا! توشك الدنيا ان تقلعكم عن اصولكم فتلقيكم
على وجوهكم، ثم تكبكم على مناخركم، ثم تاخذ خطاياكم بنواصيكم! يدفعكم العلم من
خلفكم، ثم يسلمكم الى الملك الديان حفاة عراة فرادى! فيوقفكم على سوآتكم، ثم يخزيكم
بسوء اعمالكم! ! » (2) هذا و يعرف الصادق المخلص من اهل هذه المناصب بانه اذا ظهر من هو اعدل و احسن
و عظا و اكثر علما منه و اشد قبولا للناس فرح به و لم يحسده و اذا حضر الاكابر و
الاعاظم مجلسه او اقتدوا به لم يتغير كلامه و لم يتفاوت حاله، بل يبقى على ما
كان عليه، و ينظر الى عباد الله بعين واحدة.
تنبيه
لما عرفت حقيقة الرياء، تعلم انه اذا صار عمل بعض الصالحين او قولهم محركا
لغيرهم على الاشتغال بالطاعة لم تكن هذه الطاعة رياء اذا عقدت على الخلوص، و ان
لم يكن هذا الغير ليفعل هذه الطاعة اذا لم يشاهدها من بعض الصالحين او لم
يسمعها منه. فمن لم تكن عادته التهجد و بات مع قوم متهجدين في موضع، فاذا
قاموا للتهجد انبعث نشاطه للموافقة و وافقهم في التهجد، و لم يكن ذلك رياء بعد
ان يكون قصده منه الثواب و التقرب الى الله، اذ كل مؤمن راغب في عبادة الله و في
قيام الليل، و لكن قد تعوقه العوائق و تمنعه الغفلة، فاذا شاهد قوما يتهجدون ربما
صارت مشاهدة طاعتهم سببا لزوال غفلته، كما يصير قولهم و وعظهم سببا لذلك،
فيتحرك باعث الدين دون الرياء و يدعوه الى موافقتهم. و ربما كان الموضع مما
ليس فيه عائق، فيغتنم الفرصة و يبعثه ما فيه من الايمان الى الطاعة. و قس على
التهجد غيره: من الصوم، و التصدق، و القراءة و الذكر، و غيرها من اعمال البر.
فصل
علاج الرياء
لما كانت الاسباب الباعثة على الرياء هي حب لذة المدح و الفرار من الم الذم
و الطمع بما في ايدي الناس، فالطريق في علاجه ان يقطع هذه الاسباب و قد تقدم طريق
العلاج في قطع الاولين، و ياتي طريق ازالة الثالث. و ما نذكره هنا من العلاج
العلمى للرياء، هو ان يعلم ان الشي ء انما يرغب فيه لكونه نافعا، و اذا علم انه ضار
ليعرض عنه البتة، و حينئذ فينبغي لكل مؤمن ان يتذكر مضرة الرياء و ما يفوته من
صلاح قلبه و ما يحرم عنه في الحال من التوفيق و في الآخرة من المنزلة عند الله و
ما يعترض له من المقت و العذاب و متى تذكر ذلك و قابل ما يحصل له في الدنيا من
الناس الذين راءى لاجلهم بما يفوته في الآخرة من ثواب الاعمال، لترك الرياء لا
محالة، مع ان العمل الواحد ربما تترجح به كفة حسناته لو خلص فاذا فسد بالرياء
حول الى كفة السيئات، فتترجح به و يهوى الى النار. هذا مع ان المرائى في الدنيا متشتت الهم متفرق الباب بسبب ملاحظة قلوب الناس،
فان رضاهم غاية لا تدرك، و كلما يرضى به فريق يسخط به فريق و من طلب رضاهم في سخط
الله سخط الله عليه و اسخطهم ايضا. ثم اى غرض له في مدحهم و ايثار ذم الله لاجل
مدحهم و لا يزيده مدحهم رزقا و لا اجلالا و لا ينفعه يوم فقره و فاقته و هو يوم
القيامة؟ ! و من كان رياؤه لاجل الطمع بما في ايدى الناس، ينبغى ان يعلم ان الله
هو المسخر للقلوب بالمنع و الاعطاء، و ان الخلق مضطرون فيه، و لا رازق الا الله، و
من طمع في الخلق لم يخل عن الذل و الخسة، و ان وصل الى المراد لم يخل عن المنة و
المهانة، و اذا قرر ذلك في نفسه و لم يكن منكرا لامسه، زالت غفلته و فترت عن
الرياء رغبته و اقبل على الله بقلبه، و انقطع بشراشره الى جناب ربه. و يكفيه ان يعلم
ان الناس لو علموا ما في باطنه من قصد الرياء و اظهار الاخلاص لمقتوه، و سيكشف
الله عن سره حتى يبغضه اليهم و لو اخلص لله لكشف الله لهم اخلاصه و حببه اليهم و
سخرهم له، و اطلق السنتهم بمدحه و ثنائه، مع انه لا يحصل له كمال بمدحهم و لا نقصان
بذمهم ثم من تنور قلبه بنور الايمان و انشرح صدره باليقين و العرفان، و عرف معنى
الواجب و حقيقة الممكن، و تيقن بان الواجب-اى الحقيقة التي تقتضي بنفس ذاته
التحقق و البقاء، و هو صرف الوجود-يجب ان يكون تاما فوق التمام، و لا يتصور
حقيقة اتم كمالا منه، و الحقيقة التي هذا شانها يجب ان يكون ما سواها باسره
مستندا اليها و صادرا عنها على اشرف انحاء الصدور و اقواها. و هذا النحو
الاشرف الاقوى الذى لا يتصور نحوه اقوى منه في الاختراع و ادل منه على كمال عظمة
الموجد و قدرته، و هو كون ماسواه سبحانه من الموجودات، اما اعتبارات و
شؤنات لدرجات ذاته و اشراقات لتجليات صفاته، كما ذهب اليه قوم، او كونها
ماهيات امكانية اختراعية علما و عينا، صادرة عن سبحانه بوجودات خاصة متعددة
ارتباطية بمحض ارادته و مشيته، كما ذهب اليه آخرون (3) و لو لم يكن غيره من
الموجودات مستندا اليه على اقوى انحاء الاستناد، لم يكن تاما فوق التمام،
اذ تكون الذات التي يستند الكل اليها باحد النحوين اكمل منه و اشرف. و اذا عرف
انه سبحانه كذلك، يعرف انه ليس في الوجود حقيقة احد سواه و غيره حقيقته العدم و
ما له من الوجود و الظهور منه سبحانه، و بعد هذه المعرفة لا يختار غيره تعالى عليه،
و يعلم ان العباد كلهم عجزة لا يملكون لانفسهم نفعا و لا ضررا، و لا يملكون موتا و لا
حياة، فلا يتغير قلبه بمشاهدة الخلق، و لا يلتفت اليهم الا بخطرات ضعيفة لا يشق عليه
ازالتها، فيعمل عمل من لو كان على وجه الارض وحده لكان يعمله و اما العلاج العملي،
فهو ان يعود نفسه على اخفاء العبادات و اغلاق الابواب دونها، كما تغلق الابواب
دون الفواحش، حتى يقنع قلبه بعلم الله و اطلاعه على عبادته، و لا تنازعه النفس الى
طلب علم غير الله به. و ذلك و ان شق في بداية المجاهدة، لكن اذا صبر عليه مدة
بالتكلف سقط عنه ثقله و هان عليه بتواصل الطاف الله و ما يمده به عبادة من حسن
التوفيق و التاييد: «ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم » (4) . فمن العبد المجاهدة و من الله الهداية: «ان الله لا يضيع اجر المحسنين » (5) .
تتميم
القالع مغارس الرياء من قلبه بقطع الطمع و استحقار مدح الناس و ذمهم ربما لا
يتركه الشيطان، (لا) سيما في اثناء العبادة، فعارضه بخطرات الرياء و نزغاته،
حتى احدث في قلبه ميلا خفيا الى الرياء و حبا له. و الحق ان ذلك ليس من الرياء
المحرم، و لا تفسد به العبادة، مع كونه كارها لهذا الميل و الحب و قاهرا على
نفسه ماقتا لها في تاثرها و تغيرها عن نزغات الشيطان و منازعا للشيطان و
مجاهدا اياه لدفع خطراته، لان الله لم يكلف عباده الا ما يطيقون، و ليس في وسعهم
منع الشيطان عن نزغاته و لا قمع الطبع حتى لا يميل الى شهواته، و غاية ما يقدرون
عليه ان يقابلوا نزعاته و ميل الطبع بالكراهة و القهر على النفس في هذا الميل، مع
المجاهدة في دفع ذلك بتذكر المعالجات المقررة لدفع الرياء و الوساوس، و اذا
فعلوا ذلك ادوا ما يجب عليهم. و يدل على ذلك ايضا ما تقدم من الاخبار الدالة
على عدم المؤاخذة بمجرد الوسوسة، و قول النبي-صلى الله عليه و آله-: «الحمد لله الذي
رد كيد الشيطان الى الوسوسة » . فوسوسة الشيطان و ميل النفس لا يضران مع ردهما
بالكراهة و الاباء، اذ الوساوس و الخواطر و التذكرات و التخيلات المهيجة
للرياء من الشيطان، و الميل و الرغبة بعد تلك الخواطر من النفس، و الاباء و
الكراهة من الايمان و من آثار العقل فلا يضر ما من النفس و الشيطان اذا قوبل
بما من العقل و الايمان، و لذا قال بعض الاكابر «ما كان من نفسك فكرهته نفسك
لنفسك، فلا يضرك ما هو من عدوك و ما كان من نفسك فرضيته نفسك لنفسك فعاتبها
عليه » . ثم الطرق المتصورة في دفع خطرات الرياء في اثناء العبادة مع كراهتها اربع: الاولى-ان يشتغل بمجادلة الشيطان في رد نزغاته، و يطيل معه الجدال. الثانية-ان يقتصر على تكذيب الشيطان و دفعه من غير اشتغال بمجادلته. الثالثة-الا يشتغل بتكذيبه ايضا، بل يكتفى بما قرر في عقد ضميره من كراهة الرياء
و كذب الشيطان، فيستمر على ما كان عليه مستصحبا له غير مشتغل بالمخاصمة و
التكذيب. الرابعة-ان يزيد فيما هو فيه من الاخلاص و الاشتغال بالله، او ما يؤدى اليهما،
كاخفاء العبادة و الصدقة غيظا للشيطان، لان ذلك يغيظ الشيطان و يوجب ياسه، و
مهما عرف من العبد هذه العادة، كف عنه خوفا من ان يزيد في حسناته. و لا ريب في ان الاشتغال بالمجادلة و التكذيب و اطالتهما يمنع الحضور و يصد
عن التوجه الى الله، و هو نقصان لاهل السلوك، فالصواب لكل مؤمن ان يقرر دائما في
عقد ضميره كراهية الرياء و تكذيب الشيطان و يعزم ابدا على انه اذا تهجم عليه
الشيطان و عارضه بنزغات الرياء زاد ما هو فيه مما يغيظ الشيطان و يوجب ياسه،
فاذا حدثت خطرات الشيطان في الاثناء اكتفى بما عقد عليه اولا مستصحبا له، و
زاد في الاخلاص و ما يؤدى اليه فان ذلك يوجب قنوط الشيطان. و اذا عرف العبد
بهذه الصفة لا يتعرض له لئلا يزيد فيما يغيظه. و ينبغي لكل مؤمن ان يكون هذا ديدنه في
جميع الصفات و الملكات، مثلا اذا حصل اليقين و العقيدة الجازمة بالمبدا و
صفاته الكمالية، و قرر ذلك في نفسه، و اثبت في قلبه كراهية الشك و خطور الوساوس،
فاذا حدث بعض الوساوس في اثناء عبادة او غيرها، ينبغي الا يشتغل بطول
المجاهدة مع الشيطان، و يكفى بما تقرر في قلبه من اليقين و كراهية الشك و
الوسوسة، معتقدا بان هذه الوساوس لا اصل لها و لا عبرة بها. و كذا اذا قرر في نفسه
النصيحة للمسلمين و كراهية الحسد، فاذا اوقع الشيطان نزغات الحسد في قلبه، ينبغي
الا يلتفت اليها، و يستصعب ما كان عليه من النصيحة و الكراهة، و قس عليها سائر
الصفات و الاخلاق. ثم مثل من يشتغل بطول المجاهدة مع الشيطان مثل من قصد مجلسا من مجالس العلم و
الوعظ لينال فائدة و هداية فعارضه ضال فاسق و دعاه الى مجلس فسق فابى و انكر
عليه، فاذا عرف الضال اباه، اشتغل بالمجادلة معه، و هو ايضا يساعده على ذلك
ليرد ضلاله، ظانا ان ذلك مصلحته مع انه غرض الضال اذ قصده من المجادلة ان يؤخره
عن نيل مقصوده. و مثل من يشتغل بالتكذيب مثل من لا يشتغل بالقتال مع الضال بعد دعوته الى مجلس
الضلال، بل وقف بقدر ان يدفع في منحره، و ذهب مستعجلا ففرح الضال بقدر توقفه للدفع. و
مثل من يكتفى بعقد الضمير مثل من لم يلتفت الى الضال بعد دعوته اصلا، و استمر على
ما كان عليه من المشي و مثل من يزيد فيما كان له من الاخلاص او ما يؤدى اليه مثل
من يزيد في عجلته بعد دعوته ليغيظه. و لا ريب في ان الضال يمكن ان يعاود الجميع
في الدعوة الى الضلالة اذا مروا عليه مرة اخرى الا الاخير، مخافة ان يزداد
فائدة باستعجاله.
وصل
الاخلاص و حقيقته
ضد الرياء: الاخلاص، و هو تجريد القصد عن الشوائب كلها. فمن عمل طاعة رياء فهو
مراء مطلق، و من عملها و انضم الى قصد القربة قصد غرض دنيوي انضماما غير مستقل فعمله
مشوب غير خالص، كقصد الانتفاع بالحمية من الصوم، و قصد التخلص من مؤنة العبد او سوء
خلقه من عتقه، و قصد صحة المزاج او التخلص من بعض الشرور و الاحزان من الحج، و قصد
العزة بين الناس او سهولة طلب المال من تعلم العلم، و قصد النظافة و التبرد و طيب
الرائحة من الوضوء و الغسل، و التخلص عن ابرام السائل من التصدق عليه، و هكذا.
فمتى كان باعث الطاعة هو التقرب و لكن انضافت اليه خطرة من هذه الخطرات،
خرج عمله من الاخلاص فالاخلاص تخليص العمل عن هذه الشوائب كلها، كثيرها و قليلها و
المخلص من يكون عمله لمحض التقرب الى الله سبحانه، من دون قصد شي ء آخر اصلا. ثم اعلى مراتب الاخلاص-و هو الاخلاص المطلق و اخلاص الصديقين- ارادة محض وجه
الله سبحانه من العمل، دون توقع غرض في الدارين و لا يتحقق الا لمحب لله تعالى
مستهترا به، مستغرق الهم بعظمته و جلاله بحيث لم يكن ملتفتا الى الدنيا مطلقا.
و ادناها-و هو الاخلاص الاضافي- قصد الثواب و الاستخلاص من العذاب، و قد اشار سيد
الرسل-صلى الله عليه و آله-الى حقيقة الاخلاص بقوله-: «هو ان تقول ربى الله ثم
تستقيم كما امرت (6) تعمل الله، لا تحب ان تحمد عليه! اى لا تعبد هواك و نفسك، و لا
تعبد الا ربك، و تستقيم في عبادتك كما امرت » . و هذا اشارة الى قطع ما سوى الله سبحانه عن مجرى النظر، و هو الاخلاص حقا. و
يتوقف تحصيله على كسر حظوظ النفس و قطع الطمع عن الدنيا و التجرد في الآخرة، بحيث
ما يغلب ذلك على القلب و التفكر في صفات الله تعالى و افعاله و الاشتغال
بمناجاته حتى يغلب على قلبه نور جلاله و عظمته و يستولى عليه حبه و انسه، و كم
من اعمال يتعب الانسان فيها و يظن انها خالصة لوجه الله تعالى، و يكون فيها
مغرورا لعدم عثوره على وجه الآفة فيها، كما حكى عن بعضهم انه قال: «قضيت صلاة
ثلاثين سنة كنت صليتها في المسجد جماعة في الصف الاول، لاني تاخرت يوما لعذر و
صليت في الصف الثاني، فاعترتني خجلة من الناس حيث راونى في الصف الثاني
فعرفت ان نظر الناس الى في الصف الاول كان يسرني، و كان سبب استراحة قلبي من
ذلك من حيث لا اشعر» . و هذا دقيق غامض، و قلما تسلم الاعمال من امثاله، و قل من
يتنبه له، و الغافلون عنه يرون حسناتهم في الآخرة كلها سيئات، و هم المرادون
بقوله تعالى: . «و بدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون » (8) . و
بقوله: «قل هل ننبئكم بالآخسرين اعمالا؟ الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا و
هم يحسبون انهم يحسنون صنعا» (9) .
فصل
مدح الاخلاص
الاخلاص منزل من منازل الدين، و مقام من مقامات الموقنين. و هو الكبريت الاحمر،
و توفيق الوصول اليه من الله الاكبر، و لذا ورد في فضيلته ما ورد من الآيات و
الاخبار، قال الله تعالى: «و ما امروا الا ليعبدوا الله مخلصين له الدين » (10) . و قال: «الا لله الدين الخالص » (11) . و قال: «الا الذين تابوا و اصلحوا و اعتصموا
بالله و اخلصوا دينهم لله » (12) و قال: «فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا و لا يشرك بعبادة ربه احدا» (13) . نزل فيمن يعمل لله و يحب ان يحمد عليه. و في الخبر القدسي: «الاخلاص سر من اسراري، استودعته قلب من احببت من عبادى » . و
قال رسول الله-صلى الله عليه و آله- «اخلص العمل يجزك منه القليل » . و قال-صلى الله عليه
و آله-: «ما من عبد يخلص العمل لله تعالى اربعين يوما الا ظهرت ينابيع الحكمة من
قلبه على لسانه » . و قال-صلى الله عليه و آله-: «ثلاث لا يغل عليهن » . وعد منها قلب رجل مسلم اخلص العمل لله عز و جل. و قال امير المؤمنين عليه السلام: «لا
تهتموا لقلة العمل، و اهتموا للقبول » . و قال امير المؤمنين عليه السلام: «طوبى
لمن اخلص لله العبادة و الدعاء، و لم يشغل قلبه بما ترى عيناه، و لم ينس ذكر الله
بما تسمع اذناه، و لم يحزن صدره بما اعطى غيره! » . و قال الباقر-عليه السلام-:
«ما اخلص عبد الايمان بالله اربعين يوما-او قال: ما اجمل عبد ذكر الله اربعين
يوما-الا زهده الله تعالى في الدنيا و بصره داءها و دواءها، و اثبت الحكمة في قلبه
و انطق بها لسانه » . و قال الصادق عليه السلام في قول الله عز و جل. «ليبلوكم ايكم احسن عملا» : «ليس يعني اكثركم عملا، و لكن اصوبكم عملا. و انما الاصابة خشية الله و النية الصادقة » .
. ثم قال: «الايفاء على العمل حتى يخلص اشد من العمل، و العمل الخالص الذي لا تريد ان
يحمدك عليه احد الا الله عز و جل، و النية افضل من العمل، الا و ان النية هي العمل » . ثم تلا قوله عز و جل «قل كل يعمل على شاكلته » : يعني على نيته » . و قال الصادق-عليه السلام-: «الاخلاص (14) يجمع فواضل الاعمال و هو معنى مفتاحه
القبول و توفيقه الرضا، فمن تقبل الله منه و رضى عنه فهو المخلص و ان قل عمله، و من
لا يتقبل الله منه فليس بمخلص و ان كثر عمله، اعتبارا بآدم-عليه السلام-و ابليس.
و علامة القبول وجود الاستقامة ببذل كل المحاب مع اصابة علم كل حركة و سكون، و
المخلص ذائب روحه باذل مهجته في تقويم ما به العلم و الاعمال و العامل و
المعمول بالعمل، لانه اذا ادرك ذلك فقد ادرك ذلك الكل، و اذا فاته ذلك فاته
الكل، و هو تصفية معاني التنزيه في التوحيد كما قال الاول: هلك العاملون الا
العابدون، و هلك العابدون الا العالمون و هلك العالمون الا الصادقون، و هلك
الصادقون الا المخلصون، و هلك المخلصون الا المتقون و هلك المتقون الا الموقنون، و
ان الموقنين لعلى خطر عظيم! قال الله لنبيه -صلى الله عليه و آله-: و اعبد ربك حتى
ياتيك اليقين. و ادنى حد الاخلاص بذل العبد طاقته، ثم لا يجعل لعمله عند الله قدرا
فيوجب به على ربه مكافاة بعمله، لعلمه انه لو طالبه بوفاء حق العبودية لعجز، و
ادنى مقام المخلص في الدنيا السلامة في جميع الآثام، و في الآخرة النجاة من
النار و الفوز بالجنة » (15) . و من تامل في هذه الاخبار و في غيرها مما لم يذكر، يعلم ان الاخلاص راس الفضائل و
رئيسها، و هو المناط في قبول الاعمال و صحتها، و لا عبرة بعمل لا الاخلاص معه، و لا
خلاص من الشيطان الا بالاخلاص، لقوله: «الا عبادك منهم المخلصين » (16) . و ما ورد في الاسرائيليات من حكاية العابد و الشيطان و الشجرة المشهور و في
الكتب مسطور (17) .
فصل
آفات الاخلاص
الآفات التي تكدر الاخلاص و تشوشه لها درجات في الظهور و الخفاء اجلاها الرياء
الظاهر، و هو ظاهر. ثم تحسين العبادة و السعي في الخشوع فيها في الملا دون
الخلوة ليتاسى به الناس، و لو كان عمله هذا خالصا لله لم يتركه في الخلوة، اذ من
يرى الخشوع و حسن العبادة خيرا لا يرتضى لغيره تركه، فكيف يرتضى ذلك لنفسه في
الخلوة، ثم تحسينها في الخلوة ايضا بقصد التسوية بين الخلوة و الملا، و هذا من
الرياء الغامض، لانه حسن عبادته في الخلوة ليحسنها في الملا، فلا يكون فرق
بينهما في التفاته فيهما الى الخلق، اذ الاخلاص الواقعي ان تكون مشاهدة الخلق
لعبادته كمشاهدة البهائم لها، من دون تفاوت اصلا، فكان نفسه لا تسمح باساءة
العبادة بين اظهر الناس، ثم يستحى من نفسه ان يكون في صورة المرائين و يظن ان
ذلك يزول باستواء عبادته في الخلوة و الملا، و ليس كما ظنه، اذ زوال ذلك موقوف
على عدم التفاته الى الخلق في الملا و الخلوة كما لا يلتفت الى الجمادات
فيهما مع انه مشغول الهم بالخلق فيهما جميعا. و اخفاها ان يقول له الشيطان-و
هو في العبادة في الملا بعد ياسه عن المكائد السابقة-: «انت واقف بين يدى الله
سبحانه، فتفكر في جلاله و عظمته، و استحى من ان ينظر الى قلبك و هو غافل عنه!
فيحضر بذلك قلبه و تخشع جوارحه » و هذا اخفى مكائد الشيطان و خداعه، و لو كانت هذه
الخطرة ناشئة عن الاخلاص لما انفكت عنه في الخلوة و لم يخص خطورها بحالة حضور غيره و
علامة الامن من هذه الآفة: ان يكون هذا الخاطر مما يالفه في الخلوة كما يالفه في
الملا، و لا يكون حضور الغير سببا لحضوره كما لا يكون حضور بهيمة سببا له، فما
دام العبد يفرق في احواله و اعماله بين مشاهدة انسان و مشاهدة بهيمة، فهو بعد
خارج عن صفو الاخلاص مدنس الباطن بالشرك الخفي من الرياء، و هذا الشرك اخفى في قلب
ابن آدم من دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء، كما ورد
به الخبر و لا يسلم منه الا من عصمه الله بخفي لطفه، اذ الشيطان ملازم للمتشمرين
لعبادة الله، لا يغفل عنهم لحظة ليحملهم على الرياء في كل واحد من افعالهم و
اعمالهم.
تتميم
الحق-كما اشير اليه-ان الشوب الممزوج بالاخلاص ان كان من المقاصد الصحيحة
الراجحة شرعا، لم يبطل العمل و الاخلاص و لم ينقص الاجر و الثواب. اذ نية الخيرات
المتعددة توجب تضاعف الثواب بحسبها و ان كان من الاغراض الدنيوية الراجعة
الى حب جاه او طمع مال فهو مبطل للعمل و الثواب، سواء كان الباعث الديني اضعف
من الباعث النفسي او مساويا له او اقوى منه، لظواهر الاخبار المتقدمة. و مع
ابطاله العمل يترتب عليه عقاب على حدة ايضا، اذ الرياء في العبادة في نفسه
منهى عنه محرم، سواء كان هو الباعث وحده او انضم الى نية التقرب انضماما
مستقلا او غير مستقل، فمن ارتكبه كان آثما لاجل الرياء في نفسه و تاركا
للعبادة من حيث دخول الرياء فيها، فان كانت واجبة ترتب اثم آخر على تركها
الا ان يسقطه بقضائها، و ان كانت مستحبة لم يلزم قضاؤها و لم يترتب اثم على
تركها، بل كان اثمها منحصرا بما يترتب على الرياء في نفسه. ثم الاثم المترتب
على الرياء المحض اشد و اغلط من المترتب على الرياء الممزوج بالقربة، و يتزايد
اثم الممزوج بحسب ازدياد قوة باعث الرياء بالنظر الى باعث الاخلاص، و ينقص بحسب
نقصان ذلك. و على ما ذكرناه، فما العقد عليه اجماع الامة من ان من خرج حاجا و معه تجارة
صح حجه و اثيب عليه، مع ان سفره ليس خالصا للحج، فالوجه فيه ان التجارة تعرض
للرزق، و هو ايضا عبادة. و قد تقدم ان نية الخيرات المتعددة موجبة لتضاعف
الثواب بحسبها، فلا حاجة الى ما قيل «ان التاجر انما يثاب على اعمال الحج
عند انتهائه الى مكة و تجارته غير موقوفة عليه فهو خالص، و انما المشترك طول
المسافة، و لا ثواب فيه مهما قصد تجارة » ، و لا الى ما قيل: «مهما كان الحج هو
المحرك الاصلي و كان غرض التجارة كالمعين و التابع، فلا ينفك نفس السفر عن
الثواب » نعم، اذا كانت التجارة للجمع و الادخار من غير حاجة، فلا يبعد ان يقال ذلك، و
كذا اذا انضم الى قصد الحج قصد التفرج و دفع التوحش عن الاهل انضماما غير
مستقل، و مثله اذا انضم الى نية الوضوء التبرد، و الى نية الصوم قصد الحمية، و
الى نية العتق الخلاص من المؤنة و سوء الخلق، الى غير ذلك، اذا لم تكن المنضمات
مستقلة. و من العلماء من قال: «ان الباعثين ان تساويا تساقطا، و صار العمل لا له و لا
عليه، و ان كان باعث الرياء اقوى لم يكن العمل نافعا، بل كان مضرا و موجبا
للعقاب، و ان كان عقابه اخف من عقاب الذي تجرد للرياء و ان كان باعث التقرب
اقوى فله ثواب بقدر ما فضل من قوته، لقوله تعالى: «فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره. و من يعمل مثقال ذرة شرا يره » (18) . و قوله تعالى: «ان
الله لا يظلم مثقال ذرة » (19) . فلا ينبغي ان يضيع قصد الخير، بل ان كان قصد التقرب غالبا على الرياء حبط منه القدر
الذي يساويه و بقيت زيادة، و ان كان مغلوبا سقط بسببه شي ء من عقوبة القصد الفاسد. و
السر: ان الاعمال تاثيرها في القلوب بتاكيد صفاتها، فداعية الرياء من
المهلكات، و قوة هذا المهلك بالعمل على وفقه، و داعية الخير من المنجيات، و قوته
بالعمل على وفقه، فاذا اجتمعت الصفات في القلب فهما متضادتان، فاذا عمل على
وفق مقتضى الرياء قويت تلك الصفة، و ان عمل على وفق داعية الخير قويت ايضا تلك
الصفة، و احدهما مهلك و الآخر منج. فان كانت تقويته لهذا بقدر تقويته للاخر فقد
تقاوما، و ان كان احدهما غالبا زاد تاثيرة بقدر الفاضل من قوته، كما في تاثير
الادوية و الاعذية المتضادة » انتهى (20) . و فيه: ان اطلاق الظواهر يفيد كون شوب الرياء محبطا للعمل و الثواب و قدم تقدم
بعضها. و منها ما روى: «ان رجلا سال النبي-صلى الله عليه و آله-: عمن يصطنع
المعروف-او قال-يتصدق-فيحب ان يحمد و يؤجر، فلم يدر ما يقول له، حتى نزل قوله
تعالى: «فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا و لا يشرك بعبادة ربه احدا» (21) . و لا ريب في انه قصد الحمد و الاجر جميعا، و مع ذلك نزلت في حقه هذه الآية. و منها ما روي: «ان اعرابيا اتاه-صلى الله عليه و آله-و قال: يا رسول الله، الرجل يقاتل حمية، و الرجل يقاتل شجاعة، و الرجل يقاتل ليرى مكانه في
سبيل الله! فقال-صلى الله عليه و آله-: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في
سبيل الله » . و حملها على صورة تساوى القصدين او غلبة قصد الرياء خلاف الظاهر. و ما
ذكره من ان لكل قصد و فعل تاثيرا خاصا على حدة، ففيه ان ذلك اذا لم يبطله ضده. و
نحن نقول: ان مقتضى الاخبار كصريح العقل يدل على ان قصد الرياء يبطل قصد القربة اذا تواردا
على فعل واحد، فلا يبقى لقصد التقرب تاثير حتى يتصف بالزيادة على تاثير قصد
الرياء. و منها:
النفاق
و هو مخالفة السر و العلن، سواء كان في الايمان او في الطاعات او في المعاشرات
مع الناس، و سواء قصد به طلب الجاه و المال ام لا. و على هذا فهو اعم من الرياء
مطلقا، و ان خص بمخالفة القلب و اللسان او بمخالفة الظاهر و الباطن في معاملة
الناس و مصاحبتهم، فبينهما عموم و خصوص من وجه. و على التقادير، ان كان
باعثه الجبن فهو من رذائل قوة الغضب من جانب التفريط، و ان كان باعثه طلب
الجاه فهو من رذائلها من جانب الافراط و ان كان منشاه تحصيل مال او منكح فهو
من رداءة قوة الشهوة و لا ريب في انه من المهلكات العظيمة، و قد تعاضدت الآيات و
الاخبار على ذمه. و اشد انواع النفاق-بعد كفر النفاق-كون الرجل ذا وجهين و
لسانين، بان يمدح اخاه المسلم في حضوره و يظهر له المحبة و النصيحة، و يذمه في
غيبته و يؤذيه بالسب و السعاية الى الظالمين و هتك عرضه و اتلاف ماله و غير
ذلك، و بان يتردد بين متعاديين و يتكلم لكل واحد بكلام يوافقه و يحسن لكل واحد
منهما ما هو عليه من المعاداة مع صاحبه و يمدحه (22) على ذلك، او يعد كل واحد منهما
انه ينصره، او ينقل كلام كل واحد الى الآخر. و هذا شر من النميمة التي هى النقل من احد
الجانبين. و بالجملة هو بجميع اقسامه مذموم محرم، قال رسول الله-صلى الله
عليه و آله- «من كان له وجهان في الدنيا، كان له لسانان من نار يوم القيامة » . و قال-صلى الله عليه و آله-: «تجدون من شر عباد الله يوم القيامة ذا الوجهين:
الذي ياتي هؤلاء بوجه و هؤلاء بوجه » . و قال-صلى الله عليه و آله-: «يجي ء يوم القيامة
ذو الوجهين دالعا لسانه في قفاه و آخر من قدامه يلتهبان نارا حتى يلتهبان خده،
ثم يقال: هذا الذى كان في الدنيا ذا وجهين و ذا لسانين، يعرف بذلك يوم
القيامة » . و ورد في التوراة «بطلت الامانة و الرجل مع صاحبه بشفتين مختلفتين،
يهلك الله يوم القيامة كل شفتين مختلفتين » . و عن علي بن اسباط، عن عبد الرحمن
بن حماد، رفعه قال: قال الله تبارك و تعالى لعيسى: «يا عيسى، ليكن لسانك في السر
و العلانية لسانا واحد، و كذلك قلبك، اني احذرك نفسك، و كفى بى خبيرا! لا يصلح
لسانان في فم واحد، و لا سيفان في غمد واحد، و لا قلبان فى صدر واحد، و كذلك الاذهان!
» . و قال الباقر عليه السلام: «لبئس العبد عبد يكون ذا وجهين و ذا لسانين، يطرى اخاه شاهدا و ياكله غائبا، ان
اعطى حسده و ان ابتلى خذله » . ثم لا يخفى ان الدخول على المعتاديين و المجاملة مع كل منهما قولا و فعلا لا يوجب
كونه منافقا و لا ذا لسانين اذا كان صادقا، اذ الواحد قد يصادق متعاديين، و
لكن صداقة ضعيفة، اذ الصداقة التامة تقتضى معاداة الاعداء و كذا من ابتلى بذى شر
يخاف شره، يجوز ان يجامله و يتقيه و يظهر له في حضوره من المدح و المحبة ما لم
يعتقد به قلبه، و هو معنى المداراة، و هو و ان كان نفاقا الا انه جائز شرعا للعذر، قال
الله سبحانه: «ادفع بالتي هي احسن السيئة » (23) . و روى: «انه استاذن رجل على رسول الله-صلى الله عليه و آله- فقال: ائذنوا له فبئس
رجل العشيرة. فلما دخل الان له القول، حتى ظن ان له عنده منزلة. فلما خرج، قيل له: لما
دخل قلت الذى قلت ثم النت له القول؟ ! فقال: ان شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة
من اكرمه الناس اتقاء لشره » . و يدل على جواز ذلك جميع اخبار التقية و اخبار
المداراة. و في خبر: «ما وقى المرء به عرضه فهو له صدقة » . و قال بعض الصحابة: «كنا نبشر في وجوه اقوام نلعنهم بقلوبنا» . ثم جواز ذلك انما
اذا اضطر الى الدخول على ذى الشر و مدحه مظنة الضرر اما لو كان مستغنيا عن
الدخول و الثناء او عن احدهما، و مع ذلك ابدى بلسانه ما ليس في قلبه من المدح،
فهو نفاق محرم. ثم ضد النفاق استواء السر و العلانية، او كون الباطن خيرا من الظاهر، و هو من
شرائف الصفات، و كان الاتصاف به و الاجتناب من النفاق اهم مقاصد المؤمنين من
الصدر الاول. و من تامل في ما ورد في ذم النفاق و في مدح موافقة الباطن مع
الظاهر، و تقدم الروية في كل قول و فعل لم يصعب عليه ان يحافظ نفسه من رذيلة النفاق.
و منها (24) :
الغرور
معنى الغرور-ذمه-طوائف المغرورين: المغرورون من الكفار و العصاة و الفساق من
المؤمنين-المغترون من اهل العلم و فرقهم-المغترون من الوعاظ
كثيرون-المغرورون من اهل العبادة فرق كثيرة-المغترون من المتصوفة
اكثر-المغترون من الاغنياء اكثر من سائر الطوائف-ضد الغرور الفطانة و العلم و
الزهد. و هو سكون النفس الى ما يوافق الهوى، و يميل اليه الطبع عن شبهة و خدعة من
الشيطان. فمن اعتقد انه على خير اما في العاجل او في الآجل عن شبهة فاسدة، فهو
مغرور. و لما كان اكثر الناس ظانين بانفسهم خيرا، و معتقدين بصحة ما هم عليه من
الاعمال و الافعال و خيريته، مع انهم مخطئون فيه، فهم مغرورون. مثلا من ياخذ
المال الحرام و ينفقها في مصارف الخير، كبناء المساجد و المدارس و القناطر و
الرباطات و غيرها، يظن ان هذا خير له و سعادة، مع انه محض الغرور، حيث خدعه
الشيطان و اراه ما هو شر له خيرا، و كذا الواعظ الذي غرضه الجاه و القبول من
موعظته، يظن انه في طاعة الله، مع انه في المعصية بغرور الشيطان و خدعته. ثم لا ريب في ان سكون النفس الى ما يوافق الهوى، و يميل الطبع اليه عن شبهة و
مخيلة، مركب من امرين: (احدهما) اعتقاد النفس بان هذا خير له مع كونه خلاف الواقع،
(و ثانيهما) حبها و طلبها باطنا لمقتضيات الشهوة او الغضب. فان الواعظ
اذا قصد بوعظه طلب الجاه و المنزلة معتقدا انه يجلب به الثواب، تكون له رغبة الى
الجاه و اعتقاد بكونه خيرا له، اذ الغني اذا امسك ماله و لم ينفقه في مصارفه
اللازمة، و واظب على العبادة معتقدا ان مواظبته على العبادة تكفي لنجاته و ان
كان بخيلا، يكون له حب للمال و اعتقاد بانه على الخير. ثم الاعتقاد المذكور راجع
الى نوع معين من الجهل المركب، و هو الجهل الذى يكون المجهول المعتقد فيه
شيئا يوافق الهوى، فيكون من رذائل القوة العاقلة، و الحب و الطلب للجاه و المال
من رذائل قوتي الغضب و الشهوة. فالغرور يكون من رذائل القوى الثلاث، او من
رذائل العاقلة مع احداهما.
فصل
(ذم الغرور)
الغرور و الغفلة منبع كل هلكة وام كل شقاوة، و لذا ورد فيه الذم الشديد فى الآيات
و الاخبار، قال الله-سبحانه-: «فلا تغرنكم الحياة الدنيا و لا يغرنكم بالله الغرور» (25) . و قال عز و جل «و لكنكم
فتنتم انفسكم و تربصتم و ارتبتم و غرتكم الاماني حتى جاء امر الله و غركم
بالله الغرور» (26) . و قال رسول الله (ص) : «حبذا نوم الاكياس و فطرهم، كيف يغبنون سهر الحمقى و
اجتهادهم، و المثقال ذرة من صاحب تقوى و يقين افضل من مل ء الارض من
المغترين » . و قال الصادق (ع) : «المغرور في الدنيا مسكين، و في الآخرة مغبون، لانه
باع الافضل بالادنى، و لا تعجب من نفسك، فربما اغتررت بمالك و صحة جسدك ان لعلك
تبقى. و ربما اغتررت بطول عمرك و اولادك و اصحابك لعلك تنجو بهم. و ربما
اغتررت بجمالك و منيتك و اصابتك مامولك و هواك، فظننت انك صادق و مصيب. و ربما اغتررت بما ترى من الندم على تقصيرك في العبادة، و لعل الله يعلم من قلبك
بخلاف ذلك. و ربما اقمت نفسك على العبادة متكلفا و الله يريد الاخلاص. و ربما
افتخرت بعلمك و نسبك، و انت غافل عن مضمرات ما في غيب الله تعالى. و ربما
توهمت انك تدعو الله و انت تدعو سواه. و ربما حسبت انك ناصح للخلق و انت تريدهم
لنفسك ان يميلوا اليك. و ربما ذممت نفسك و انت تمدحها على الحقيقة » (27) .
1) و في نسختنا الخطية (تعليها) . 2) روى هذا الحديث في (احياء العلوم) : 3 281، فصححناه عليه و هو يرويه عن
(الحارث المحاسبي) . 3) القول الاول مبني على اصالة الوجود، و الثاني على اصالة الماهية. و هذا البحث
الذى ذكره المؤلف من دقائق الفلسفة الآلهية و اعلاها و لقد احسن فيه البيان جدا. فانه مبنى على فهم معنى واجب الوجود لذاته، و هو الذى يكون ذاته بذاته، مع قطع
النظر عن كل ما عداه، و من حيث هو هو منشا لانتزاع انه موجود، فلذلك يجب ان يكون
صرف الوجود انه لا شي ء له الوجود الا لكان ممكنا، و يجب ان يكون متصفا بجميع
الكمالات بل اكمل الكمالات و من جملتها ان تكون الموجودات مستندة اليه على
اقوى انحاء الاستناد. و اذا لم يتصف بجميع الكمالات لا يتصف باعدامها، فيدخل
في حقيقته العدم، فلم يكن صرف الوجود، فلم يكن واجب الوجود لذاته، و هذا خلاف
الفرض، او بهذه الطريقة يستدل على اتصافه بجميع صفات الجمال و الجلال. 4) الرعد، الآية: 11. 5) التوبة، الآية: 120. 6) اشارة الى قوله تعالى، مخاطبا لنبيه-صلى الله عليه و آله-: «فاستقم كما
امرت » . 7) الجاثية، الآية: 33. 8) الزمر، الآية: 47. 9) الكهف، الآية: 103، 104. 10) البينة، الآية: 5. 11) الزمر، الآية: 3. 12) النساء، الآية: 146. 13) الكهف، الآية: 110. 14) صححنا الاخبار المروية عن اهل البيت-عليهم السلام-على (الكافي) باب
الاخلاص. و على (الوافي) : 3 328، 329 باب الاخلاص. 15) صححنا الرواية على (مصباح الشريعة) : الباب 77 و على (البحار): مج 15: 2 86
باب الاخلاص عن (مصباح الشريعة) . 16) الحجر، الاية 40. 17) راجع (احياء العلوم) 4 322. 18) الزلزال، الآية: 7، 8. 19) النساء، الآية: 40. 20) ابو حامد الغزالي: (احياء العلوم) : 4 328. و نقله المؤلف باختصار و تصرف
قليلين. 21) هذه مروية في (البحار) : مج 15: 3 59، باب ذم السمعة و الاغترار بمدح الناس،
عن عدة الداعي بمضمون يقارب ماهنا و نصه عن سعيد بن جبير قال: «جاء رجل الى
النبي-صلى الله عليه و آله-فقال: اني اتصدق و اصل الرحم و لا اصنع ذلك الا لله
فيذكر عنى و احمد عليه، فاسر في ذلك و اعجب به. فسكت رسول الله-صلى الله عليه و
آله-و لم يقل شيئا، فنزل قوله تعالى: انما انا بشر.الآية » . 22) و في النسخ (اثناه) بدل (يمدحه) ، و لم نر لها وجها. 23) المؤمنون، الآية: 96. 24) اى من الرذائل المتعلقة باثنتين من القوى الثلاث او بجميعها، و هى القوة
العاقلة و الغضبية و الشهوية. و هذه الرذيلة هي الرذيلة «الواحدة و العشرون » منها. 25) لقمان، الآية: 33. فاطر، الاية: 5. 26) الحديد، الآية: 14. 27) صححناه على مصباح الشريعة: الباب 36.