فصل - مستند الشیعه فی احکام الشریعه جلد 2

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

مستند الشیعه فی احکام الشریعه - جلد 2

احمد بن محمد مهدی النراقی؛ تحقیق: مؤسسة آل البیت (ع) لاحیاء التراث

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

فصل


(معنى حب الله لعبده)


اعلم ان شواهد الكتاب و السنة ناطقة بان الله-سبحانه-يحب العبد، كقوله-تعالى-:
«يحبهم و يحبونه » (1) . و قوله-تعالى-: «ان الله يحب الذين يقاتلون في سبيله » (2) . و
قوله-تعالى-: «ان الله يحب التوابين و يحب المتطهرين » (3) .

و قوله-تعالى-: «قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله و يغفر لكم ذنوبكم » (4) .

و قال رسول الله (ص) : «ان الله يعطى الدنيا من يحب و من لا يحب، و لا يعطى الايمان
الا من يحب » . و قال (ص) : «اذا احب الله عبدا لم يضره ذنب » . و قال (ص) : «اذا احب
الله عبدا ابتلاه، فان صبر اجتباه، و ان رضى اصطفاه » . و قال (ص) : «من اكثر ذكر
الله احبه الله » . و قال (ص)

حاكيا عن الله: «لا يزال العبد يتقرب الى بالنوافل حتى احبه، فاذا احببته
كنت سمعه الذى يسمع به، و بصره الذى يبصر به، و لسانه الذى ينطق به » . و قال (ص) :
«اذا احب الله عبدا، جعل له واعظا من نفسه، و زاجرا من قلبه، يامره و ينهاه » . . . و
امثال ذلك اكثر من ان تحصى.

ثم حقيقة الحب-و هو الميل الى موافق ملائم-غير متصور في حق الله -تعالى-، بل هذا
انما يتصور في حق نفوس ناقصة، و الله-سبحانه- صاحب كل جمال و كمال و بهاء و جلال،
و كل ذلك حاضر له بالفعل ازلا و ابدا، اذ لا يتصور تجدده و زواله، فلا يكون له الى
غيره نظر من حيث انه غير، بل ابتهاجه بذاته و صفاته و افعاله. و ليس في الوجود
الا ذاته و صفاته و افعاله، و لذلك قال بعض العرفاء-لما قرئ قوله-تعالى-: «يحبهم
و يحبونه » -: «نحن نحبهم، فانه ليس يحب الا نفسه » ، على معنى انه الكل و انه في
الوجود ليس غيره. فمن لا يحب الا ذاته، و صفات ذاته، و افعال ذاته و تصانيف
ذاته، فلا يجاوز حبه و ذاته و تواضع ذاته من حيث هى متعلقة بذاته، فهو اذا
لا يحب الا ذاته. و ليس المراد من محبة الله لعبده هو الابتهاج العام الذى
له-تعالى-بافعاله له، اذ المستفاد من الآيات و الاخبار: ان له-تعالى- خصوصية
محبة لبعض عباده ليست لسائر العباد و المخلوقات، فمعنى هذه المحبة يرجع الى كشف
الحجاب عن قلبه حتى يراه بقلبه، و الى تمكينه اياه من القرب اليه، و الى
ارادته ذلك به في الازل، و الى تطهير باطنه عن حلول الغير به، و تخليته عن
عوائق تحول بينه و بين مولاه، حتى لا يسمع الا بالحق و من الحق، و لا يبصر الا به،
و لا ينطق الا به-كما في الحديث القدسى- فيكون تقربه بالنوافل سببا لصفاء باطنه، و
ارتفاع الحجاب عن قلبه، و حصوله في درجة القرب من ربه، و كل ذلك من فضل
الله-تعالى-و لطفه به.

ثم قرب العبد من الله لا يوجب تغيرا و تجددا في صفات الله-تعالى-، اذ التغير
عليه-سبحانه-محال، لانه لا يزال في نعوت الكمال و الجلال و الجمال على ما كان
عليه في ازل الآزال، بل يوجب مجرد تغير العبد بترقيه في مدارج الكمال، و التخلق
بمكارم الاخلاق التى هى الاخلاق الالهية، فكلما صار اكمل صفة و اتم علما و احاطة
بحقائق الامور، و اثبت قوة في قهر الشياطين و قمع الشهوات، و اظهر نزاهة عن
الرذائل، و اقوى تصرفا في ملكوت الاشياء، صار اقرب الى الله. و درجات القرب غير
متناهية، لعدم تناهى درجات الكمال، فمثل تقرب العبد الى الله ليس كتقرب احد
المتقاربين الى الآخر اذا تحركا معا، بل كتقرب احدهما مع تحركه الى الآخر الذى
كان ساكنا، او كتقرب التلميذ في درجات الكمال الى استاذه، فان التلميذ
متحرك مترق من حضيض الجهل الى بقاع العلم، و يطلب القرب من استاذه في درجات
العلم و الكمال، و الاستاذ ثابت واقف، و ان كان التلميذ يمكن ان يصل الى مرتبة
المساواة الاستاذه لتناهى كمالاته، و اما العبد، كائنا من كان، لا يمكن ان يصل
الى كمال يمكن ان يكون له نسبة الى كمالاته -سبحانه-، لعدم تناهي كمالاته شدة و
قوة و عدة، و علامة كون العبد محبوبا عند الله. ان يكون هو محبا له-تعالى-، مؤثرا
اياه على غيره من المحاب، و ان يرى من بواطن اموره و ظواهره انه-تعالى-يهى ء له
اسباب السعادة فيها، و يرشده الى ما فيه خيره، و يصده عن المعاصى باسباب يعلم
حصولها منه-سبحانه-، انه-تعالى-يتولى امره، ظاهره و باطنه، و سره و جهره، فيكون
هو المشير عليه، و المدبر لامره، و المزين لاخلاقه، و المستعمل لجوارحه، و المسدد
لظاهره و باطنه، و الجاعل لهمومه هما واحدا، و المبغض للدنيا في قلبه، و الموحش
له من غيره، و المونس له بلذة المناجاة في خلواته و المكاشف له عن الحجب بينه و
بين معرفته.

تذنيب


(الحب في الله و البغض في الله)


اعلم ان الاخبار متظاهرة في مدح الحب في الله و البغض في الله و عظم فضيلته و
ثوابه، و معناه لا يخلو عن ابهام، فلا بد ان نشير الى بعض هذه الاخبار، ثم نبين
حقيقته و نكشف عن معناه.

اما الاخبار: كقول النبي (ص) : «ود المؤمن للمؤمن في الله اعظم شعب الايمان، الا و
من احب في الله. و ابغض في الله. و اعطى في الله. و منع في الله فهو من اصفياء
الله » . و قال (ص) لاصحابه: «اى عرى الايمان اوثق؟ »

فقالوا: الله و رسوله اعلم-فقال بعضهم: الصلاة، و قال بعضهم، الزكاة، و قال بعضهم:
الصيام، و قال بعضهم: الحج و العمرة، و قال بعضهم: الجهاد- فقال رسول الله (ص) :
«لكل ما قلتم فضل و ليس به، و لكن اوثق عرى الايمان الحب في الله و البغض في الله،
و توالى اولياء الله و التبرى من اعداء الله » .

و قال (ص) : «المتحابون في الله يوم القيامة على ارض زبرجدة خضراء في ظل عرشه عن
يمينه-و كلنا يديه يمين-وجوههم اشد بياضا و اضوا من الشمس الطالعة، يغبطهم
بمنزلتهم كل ملك مقرب و كل نبي مرسل، يقول الناس: من هؤلاء؟ فيقال: هؤلاء المتحابون
في الله » . و قال سيد الساجدين -عليه السلام-: «اذا جمع الله-عز و جل-الاولين و
الآخرين، قام مناد فنادى ليسمع الناس، فيقول: اين المتحابون في الله؟ قال:
فيقوم عنق من الناس، فيقال لهم: اذهبوا الى الجنة بغير حساب. قال: فتلقاهم
الملائكة، فيقولون: الى اين؟ فيقولون: الى الجنة بغير حساب، فيقولون: اى حزب
انتم من الناس: فيقولون: نحن المتحابون في الله. قال: فيقولون: و اى شى ء كانت
اعمالكم؟ قالوا: كنا نحب في الله و نبغض في الله. قال: فيقولون: نعم اجر
العاملين » . و قال الباقر (ع) : «اذا ردت ان تعلم ان فيك خيرا فانظر الى قلبك،
فان كان يحب اهل طاعة الله و ببغض اهل معصيته ففيك خير و الله يحبك، و اذا
كان يبغض اهل طاعة الله و يحب اهل معصيته فليس فيك خير و الله يبغضك. و المرء
مع من احبه » . و قال (ع) : «لو ان رجلا احب رجلا لله، لاثابه الله على حبه اياه، و ان
كان المحبوب في علم الله من اهل النار، و لو ان رجلا ابغض رجلا لله، لاثابه الله
على بغضه اياه، و ان كان المبغض في علم الله من اهل الجنة » . و قال الصادق (ع) :
«من احب لله، و ابغض لله، و اعطى لله، فهو ممن كمل ايمانه » . و قال (ع) : «ان
المتحابين في الله يوم القيامة على منابر من نور، قد اضاء نور وجوههم و نور
اجسادهم و نور منابرهم كل شى ء، حتى يعرفوا به، فيقال: هؤلاء المتحابون في الله » .
و قال (ع) : «و هل الايمان الا الحب في الله و البغض في الله؟ ثم تلا هذه الآية:

«حبب اليكم الايمان و زينه في قلوبكم و كره اليكم الكفر و الفسوق و العصيان اولئك
هم الراشدون » (5) .

و قال (ع) : «ما التقى المؤمنان قط الا كان افضلهما اشدهما حبا لاخيه » . و قال (ع) :
«من لم يحب على الدين و لم يبغض على الدين فلا دين له » . و الاخبار بهذه
المضامين كثيرة (6) .

و اذا عرفت ذلك، فلنشر الى معنى الحب في الله و البغض في الله فنقول:

الحب الذى بين انسانين، اما يحصل بمجرد الصحبة الاتفاقية، كالصحبة بحسب
الجوار، او بحسب الاجتماع في سوق، او مدرسة، او سفر، او باب سلطان، او امثال
ذلك، و معلوم ان مثل هذا الحب ليس من الحب في الله بل هو الحب بحسب الاتفاق،
او لا يحصل بمجرد ذلك، بل له سبب و باعث آخر، و هذا على اربعة اقسام:

الاول-ان يحب انسان انسانا لذاته، لا ليتوصل به الى محبوب و مقصود وراءه،
بان يكون هو في ذاته محبوبا عنده، بمعنى انه يلتذ برؤيته و معصيته و مشاهدة اخلاقه،
لاستحسانه له، فان كل جميل لذيذ في حق من ادرك جماله، و كل لذيذ محبوب، و اللذة
تتبع الاستحسان، و الاستحسان يتبع المناسبة و الموافقة و الملائمة بين
الطباع. ثم ذلك المستحسن، اما ان يكون جمال الصورة، و كمال العقل، و غزارة
العلم، و حسن الاخلاق و الافعال، و كل ذلك يستحسن عند الطباع السليمة، و كل
مستحسن مستلذ به و محبوب، و من هذا القسم ان يحبه لاجل مناسبة خفية معنوية
بينهما، فانه قد تستحكم المودة بين شخصين من غير حسن في خلق و خلق، و من دون ملاحة
في صورة، و لا غيرها من الاعضاء، بل المناسبة باطنة توجب الالفة و الموافقة و
المحبة، فان شبه الشي ء ينجذب اليه بالطبع، و الاشياء الباطنة خفية، و لها اسباب
دقيقة ليس في قوة البشر ان يطلع عليها، و الى هذا القسم من الحب و الموافقة اشار
رسول الله (ص) بقوله: «الارواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، و ما تناكر
منها اختلف » . فالحب نتيجة التناسب الذي هو التعارف، و البغض نتيجة
التناكر. و معلوم ان هذا القسم من الحب لا يدخل في الحب لله، بل هو حب بالطبع و
شهوة النفس، لذا يتصور ممن لا يؤمن بالله، الا انه ان اتصل به غرض مذموم صار
مذموما، و الا فهو مباح لا يوصف بمدح و ذم.

الثاني-ان يحبه لا لذاته، بل لينال منه محبوبا وراء ذاته، و كانت لهذا
المحبوب فائدة دنيوية. و لا ريب في ان كلما هو وسيلة الى المحبوب محبوب، و عدم
كون هذا الحب من جملة الحب في الله ظاهر.

الثالث-ان يحبه لا لذاته، بل لغيره، و ذلك الغير راجع الى حظوظه في الآخرة دون
الدنيا، و ذلك كحب التلميذ للاستاذ، لان يتوسل به الى تحصيل العلم و تحسين
العمل، و مقصوده من العلم و العمل سعادة الآخرة.

و هذا الحب من جملة الحب في الله، و صاحبه من محبي الله، و كذلك حب الاستاذ
للتلميذ، لانه يتلقف منه العلم، و ينال بواسطته مرتبة التعليم، و يترقى به الى
درجة التعظيم في ملكوت السماء. قال عيسى (ع) : «من علم و عمل و علم، فذلك يدعى عظيما
في ملكوت السماء» . و لا يتم التعليم الا بمتعلم، فهو اذن آلة في تحصيل هذا الكمال،
فان احبه لانه آلة اذ جعل صدره مزرعة لحرثه، فهو محب لله.

بل التحقيق: ان كل من يحب احدا لصنعته، او فعله الذي يوجب تقربه الى الله، فهو من
جملة المحبين في الله، كحب من يتولى له ايصال الصدقة الى المستحقين، و حب
طباخ يحسن صنعته في الطبخ لاجل طبخه لمن يضيفه تقربا الى الله، و حب من ينفق
عليه و يواسيه بكسوته و طعامه و مسكنه و جميع مقاصده التي يقصده في الدنيا، و مقصوده
من ذلك الفراغ لتحصيل العلم و العبادة، و حب من يخدمه بنفسه من غسل ثيابه و كنس
بيته و طبخ طعامه و امثال ذلك من حيث انه يفرغه لتحصيل العلم و العمل. . . و قس على
ما ذكر امثاله، و المعيار ان كل من احب غيره من حيث توسله لاجله الى فائدة
اخروية فهو محب الله و في الله.

الرابع-ان يحبه لله و في الله، لا لينال منه علما او عملا، او يتوسل به الى امر
وراء ذاته، و ذلك بان يحبه من حيث انه متعلق بالله و منسوب اليه، اما بالنسبة
العامة التي ينتسب بها كل مخلوق الى الله، او لاجل خصوصية النسبة ايضا، من تقربه
الى الله، و شدة حبه و خدمته له-تعالى-.

و لا ريب في ان من آثار غلبة الحب ان يتعدى من المحبوب الى كل من يتعلق به و
يناسبه، و لو من بعد، فمن احب انسانا حبا شديدا، احب محب ذلك الانسان و احب
محبوبه و من يخدمه و من يمدحه و يثنى عليه او يثنى محبوبه، و احب ان يتسارع الى
رضاء محبوبه، كما قيل:

امر على الديار ديار ليلى
اقبل ذا الجدار و ذا الجدارا
و ما حب الديار شغفن قلبى
و لكن حب من سكن الديارا

و اما البغض في الله، فهو ان يبغض انسان انسانا لاجل عصيانه لله و مخالفته
له-تعالى-، فان من يحب في الله لا بد ان يبغض في الله، فانك ان احببت انسانا
لانه مطيع لله و محبوب عنده، فان عصاه لا بد ان تبغضه، لانه عاص فيه و ممقوت عند
الله، قال عيسى (ع) : «تحببوا الى الله ببغض اهل المعاصي، و تقربوا الى الله
بالتباعد عنهم، و التمسوا رضاء الله بسخطهم » .

و روى: «انه-تعالى-اوحى الى بعض انبيائه، اما زهدك في الدنيا فقد تعجلت الراحة،
و اما انقطاعك الى فقد تعززت بي، و لكن هل عاديت في عدوا، او واليت وليا؟ » .

ثم للمعصية درجات مختلفة، فانها قد تكون بالاعتقاد، كالكفر و الشرك و البدعة، و قد
تكون بالقول و الفعل، و هذا اما ان يكون مما يتاذى به غيره، كالقتل و الغضب و
الضرب و شهادة الزور و سائر انواع الظلم، او لا يكون مما يتاذى به غيره، و هذا
اما يوجب فساد الغير، كالجمع بين الرجال و النساء، و تهيئة اسباب الشر و
الفساد على ما هو داب صاحب الماخور، او لا يوجب فساد الغير، كالزنا و شرب
الخمر، و هذا ايضا اما كبيرة او صغيرة. و اظهار البغض ايضا له درجات مختلفة،
كالتباعد و الهجران، و قطع اللسان عن المكالمة و المحادثة، و التغليظ في القول،
و الاستخفاف و الاهانة، و عدم السعي في اطاعته، و السعي في اساءته و افساد
مآربه، و بعض هذا اشد من بعض، كما ان درجات الفسق و المعصية ايضا كذلك، فينبغي
ان يكون الاشد من درجات البغض بازاء الاشد من درجات المعصية و الفسق، و الوسط
بازاء الوسط، و الاضعف بازاء الاضعف، و ينبغى الا يترك اولا النصيحة، و الامر
بالمعروف، و النهى عن المنكر، و تغليظ القول في الوعظ و الارشاد، لا سيما اذا كان
العاصي ممن بينه و بينه صحبة متاكدة. ثم العاصي طن كان ممن له صفات محمودة،
كالايمان و العلم و السخاء و العبادة و الطاعة او امثال ذلك، ينبغي ان يكون
مبغوضا لاجل معصيته و محبوبا لاجل صفته المحمودة، و هذا كما ان من وافقك في
غرض و خالفك في آخر تكون معه على حالة متوسطة بين التردد اليه و التوحش عنه، فلا
تبالغ في اكرامه مبالغتك في اكرام من يوافقك في جميع اغراضك، و لا تبالغ
في اهانته مبالغتك في اهانة من خالفك في جميع اغراضك.

تتميم


(الوفاء في الحب)


اعلم ان من تمام الحب للاخوان في الله (الوفاء) ، و هو الثبات على الحب و
لوازمه و ادامته الى الموت و بعده مع اولاده و اصدقائه، و ضده (الجفاء) ، و هو قطع
الحب او بعض لوازمه في ايام الحياة او بعد الموت بالنسبة الى اولاده و
احبته، و لو لا الوفاء في الحب لما كانت فيه فائدة، اذ الحب انما يراد للآخرة،
فان انقطع قبل الموت لضاع السعي و حبط العمل، و لذلك قال رسول الله في السبعة
الذين يظلمهم الله يوم القيامة: «و اخوان تحابا في الله اجتمعا على ذلك و
تفرقا عليه » . و روي: «انه (ص) كان يكرم بعض العجائز كلما دخلت عليه، فقيل له في ذلك،
فقال: انها كانت تاتينا ايام خديجة، و ان كرم العهد من الدين » . فمن الوفاء
مراعاة جميع الاصدقاء و الاقارب و المتعلقين، و مراعاتهم اوقع في القلب من
مراعاة الاخ المحبوب في نفسه، فان فرحه بتفقد من يتعلق به اكثر من فرحه بتفقد
نفسه، اذ لا تعرف قوة المحبة و الشفقة الا بتعديها من المحبوب الى كل من يتعلق به،
حتى ان من قوي حبه لاخيه تميز في قلبه كلبه الذي على باب داره من سائر الكلاب. و
لا ريب في ان المحبة التي تنقطع-و لو بعد الممات-لا تكون محبة في الله، اذ المحبة
في الله دائمة لا انقطاع لها. فما قيل من ان (قليل الوفاء بعد الوفاة خير من كثيره
حال الحياة) انما هو لدلالته على كون الحب في الله.

و بالجملة: الوفاء بالمحبة تمامها. و من آثار الوفاء ان يكون شديد الجزع من
مفارقته، و الا يسمع بلاغات الناس عليه، و ان يحب صديقه و يبغض عدوه، و ليس من
الوفاء موافقة الاخ فيما يخالف الحق في امر يتعلق بالدين، بل من الوفاء
المخالفة له و ارشاده الى الحق.

هذا و اما البعد و الانس، فقد عرفت ان الانس عبارة عن استبشار القلب بما يلاحظه
من المحبوب بعد الوصول، و البعد خلافه، و الانس و الخوف و الشوق كلها من آثار
المحبة، و كل واحد منها يرد على المحب بحسب نظره، و مما يغلب عليه فى وقته، فاذا
غلب عليه التطلع من وراء حجب الغيب الى منتهى الجمال، و استشعر قصوره من
الاطلاع على كنه الجلال، انبعثت النفس و انزعجت له و هاجت اليه، فسميت هذه
الحالة في الانزعاج (شوقا) ، و هو بالاضافة الى امر غايب، و اذا غلب عليه الفرح
بالقرب و مشاهدة الحضور بما هو حاصل من الكشف، و كان نظره مقصورا على مطالعة
الجمال الحاضر المكشوف، غير ملتفت الى ما لم يدركه بعد، استبشر القلب بما يلاحظه
فيه. فيسمى استبشاره (انسا) ، و ان كان نظره الى صفات العز و الجلال و
الاستغناء و عدم المبالاة، و استشعر امكان الزوال و البعد، تالم قلبه بهذا
الاستشعار، فيسمى تالمه (خوفا) ، و هذه الاحوال تابعة لهذه الملاحظات، فان غلب
الانس و تجرد عن ملاحظة ما غاب عنه و ما يتطرق اليه من خطر الزوال، عظم نعيمه و
لذته، و غلب عليه الانس بالله، و لم تكن شهوته الا في الانفراد و الخلوة، و ذلك لان
الانس بالله يلازمه التوحش من غير الله، بل كلما يعوق من الخلوة يكون اثقل الاشياء
على القلب، كما روى: «ان موسى (ع) لما كلمه ربه، مكث دهرا لا يسمع كلامه احد من الخلق
الا اخذه الغشيان » ، و لان الحب يوجب عذوبة كلام المحبوب و عذوبة ذكره، فيخرج
عن القلب عذوبة ما سواه، فان خالط الناس كان كمنفرد في جماعة، و مجتمع في خلوة، و
غريب في حضر، و حاضر فى سفر، و شاهد في غيبة، و غائب فى حضور، و مخالط بالبدن، متفرد
بالقلب المستغرق في عذوبة الذكر، قال امير المؤمنين (ع) في وصفهم: «هم قوم هجم
بهم العلم على حقيقة الامر، فباشروا روح اليقين، و استلانوا ما استوعره
المترفون، و انسوا بما استوحش منه الجاهلون، صحبوا الدنيا بابدان ارواحها
متعلقة بالمحل الاعلى، اولئك خلفاء الله في ارضه، و الدعاة الى دينه » .

فصل


(الانس بالله)


من انكر وجود الحب و الشوق انكر وجود الانس ايضا، ظنا انه يدل على التشبيه، و هو
ناش عن الجهل بالابتهاجات العقلية و اللذات الحقيقية، و عن القصور فى طريق
المعرفة، و الجمود على احكام الحس، و الغفلة عن عالم العقل و البصيرة، و قد ظهر
ثبوت الانس من بعض الاخبار السابقة، و يدل عليه ما ورد في اخبار داود: «ان
الله-عز و جل-اوحى اليه:

يا داود! ابلغ اهل ارضي: اني حبيب لمن احبني، و جليس لمن جالسني، و مؤنس لمن انس
بذكرى، و صاحب لمن صاحبنى، و مختار لمن اختارني، و مطيع لمن اطاعنى، ما احبنى
عبد اعلم ذلك يقينا من قلبه الا قبلته لنفسى، و احببته حبا لا يتقدمه احد من خلقي،
من طلبنى بالحق وجدني، و من طلب غيرى لم يجدني، فارفضوا يا اهل الارض ما انتم
عليه من غرورها، و هلموا الى كرامتي و مصاحبتى و مجالستى، و آنسوا بي
اؤانسكم، و اسارع الى محبتكم » .

فصل


(الانس قد يثمر الادلال)


قال ابو حامد الغزالي: «الانس اذا دام و غلب و استحكم، و لم يشوشه قلق الشوق، و لم
ينغصه خوف البعد و الحجاب، فانه يثمر نوعا من الانبساط في الاقوال و الافعال
و المناجاة مع الله-سبحانه-، و قد يكون منكرا بحسب الصورة، لما فيه من الجراة و
قلة الهيبة، و لكنه محتمل ممن اقيم في مقام الانس، و من لم يقم في ذلك المقام و
تشبه بهم في الفعل و الكلام، هلك و اشرف على الكفر. و مثاله مناجاة (برخ الاسود)
الذي امر الله-تعالى- كليمه موسى (ع) ان يساله ليستسقى لبنى اسرائيل، بعد ان
قحطوا سبع سنين، و خرج موسى في سبعين الفا، فاوحى الله-عز و جل-اليه: كيف
استجيب لهم و قد اظلت عليهم ذنوبهم؟ سرائرهم خبيثة، يدعوننى على غير يقين، و
يامنون مكرى، ارجع الى عبد من عبادي يقال له (برخ) ، فقل له: يخرج حتى استجيب له.
فسال عنه موسى، فلم يعرف، فبينا موسى ذات يوم يمشي في طريق، اذا بعبد اسود قد
استقبله، بين عينيه تراب من اثر السجود، في شملة قد عقدها على عنقه، فعرفه موسى
بنور الله-عز و جل-، فسلم عليه و قال له: ما اسمك؟ فقال: اسمي برخ، قال: فانت
طلبتنا منذحين، اخرج فاستسق لنا، فخرج، فقال في كلامه: ما هذا من فعالك، و لا
هذا من حلمك، و ما الذي بدا لك؟ اتعصت عليك غيومك؟ ام عاندت الرياح عن طاعتك؟
ام نفد ما عندك؟ ام اشتد غضبك على المذنبين؟ الست كنت غفارا قبل خلق الخاطئين؟
خلقت الرحمة و امرت بالعفو، ام تربنا انك ممتنع؟ ام تخشى الفوت فتعجل بالعقوبة؟
! . . . قال:

فما برح حتى اخضل بنو اسرائيل بالمطر، و انبت الله-عز و جل-العشب في نصف يوم
حتى بلغ الركب، ثم رجع (برخ) ، فاستقبله موسى، فقال: كيف رايت حين خاصمت ربي،
كيف انصفنى؟ ! فهم به موسى، فاوحى الله اليه: ان برخا يضحكنى كل يوم ثلاث
مرات » ! ! (7) . و لا ريب في ان امثال هذه الكلمات الصادرة عن الانبساط و الادلال
يحتمل من بعض العباد دون البعض، فمن انبساط الانس قول موسى: «ان هي الا فتنتك » (8)

و قوله في التعلل و الاعتذار، لما قيل له.

«اذهب الى فرعون انه طغى » (9) : «و لهم علي ذنب فاخاف ان يقتلون » (10) . و قوله: «و
يضيق صدري » (11) . و قوله: «اننا نخاف ان يفرط علينا او ان يطغى » (12) 6) .

و هذا من غير موسى سوء الادب، لان الذي اقيم مقام الانس يلاطف و يحتمل منه ما لا
يحتمل من غيره. كيف و لم يحتمل من يونس النبي (ع) ما دون هذا الحال، اقيم مقام
القبض و الهيبة، فعوقب بالسجن في بطن الحوت في ظلمات ثلاث، فنودي عليه الى
يوم الحشر، لو لا ان تداركته نعمة من ربه لنبذ بالعراء و هو مذموم. و نهى نبينا
ان يقتدى به، فقيل له:

«و اصبر لحكم ربك و لا تكن كصاحب الحوت اذ نادى و هو مكظوم » (13) .

و هذه الاختلافات بعضها لاختلاف المقامات و الاحوال، و بعضها لما سبق في
الازل من التفاضل و التفاوت في القسمة بين العباد. قال الله-سبحانه-:

«تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله و رفع بعضهم درجات » (14) .

فالانبياء و الاولياء مختلفون في الصفات و الاحوال، الا ترى ان عيسى بن مريم (ع)
كان في مقام الانبساط و الادلال. و لا دلاله له سلم على نفسه، فقال:

«و السلام علي يوم ولدت و يوم اموت و يوم ابعث حيا» (15) .

و هذا انبساط منه لما شاهد من اللطف في مقام الانس. و اما يحيى (ع)

فانه اقيم مقام الهيبة و الحياء، فلم ينطق حتى سلم عليه خالقه، فقال:

«و سلام عليه يوم ولد و يوم يموت و يوم يبعث حيا» (16) .

و انظر كيف احتمل لاخوة يوسف ما فعلوا به، و قد قال بعض العلماء:

«قد عددت من اول قوله-تعالى-:

«اذ قالوا ليوسف و اخوه احب الى ابينا منا» (17)

الى راس العشرين آية من اخباره-تعالى-عنهم، فوجدت به نيفا و اربعين خطيئة،
بعضها اكبر من بعض، و قد يجتمع في الكلمة الواحدة الثلاث و الاربع، فغفر لهم و عفى
عنهم، و لم يحتمل لعزير في مسالة واحدة سال عنها في القدر، حتى قيل: لئن عاد محى اسمه
عن ديوان النبوة » . و من فوائد هذه القصص في القرآن: ان تعرف بها سنة الله في عباده
الذين خلوا من قبل، فما فى القرآن شي ء الا و فيه اسرار و انوار يعرفها
الراسخون في العلم.

تذنيب


(العزلة)


اعلم ان من بلغ مقام الانس، غلب على قلبه حب الخلوة و العزلة عن الناس. لان
المخالطة مع الناس تشغل القلب عن التوجه التام الى الله. فلا بد لنا من بيان
ان الافضل من العزلة و المخالطة ايهما. فان العلماء في ذلك مختلفون. و الاخبار
ايضا في ذلك مختلفة. و لكل واحد منها ايضا فوائد و مفاسد. فنقول: الظاهر من جماعة:
تفضيل العزلة على المخالطة مطلقا.

و الظاهر من الاخرى: عكس ذلك.

نظر الاولين الى اطلاق ما ورد في مدح العزلة، و الى فوائدها و ما ورد في مدحها،
كقول النبي (ص) : «ان الله يحب العبد التقي الخفي » ، و قوله (ص) : «افضل الناس مؤمن
يجاهد بنفسه و ماله في سبيل الله، ثم رجل معتزل في شعب من الشعاب » ، و قوله (ص) لمن
ساله عن طريق النجاة:

«ليسعك بيتك، و امسك عليك دينك، و ابك على خطيئتك » ، و قول الصادق (ع) : «فسد
الزمان، و تغير الاخوان، و صار الانفراد اسكن للفؤاد» ، و قوله (ع) : «اقلل معارفك، و
انكر من تعرف منهم » ، و قوله -عليه السلام-: «صاحب العزلة متحصن بحصن الله-تعالى-،
و متحرس بحراسته، فيا طوبى لمن تفرد به سرا و علانية! و هو يحتاج الى عشر خصال:

علم الحق و الباطل، و تحبب الفقر، و اختيار الشدة، و الزهد، و اغتنام الخلوة، و
النظر في العواقب، و رؤية التقصير في العبادة مع بذل المجهود، و ترك العجب، و
كثرة الذكر بلا غفلة، فان الغفلة مصطاد الشيطان و راس كل بلية و سبب كل حجاب، و
خلوة البيت عما لا يحتاج اليه فى الوقت. قال عيسى بن مريم عليهما السلام:
(اخزن لسانك لعمارة قلبك، و ليسعك بينك، و احذر من الرياء و فضول معاشك، و استح
من ربك، و ابك على خطيئتك، و فر من الناس فرارك من الاسد و الافعى، فانهم
كانوا دواء فصاروا اليوم داء، ثم الق الله متى شئت) » . قال ربيع بن خثيم: «ان
استطعت ان تكون اليوم في موضع لا تعرف و لا تعرف فافعل، ففي العزلة صيانة
الجوارح، و فراغ القلب، و سلامة العيش، و كسر سلاح الشيطان، و المجانبة من كل سوء،
و راحة القلب، و ما من نبى و لا وصي الا و اختار العزلة في زمانه، اما في ابتدائه،
و اما في انتهائه » (18) .

و اما فوائد العزلة، فكالفراغ للعبادة، و الذكر، و الفكر، و الاستيناس بمناجاة
الله، و الاشتغال باستكشاف اسرار الله في ملكوت السماوات و الارض، و التخلص
عن المعاصي التي يتعرض الانسان لها غالبا بالمخالطة: كالغيبة، و الرياء، و سائر
آفات اللسان، و مسارقة الطبع الاعمال الخفية و الاخلاق الردية من الناس، و
المداهنة في الامر بالمعروف و النهي عن المنكر، و الاستخلاص من الفتن و الخصومات
و اخطارها، او من شر الناس و ايذائهم قولا و فعلا، و قطع طمعه عن الناس، و قطع طمعهم
عنه، و الخلاص من مشاهدة الظلمة، و الفسقة، و الجهال، و الثقلاء، و الحمقى، و مقاساة
اخلاقهم.

و نظر الآخرين-اعني القائلين بتفضيل المخالطة على العزلة-الى اطلاق الظواهر
الواردة في مدح المخالطة و المؤالفة و المؤانسة و الى فوائدها، اما ما ورد في
مدحها، كقول النبي (ص) : «المؤمن الف مالوف، و لا خير فيمن لا يالف و لا يؤلف » ، و
قوله (ص) : «من فارق الجماعة مات ميتة الجاهلية »

و كالاخبار الواردة في ذم الهجرة عن الاخوان، و قوله (ص) : «اياكم و الشعاب، و
عليكم بالعامة و الجماعة و المساجد» .

و اما فوائد المخالطة: كالتعليم، و التعلم، و كسب الاخلاق الفاضلة من مجالسة
المتصفين بها، و استماع المواعظ و النصائح، و نيل الثواب بحضور الجمعة و
الجماعة و الجنازة، و عيادة المرضى، و زيارة الاخوان، و قضاء حوائج المحتاجين،
و رفع الظلم عن المظلومين، و ادخال السرور على المؤمنين، و الاستيناس بالاخوان،
و باهل الورع و العبادة و التقوى، و هو يروح القلب، و يهيج داعية النشاط في
العبادة، و ايصال النفع الى المسلمين بالمال و الجاه و اللسان، و استفادة
مزيد الاجر و الثواب بتحصيل المعاش و الكد على العيال، و ارتياض النفس بمقاساة
الناس في تحمل اذاهم، و كسر النفس و شهواتها، و ادراك صفة التواضع لتوقفه على
معاشرة الناس و مخالطتهم و عدم حصوله في الوحدة، و استفادة التجارب و الكياسة
في مصالح الدنيا و الدين، فانها لا تحصل الا من مخالطة الخلق و مشاهدة مجاري
احوالهم.

هذه هي فوائد كل من العزلة و المخالطة، و فوائد كل منهما مفاسد و غوائل للآخر، و انت-بعد
ما عرفت فوائد كل منهما و غوائله-تعلم ان الحكم بترجيح احدهما على الآخر على
الاطلاق خطا، كيف يجوز ان يقال: ان العزلة افضل لشخص جاهل لم يتعلم شيئا من اصوله
و فروعه، و لم يقرع سمعه علم الاخلاق، و لم يميز بين فضائل الصفات و رذائلها، فضلا
عن ان تحصل له التخلية و التحلية، و مع ذلك يمكن ان يحصل ذلك بالمخالطة مع العلماء
و اولى الاخلاق الفاضلة؟ و كيف يجوز ان يقال: ان المخالطة افضل لمن حصل ما في و
سعه و قدرته من العلم و العمل، و وصل الى مرتبة الابتهاج و الالتذاذ بالطاعات و
المناجاة، و لم يترتب على مخالطته مع الناس شي ء من الفوائد الدينية و الدنيوية، بل
تترتب عليه المفاسد الكثيرة؟

فالصحيح ان يقال: ان الافضلية فيهما تختلف بالنظر الى الاشخاص و الاحوال و
الازمان و الامكنة. فينبغي ان ينظر الى كل شخص و حاله، و الى خليطه، و الى باعث
مخالطته، و الى ما يحصل بمخالطته من فوائد المخالطة، و ما يفوت لاجلها من فوائد
العزلة. و يوازن بين ذلك، حتى يظهر الافضل و الارجح، و لاختلاف ذلك في حق الاشخاص،
بملاحظة الاحوال و الفوائد و الآفات. و ربما يظهر-بعد التامل-ان الافضل لبعض الخلق
العزلة التامة، و لبعضهم المخالطة، و لبعضهم الاعتدال في العزلة و المخالطة. و بما
ذكر يظهر ان الافضل لمن بلغ مقام الانس و الاستغراق:

الخلوة و العزلة، اذ لا ريب في ان المخالطة توجب السقوط عن مرتبة الشهود و الانس،
و لا يتصور من فوائدها شي ء يقاوم ذلك. و لذلك كان المحبون المستانسون بالله
يعتزلون عن الخلق و يؤثرون الخلوة. قال اويس القرني:

«ما كنت ارى احدا يعرف ربه فيانس بغيره » ، و قال بعضهم: «اذا رايت الصبح ادركني
استرجعت كراهية لقاء الناس » . و قال بعضهم: «سرور المؤمن و لذته في الخلوة بمناجاة
ربه » . و قال بعض الصالحين: «رايت في بعض البلاد عابدا خرج من بعض قلل الجبال،
فلما رآني تنحى عني و تستر بشجرة. فقلت له: سبحان الله! اتبخل علي بالنظر اليك؟
فقال: يا هذا! اني قمت في هذا الجبل دهرا طويلا اعالج قلبي فى الصبر عن الدنيا
و اهلها، فطال في ذلك تعبى و فنى فيه عمري، فسالت الله-تعالى-ان يعطيني ذلك.
فسكن قلبي عن الاضطراب، و الف الوحدة و الانفراد. فلما نظرت اليك خفت ان اوقع في
الاول. فاني اعوذ من شرك برب العالمين و حبيب القانتين. ثم صاح و قال: و اغماه
من طول المكث في الدنيا! ثم حول وجهه عني و قال: سبحان من اذاق قلوب العارفين
من لذة الخلود و حلاوة الانقطاع اليه! ما الهى قلوبهم عن ذكر الجنان و عن الحور
الحسان » . و قال بعض الاكابر: «انما يستوحش الانسان من نفسه لخلو ذاته عن
الفضيلة. فبملاقاة الناس و مخالطتهم يفرح و يطرد الوحشة من نفسه.

فاذا كانت ذاته فاضلة طلب الوحدة ليستعين بها على الفكرة و يستخرج العلم و
الحكمة » . و من هنا قيل: «الاستيناس بالناس من علامات الا فلاس » . فمن تيسر له منزلة
بدوام الذكر و الانس بالله و بدوام الفكر و التحقيق في معرفة الله، فالتجرد و
الخلوة افضل له من كل ما يتعلق بالمخالطة. فان غاية العبادات و ثمرة
المجاهدات ان يموت الانسان محبا لله عارفا بالله، و لا محبة الا بالانس
الحاصل بدوام الذكر، و لا معرفة الا بدوام الفكر. و فراغ القلب شرط لكل منهما، و لا
فراغ مع المخالطة.

فان قلت: لا منافاة بين المخالطة مع الناس و الانس بالله، و لذا كان الانبياء
مخالطين للناس مع غاية استغراقهم في الشهود و الانس.

قلنا: لا يتسع للجمع بين مخالطة الخلق ظاهرا و الاقبال التام على الله سرا الا
قوة النبوة. فلا ينبغي ان يغتر كل ضعيف بنفسه فيطمع في ذلك. ثم بما ذكرناه يظهر
وجه الجمع بين الاخبار الواردة من الطرفين.

فان ما ورد في فضيلة العزلة انما هو بالنظر الى بعض الناس، و ما ورد في فضيلة
المخالطة انما هو بالنظر الى بعض آخر.

و منها:

السخط


السخط فيما يخالف هواه من الواردات الالهية و التقديرات الربانية.

و يرادفه الانكار و الاعتراض، و هو من شعب الكراهة لافعال الله. و هو ينافي
الايمان و التوحيد. و ما للعبد العاجز الذليل المهين الجاهل بمواقع القضاء و
القدر، و الغافل عن موارد الحكم و المصالح، الاعتراض و الانكار.

و السخط لافعال الخالق الحكيم العليم الخبير. و انى للعبد الا يرضى بما يرضى به
ربه. و لعمري! ان من يعترض على فعل الله فهو اشد الجهلاء، و من لم يرض بالقضاء فليس
لحمقه دواء. و قد ورد في الخبر القدسي: «خلقت الخير و الشر. فطوبى لمن خلقته للخير و
اجريت الخير على يديه، و ويل لمن خلقته للشر و اجريت الشر على يديه، و ويل ثم ويل لمن
قال لم و كيف! » . و في خبر قدسي آخر: «انا الله لا اله الا انا، من لم يصبر على بلائي،
و لم يشكر على نعمائي، و لم يرض بقضائي، فليتخذ ربا سواي »

و في مناجاة موسى: «اي رب! اي خلقك احب اليك؟ قال: من اذا اخذت منه المحبوب
سالمني. قال: فاي خلقك انت عليه ساخط؟ قال: من يستخيرني في الامر، فاذا قضيت له
سخط قضائي » . و في الخبر القدسي: «قدرت المقادير، و دبرت التدبير، و احكمت الصنع، فمن
رضى فله الرضا مني حين يلقاني، و من سخط فله السخط مني حين يلقاني » . و قال الباقر (ع):
«و من سخط القضاء مضى عليه القضاء، و احبط الله اجره » . و قال الصادق (ع): «كيف يكون
المؤمن مؤمنا، و هو يسخط قسمته، و يحقر منزلته، و الحاكم عليه الله، و انا الضامن
لمن لم يهجس في قلبه الا الرضا ان يدعو الله فيستجاب له » . و في بعض الاخبار:
«ان نبيا من الانبياء شكى الى الله-عز و جل- الجوع و الفقر و العرى عشر سنين، فما
اجيب اليه، ثم اوحى الله-تعالى- اليه: كم تشكو؟ و هكذا كان بدؤك عندي في ام
الكتاب قبل ان اخلق السماوات و الارض، و هكذا سبق لك مني، و هكذا قضيت عليك قبل ان
اخلق الدنيا، افتريد ان اعيد خلق الدنيا من اجلك؟ ام تريد ان ابدل ما قدرته
عليك، فيكون ما تحب فوق ما احب، و يكون ما تريد فوق ما اريد؟ و عزتي و جلالي! لئن
تلجلج هذا في صدرك مرة اخرى، لا محونك من ديوان النبوة » (19) . و روى انه: «اوحى
الله-تعالى-الى داود (ع) : تريد و اريد و انما يكون ما اريد، فان اسلمت لما اريد
كفيتك ما تريد، و ان لم تسلم لما اريد اتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون الا ما
اريد» (20) .

و بالجملة: من عرف ان العالم بجميع اجزائه، من الجواهر و الاعراض، صادرة عنه
على وجه الحكمة و الخيرية، و انها النظام الاصلح الذي لا يتصور فوقه نظام، و لو
تغير جزء منه على ما هو اختلت الاصلحية و الخيرية، و عرف الله بالربوبية، و عرف
نفسه بالعبودية، يعلم ان السخط و الاعراض و عدم الرضا بشى ء مما يرد، و يكون غاية
الجهل و الخطر، و لذلك لم يكن احد من الانبياء ان يقول قط في امر: ليست كان كذا،
حتى قال بعض اصحاب النبي (ص) : «خدمت رسول الله (ص) عشر سنين، فما قال لي لشى ء فعلته:
لم فعلت، و لا لشى ء لم افعله: لم لم تفعله، و لا قال في شى ء كان: ليته لم يكن، و لا في شى ء
لم يكن: ليته كان، و كان اذا خاصمني مخاصم من اهله، يقول:

دعوه، لوقضى شى ء لكان » . و روى: «ان آدم (ع) كان بعض اولاده الصغار يصعدون على بدنه و
ينزلون، و يجعل احدهم رجليه على اضلاعه كهيئة الدرج فيصعد الى راسه، ثم ينزل على
اضلاعه كذلك، و هو مطرق الى الارض لا ينطق، و لا يرفع راسه، فقال له بعض ولده: يا
ابت! اما ترى ما يصنع هذا بك؟ لو نهيته عن هذا، فقال: يا بني! انى رايت ما لم
تروا، و علمت ما لم تعلموا، انى تحركت حركة واحدة فاهبطت من دار الكرامة الى
دار الهوان، و من دار النعيم الى دار الشقاء، فاخاف ان اتحرك حركة اخرى
فيصيبني ما لا اعلم » (21) .

فصل


الرضا-فضيلة الرضا-رضا الله-رد انكار تحقيق الرضا- هل يناقض الدعاء و نحوه الرضا ؟ -طريق تحصيل الرضا-التسليم


ضد السخط (الرضا) ، و هو ترك الاعتراض و السخط باطنا و ظاهرا، قولا و فعلا، و هو من
ثمرات المحبة و لوازمها، اذ المحب يستحسن كلما يصدر عن محبوبه، و صاحب
الرضا يستوى عنده الفقر و الغنى، و الراحة و العناء، و البقاء و الفناء، و العز و الذل،
و الصحة و المرض، و الموت و الحياة، و لا يرجح بعضها على بعض، و لا يثقل شى ء منها على
طبعه، اذ يرى صدور الكل من الله-سبحانه-، و قد رسخ حبه في قلبه، بحيث يحب افعاله، و
يرجح على مراده مراده-تعالى-، فيرضى لكل ما يكون و يرد. و روى:

«ان واحدا من ارباب الرضا عمر سبعين سنة، و لم يقل في هذه المدة لشى ء كان: ليته لم
يكن، و لا لشى ء لم يكن: ليته كان » . و قيل لبعضهم:

«ما وجدت من آثار الرضا فى نفسك؟ فقال: ما في رائحة من الرضا، و مع ذلك لو جعلني
الله جسرا على جهنم، و عبر عليه الاولون و الآخرون من الخلائق و دخلوا الجنة، ثم
يلقونى في النار، و ملابي جهنم، لاحببت ذلك من حكمه، و رضيت به من قسمه، و لم
ختلج ببالى انه لم كان كذا، و ليت لم يكن كذا، و لم هذا حظي و ذاك حظهم » . و صاحب
الرضا ابدا في روح و راحة، و سرور و بهجة، لانه يشاهد كل شى ء بعين الرضا، و ينظر في كل
شى ء الى نور الرحمة الالهية، و سر الحكمة الازلية، فكان كل شى ء حصل على وفق مراده و
هواه. و فائدة الرضا، عاجلا، فراغ القلب للعبادة و الراحة من الهموم، و آجلا،
رضوان الله و النجاة من غضبه-تعالى-.

فصل


(فضيلة الرضا)


الرضا بالقضاء افضل مقامات الدين، و اشرف منازل المقربين، و هو باب الله
الاعظم، و من دخله دخل الجنة. قال الله-سبحانه-:

«رضي الله عنهم و رضوا عنه » (22) .

و عن النبي (ص) : «انه سال طائفة من اصحابه: ما انتم؟ فقالوا:

مؤمنون، فقال: ما علامة ايمانكم؟ فقالوا: نصبر على البلاء، و نشكر عند الرخاء، و نرضى
بمواقع القضاء، فقال: مؤمنون و رب الكعبة! » ، و فى خبر آخر، قال: «حكماء علماء كادوا
من فقههم ان يكونوا انبياء» . و قال -صلى الله عليه و آله-: «اذا احب الله عبدا
ابتلاه، فان صبر اجتباه، فان رضى اصطفاه » . و قال (ص) : «اعطوا الله الرضا من
قلوبكم، تظفروا بثواب فقركم. و قال (ص) : «اذا كان يوم القيامة، انبت الله-تعالى-
لطائفة من امتى اجنحة، فيطيرون من قبورهم الى الجنان، يسرحون فيها، و يتنعمون
فيها كيف شاؤوا، فتقول لهم الملائكة: هل رايتم الحساب؟ فيقولون: ما راينا
حسابا، فتقول لهم: هل جزتم الصراط؟ فيقولون: ما راينا صراطا، فتقول لهم: هل
رايتم جهنم؟ فيقولون: ما راينا شيئا، فتقول الملائكة: من امة من انتم؟ فيقولون:
من امة محمد (ص) ، فتقول: ناشدناكم الله! حدثونا ما كانت اعمالكم في الدنيا؟
فيقولون: خصلتان كانتا فينا، فبلغنا الله هذه المنزلة بفضل رحمته، فيقولون: و
ما هما؟ فيقولون: كنا اذا خلونا نستحيى ان نعصيه، و نرضى باليسير مما قسم لنا،
فتقول الملائكة: يحق لكم هذا» . و قال الصادق (ع) . «ان الله بعدله و حكمته و علمه، جعل
الروح و الفرح في اليقين و الرضا عن الله-تعالى-، و جعل الهم و الحزن في الشك و
السخط » . و روى: «ان موسى (ع) قال: يا رب! دلني على امر فيه رضاك. فقال-تعالى-: ان رضاى
في رضاك بقضائى » . و روي: «ان بني اسرائيل قالوا له (ع) : سل لنا ربك امرا اذا نحن
فعلناه يرضى عنا، فقال موسى (ع) : الهي! قد سمعت ما قالوا، فقال: يا موسى! قل لهم يرضون
عني حتى ارضى عنهم » (23) . و قال سيد الساجدين (ع):

«الصبر و الرضا راس طاعة الله، و من صبر و رضى عن الله فيما قضى عليه فيما احب
او كره، لم يقض الله-عز و جل-له فيما احب او كره الا ما هو خير له » . و قال-صلوات
الله عليه-: «الزهد عشرة اجزاء، اعلى درجة الزهدادنى درجة الورع، و اعلى درجة الورع
ادنى درجة اليقين، و اعلى درجة اليقين ادنى درجة الرضا» . و قال الباقر (ع) : «احق
خلق الله ان يسلم لما قضى الله-عز و جل-. من عرف الله-عز و جل-و من رضى بالقضاء، اتى
عليه القضاء و عظم الله اجره » . و قال الصادق (ع) : «اعلم الناس بالله ارضاهم بقضاء
الله » . و قال (ع) : «قال الله-عز و جل-: عبدى المؤمن، لا اصرفه فى شي ء الا جعلته خيرا له،
فليرض بقضائي، و ليصبر على بلائي، و ليشكر نعمائي، اكتبه يا محمد من الصديقين عندى » . و
قال (ع) : «عجبت للمرء المسلم لا يقضي الله-عز و جل-له قضاء الا كان خيرا له، ان قرض
بالمقاريض كان خيرا له، و ان ملك مشارق الارض و مغاربها كان خيرا له » . و قال (ع):
«ان فيما اوحى الله-عز و جل-الى موسى بن عمران-عليه السلام-: يا موسى بن
عمران! ما خلقت خلقا احب الي من عبدى المؤمن، و انى انما ابتليته لما هو خير له،
و اعافيه لما هو خير له، و ازوى عنه لما هو خير له، و انا اعلم بما يصلح عليه عبدى،
فليصبر على بلائى، و ليشكر نعمائى، و ليرض بقضائي، اكتبه في الصديقين عندى، اذا عمل
برضاى و اطاع امرى » .

و قيل له (ع) : باى شي ء يعلم المؤمن انه مؤمن؟ قال: «بالتسليم لله، و الرضا فيما ورد
عليه من سرور او سخط » . و قال الكاظم-عليه السلام-: «ينبغى لمن غفل عن الله، الا
يستبطئه في رزقه، و لا يتهمه في قضائه » (24) .

وصل


(رضا الله)


قد ظهر من بعض الاخبار المذكورة: ان رضا الله-سبحانه-من العبد يتوقف على رضا
العبد عنه-تعالى-، فمن فوائد رضا العبد بقضاء الله و ثمراته رضا الله-سبحانه-عنه،
و هو اعظم السعادات في الدارين، و ليس في الجنة نعيم فوقه، كما قال-سبحانه-: «و
مساكن طيبة في جنات عدن و رضوان من الله اكبر» (25) .

و في الحديث: «ان الله يتجلى للمؤمنين في الجنة، فيقول لهم: سلونى، فيقولون: رضاك
يا ربنا! » ، فسؤالهم الرضا بعد التجلى، يدل على انه افضل كل شي ء، و ورد في تفسير
قوله-تعالى-: «و لدينا مزيد» : انه يؤتى لاهل الجنة في وقت المزيد ثلاث تحف من عند رب
العالمين ليس في الجنان مثلها:

احداها: هدية الله، ليس عندهم فى الجنان مثلها، و ذلك قوله-تعالى-: «فلا تعلم نفس ما
اخفي لهم من قرة اعين » (26) .

و الثانية: السلام عليهم من ربهم، فتزيد ذلك على الهدية، و هو قوله -تعالى-:

«سلام قولا من رب رحيم » (27) .

و الثالثة: يقول الله-تعالى-: «اني عنكم راض » ، و هو افضل من الهدية و التسليم، و
ذلك قوله -تعالى-:

«و رضوان من الله اكبر» (28) : اي من النعيم الذي هم فيه.

و معنى رضا الله عن العبد قريب من معنى حبه له، الا انه في الآخرة سبب لدوام النظر
و التجلى في غاية ما يتصور من اللقاء و المشاهدة. و لهذا ليست رتبة في الجنة
فوقه. و يروه اهل الجنة اقصى الاماني، و غاية الغايات.

فصل


(رد انكار تحقق الرضا)


من الناس من انكر امكان تحقيق الرضا في انواع البلاء و فيما يخالف الهوى، و
قال المتمكن فيهما: هو الصبر دون الرضا، و هو انما اتى من ناحية انكار المحبة،
طذ بعد ثبوت امكان الحب لله و استغراق الهم به لا يخفى ايجابه للرضا بافعال
المحبوب. و ذلك يكون من وجهين:

احدهما-ان يوجب الاستغراق في الحب ابطال الاحساس بالالم، حتى يجرى عليه
المؤلم و لا يحس به، و تصيبه جراحة و لا يدرك المها. و لا تستعبدن ذلك، فان
المحارب عند خوضه في الحرب، و عند شدة غضبه او خوفه، قد تصيبه جراحة و هو لا يحس بها،
فاذا راى الدم استدل به على الجراحة، بل الذى يعدو في شغل مهم قد تصيبه شوكة في
قدمه، و لا يحس بالمها لشغل قلبه. و السر: ان القلب اذا صار مستغرقا بامر من
الامور، لم يدرك ما عداه، فالعاشق المستغرق الهم بمشاهدة المعشوق او بحبه، قد
يصيبه ما كان يتالم به او يغتم، لولا عشقه، و لا يدرك المه و غمه لاستيلاء الحب على
قلبه، و هذا اذا اصابه من غير حبيبه، فكيف اذا اصابه من حبيبه. و لا ريب في
ان حب الله-تعالى-اشد من كل حب، و شغل القلب به اعظم الشواغل، طذ جمال الحضرة
الربوبية و جلالها لا يقاس به جمال، فمن يتكشف له شي ء منها، فقد يبهره بحيث يدهش و
يغشى عليه، و لا يحس بما يجرى عليه.

و ثانيهما-الا يبلغ الاستغراق في احب بحيث لا يحس بالالم و لا يدركه و لكن يكون
راضيا به، بل راغبا فيه، مريدا له بعقله، و ان كان كارها له بطبعه، كالذى يلتمس
من الفصاد الفصد و الحجامة، فانه يدرك المه، الا انه راض به و راغب فيه،
فالمحب الخالص لله، اذا اصابته بلية من الله، و كان على يقين بان ثوابها الذى
ادخر له فوق ما فاته، رضى بها و رغب فيها و احبها و شكر الله عليها. هذا ان كان
نظره الى الثواب و الاجر الذى يجازى به على ابتلائه بالمصائب و البلايا، و
ربما غلب الحب بحيث يكون حظ المحب و لذته و ابتهاجه في مراد حبيبه و رضاه لا
لمعنى آخر، فيكون مراد حبيبه و رضاه محبوبا عنده و مطلوبا، و كل ذلك مشاهد محسوس
في حب الخلق، فضلا عن حب الخالق و الجمال الازلى الابدى الذى لا منتهى لكماله
المدرك بعين البصيرة التي لا يعتريها الغلط و الخطا، فان القلوب اذا وقفت بين
جماله و جلاله، فاذا لا حظوا جلاله هابوا، و اذا لا حظوا جماله تاهوا: و يشهد
بذلك حكايات المحبين، على ما هو في الكتب مسطور، و في الالسنة و الافواه
مذكور. فان للحب عجائب، من لم يذق طعمها لا يعرفها.

و قد روينا: ان اهل مصر مكثوا اربعة اشهر لم يكن لهم غذاء الا النظر الى وجه يوسف
الصديق (ع) ، كانوا اذا جاعوا نظروا الى وجهه، فشغلهم جماله عن الاحسس بالم
الجوع. بل في القرآن ما هو ابلغ من ذلك، و هو قطع النسوة ايديهن لاشتهتارهن
بملاحظة جماله، حتى ما احسسن بذلك.

و روى: «ان عيسى (ع) مر برجل اعمى و ابرص، مقعد مفلوج، و قد تناثر لحمه من الجذام،
و هو يقول: الحمد لله الذى عافانى مما ابتلى به كثيرا من الناس! فقال عيسى: يا
هذا! اى شى ء من البلاء تراه مصروفا عنك؟ فقال:

يا روح اللنه! انا خير ممن لم يجعل الله في قلبه ما جعل في قلبى من معرفته، فقال:
صدقت! هات يدك، فناوله يده، فاذا هو احسن الناس وجها، و افضلهم هيئة، قد اذهب الله
عنه ما كان به، و صحب عيسى و تعبد به » .

فصل


(هل يناقض الدعاء و نحوه الرضا)


اعلم ان الدعاء غير مناقض للرضا، و كذلك كراهية المعاصى، و مقت اهلها، و حسم
اسبابها، و السعى في ازالتها بالامر بالمعروف و النهى عن البطالة و الغرور:
ان جميع ذلك يخالف الرضا، اذ كل ما يقصد رده بالدعاء و انواع المعاصى و الفجور و
الكفر من قضاء الله و قدره، فيجب للمؤمن ان يرضى به. و قدراوا السكوت على المنكرات
مقاما من مقامات الرضا، و سموه حسن الخلق، و هذا جهل بالتاويل، و غفلة من اسرار
الشريعة و دقائقها.

اما الدعاء، فلا ريب في انا قد تعبدنا به، و قد كثرت ادعية الانبياء و الائمة، و
كانوا على اعلى مقامات الرضا، و تظاهرت الآيات و تواترت الاخبار في الامر
بالدعاء و فوائده و عظم مدحه، و اثنى الله-سبحانه-على عباده الداعين، حيث قال:

«وز يدعوننا رغبا و رهبا» (29) . و قال: «ادعوني استجب لكم » (30) . و قال: «اجيب دعوة
الداع اذا دعان » (31) .

و هو يوجب صفاء الباطن، و خشوع القلب، و رقة النظر، و تنور النفس و تجليها. و قد جعله
الله-تعالى-مفتاحا للكشف، و سببا لتواتر مزايا اللطف و الاحسان. و هو اقوى
الاسباب لافاضة الخيرات و البركات من المبادي العالية.

فان قيل: ما يرد على العبد من المكاره و البلايا يكون بقضاء الله و قدره، و الآيات و
ال. خبار ناطقة بلارضا بقضاء الله مطلقا، فالتشمر لرده بالدعاء يناقض الرضا.

قلنا: ان الله-سبحانه-بعظيم حكمته، اوجد ال. شياء على التسبيب و الترتيب بينهما،
فربط المسببات بالاسباب، و رتب بعضها على بعض، و جعل بعضها سببا و واسطة
لبعض آخر، و هو مسبب الاسباب. و القدر عبارة عن حصول الموجودات في الخارج
من اسبابها المعينة بحسب اوقاتها، مطابقة لما في القضاء، و القضاء عبارة عن
ثبوت صور جميع الاشياء في العالم العقلي على الوجه الكلي. مطابقة لما في العناية
الالهية المسماة بالعناية الاولى، و العناية عبارة عن احاطة علم
الله-تعالى-بالكل على ما هو عليه احاطة تامة، فنسبة القضاء الى العناية كنسبة القدر
الى القضاء. ثم، من جملة الاسباب لبعض الامور الدعاء و التصدق و امثالهما، فكما
ان شرب الماء سبب رتبه مسبب الاسباب لازالة العطش، و لو لم يشربه لكان عطشه
باقيا الى ان يؤدى الى هلاكه، و شرب المسهل سبب لدفع الاخلاط الردية، و لو لم
يشربه لبقيت على حالها، و هكذا في سائر الاسباب، و كذلك الدعاء سبب رتبه
الله-تعالى- لدفع البلايا و رفعها، و لو لم يدع لنزل البلاء و لم يندفع.

فلو قيل: لو كان في علم الله-تعالى-و في قضائه السابق، ان زيدا -مثلا-يدعو الله، او
يتصدق، عند ابتلائه ببلية كذا، و تندفع به بليته لدعاء او تصدق، و دفع بليته، و لو كان
فيهما انه لا يدعو الله و لا يتصدق و يبتلى بتلك البلية، و لم يدع الله، و لم يتصدق،
لم تندفع عنه البلية، و الحاصل:

ان كل ما تعلقت به العناية الكلية و القضاء الازلي يحصل مقتضاه في الخارج و عالم
التقدير، ان خيرا فخير، و ان شرا فشر، فاي فائدة في سعي العبد و اجتهاده؟

قلنا: هذه من جملة شبهات الجبرية على كون العبد مجبورا في فعله و نفى الاختيار
عنه، و لا مدخلية لها بكون الدعاء غير مناقض للرضا، و كونه من جملة الاسباب المرتبة
منه-تعالى-لحصول مسبباتها. كالتزويج لتحصيل الولد، و الاكل و الشرب لدفع
الجوع و العطش، و لبس الثياب لدفع الحر و البرد، و غير ذلك. ثم الجواب من
الشبهة المذكورة و امثالها مذكور في موضعها.

و اما انكار المعاصي و كراهتها، و الفرار من اهلها و من البلد الذي شاعت فيه،
فقد تعبد الله به عباده و ذمهم على الرضا بها، فقال: «و رضوا بالحياة الدنيا و
اطمانوا بها» (32) . و قال:

«رضوا بان يكونوا مع الخوالف و طبع الله على قلوبهم » (33) .

و في بعض الاخبار: «من شهد منكرا و رضى به فكانه قد فعله » .

و في آخر: «لو ان عبدا قتل بالمشرق و رضى بقتله آخر بالمغرب، كان شريكا في قتله » . و
في آخر: «ان العب ليغيب عن المنكر و يكون عليه مثل وزر صاحبه » ، قيل و كيف ذلك؟ قال:
«فيبلغه فيرضى به » .

و اما بعض الكفار و الفجار و الفساق، ومقتهم و الانكار عليهم، فما ورد فيه من
شواهد الكتاب و السنة اكثر من ان يحصى. قال الله-سبحانه-: «لا يتخذ المؤمنون
الكافرين اولياء» (34) . و قال:

«يايها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهودز و النصارى اولياء» (35) .

و في الخبر: «ان الله اخذ الميثاق على كل مؤمن ان يبغض كل منافق » .

و قال (ص) : «آوثق عرى الايمان الحب في الله و البغض في الله » . و قد تقدمت جملة من
شواهذ هذا في باب الحب في الله و البغض فى الله.

فان قيل: المعاصي ان لم تكن بقضاء الله و قدره فهو محال و قادح في التوحية، و ان
كانت بقضاء الله مطلقا فكراهتها ومقتها كراهة لقضاء الله، و الآيات و الاخبار
مصرحة بوجوب الرضا بقضاء الله مطلقا، و ذلك تناقض، فكيف السبيل الى الجمع؟ و
انى يتاتى الجمع بين الرضا و الكراهة في شى ء واحد؟

قلنا: المقرر عند بعض الحكماء: ان الشرور الواقعة في العالم، من المعاصي و غيرها،
راجعة الى الاعدام دون الموجودات، فلا تكون مرادة له -تعالى-، و لا داخلة في
قضائه، و عند بعضهم انها داخلة في قضائه بالعرض لا بالذات، و لا ضير في كراهة ما ليس
في قضاء الله-تعالى-بالذات. و عند بعضهم: انها شرور قليلة باعثة لخيرات كثيرة. و
على هذا، فينبغي ان تكون مكروهة من حيث ذاتها، و بهذه الحيثية لا تكون من قضاء
الله و الرضا به، و فرضه من حيث كونها باعثة لخيرات كثيرة. و التحقيق: ان
الاوصاف الثلاثة ثابتة المشرور الواقعة في العالم، اعنى انها راجعة الى
الاعدام و داخلة في قضائه-تعالى-بالعرض، و شرور قليلة باعثة لخيرات كثيرة. و على
هذا فوجه الجمع اظهر. ثم، لابي حامد الغزالي هنا وجه جمع آخر، لا يروى الغليل و لا
يشفى العليل.

فان قيل: بغض اهل المعاصي و مقتهم موقوف على ثبوت الاختيار لهم و تمكنهم من
تركهم، و اثبات ذلك مشكل.

قلنا: لا اشكال فيه، اذ البديهة قاضية بثبوت نوع اختيار للعباد في افعالهم، و لا
سيما فيما يتعلق به التكليف. و الخوض في هذه المسالة مما لا ينبغي فالاولى فيها
السكوت، و التادب بآداب الشرع، و الرجوع الى ما ورد من العترة الطاهرة. و ما
يمكن ان يقال فيها قد ذكرناه في كتابنا المسمى ب (جامع الافكار) .

1) المائدة، الآية: 57.

2) الصف، الآية: 4.

3) البقرة، الآية: 222.

4) آل عمران، الآية: 31.

5) الحجرات، الآية: 7.

6) صححنا الاحاديث كلها على (اصول الكافي) : ج 2، باب الحب في الله و البغض في
الله. و على (الوافي) : 3 344، باب الحب في الله و البغض في الله.

7) هذا من عجائب المنقولات الخرافية، و الغريب من (ابى حامد الغزالي) اين
يركن الى مثله، و قد اشار المصنف-قدس سره-الى بطلان ما نقله بقوله: (و لا ريب) .

8) الاعراف، الآية: 154.

9) طه، الآية: 24. النازعات، الآية: 17.

10) الشعراء، الآية: 14.

11) الشعراء، الآية: 13.

12) طه، الآية: 45.

13) القلم. الآية: 48.

14) البقرة، الآية: 253.

15) مريم، الآية: 33.

16) مريم. الآية: 14.

17) يوسف. الآية: 8.

18) صححنا هذا القول، و كذا الحديث السابق، على (مصباح الشريعة): باب 24، و على
(البحار) : -باب العزلة عن شرار الخلق-: مج 15: 2 51 ط امين الضرب.

19) صححنا هذا الحديث، و كذا الاخبار القدسية السابقة، على (احياء العلوم) : 4
295-296.

20) صححنا هذا الحديث، و كذا ما روي قبله عن اهل البيت-عليهم السلام- على (اصول
الكافي) : ج 2-باب الرضا بالقضاء. و على (سفينة البحار) : 1 224.

21) صححنا الحديث على (احياء العلوم) : 4 295.

22) المائدة، الآية: 122. التوبة، الآية: 101. المجادلة، الآية: 22.البينة، الآية: 8.

23) صححنا الاحاديث على (احياء العلوم) : 4 295-296.

24) صححنا الاحاديث على (اصول الكافي) ج 2-باب الرضا بالقضاء. و على (سفينة
البحار) 1 524.

25) التوبة، الآية: 73.

26) السجدة، الآية: 17.

27) يس، الآية: 58.

28) التوبة، الآية: 73.

29) الانبياء، الآية: 90.

30) المؤمن، الآية: 60.

31) البقرة، الآية: 186.

32) يونس، الآية: 7.

33) التوبة، الآية 886، 94.

34) آل عمران، الآية: 28.

35) المائدة، الآية: 54.

/ 32