فصل - مستند الشیعه فی احکام الشریعه جلد 2

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

مستند الشیعه فی احکام الشریعه - جلد 2

احمد بن محمد مهدی النراقی؛ تحقیق: مؤسسة آل البیت (ع) لاحیاء التراث

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

فصل


(طريق تحصيل الرضا)


الطريق الى تحصيل الرضا، ان يعلم ان ما قضى الله-سبحانه-له هو الاصلح بحاله، و
ان لم يبلغ فهمه الى سيره فيه. مع ان السخط و الكراهة لا يفيد شيئا و لا يتبدل به
القضاء. فان ما قدر يكون، و ما لم يقدر لم يكن، و حسرة الماضي و تدبير الآتي يذهبان
بتركه الوقت بلا فائدة، و تبقى تبعة السخط عليه.

فينبغي ان يدهشه الحب لخالقه عن الاحساس بالالم، كما للعاشق، و ان ان يهون عليه
العلم بعظم الثواب التعب و العناء-كما للمريض و التاجر المتحملين شدة الحجامة
و السفر-فيفوض امره الى الله، ان الله بصير بالعباد.

تتميم


(التسليم)


اعلم ان التسليم، و يسمى تفويضا ايضا، قريب من الرضا، بل هو فوق الرضا، لانه
عبارة عن ترك الاعراض في الامور الواردة عليه، و حوالتها باسرها الى الله، مع
قطع تعلقه عليها بالكلية، بمعنى الا يكون طبعه متعلقا بشي ء منها. فهو فوق الرضا، اذ في
مرتبة الرضا كلما يفعل الله به يوافق طبعه، فالطبع ملحوظ و منظور له، و في مرتبة
التسليم يجعل الطبع و موافقته و مخالفته كلها موكولة الى الله-سبحانه-، و فوق
مرتبة التوكل ايضا، اذ التوكل-كما ياتي-عبارة عن الاعتماد في اموره على
الله، فهو بمنزلة توكيل الله في اموره، و كانه يجعل الله-تعالى-بمثابة وكيله،
فيكون تعلقه باموره باقيا، و في مرتبة التسليم يقطع العلاقة من الامور المتعلقة به
بالكلية.

و منها:

الحزن


و هو التحسر و التالم، لفقد محبوب، او فوت مطلوب. و هو ايضا كالاعتراض و
الانكار، مترتب على الكراهة للمقدرات الالهية. و الفرق: ان الكراهة في الاعتراض اشد
من الكراهة في الحزن، كما ان ضد الكراهة-اعني الحب في ضدهما-بعكس ذلك، اي ظهوره في
السرور الذي ضد الحزن اشد من ظهوره في الرضا الذي هو ضد الاعتراض.

فان الرضا هو منع النفس في الواردات من الجزع مع عدم كراهة و فرح، و السرور هو
منعها فيها عن الجزع مع الابتهاج و الانبساط. فالسرور فوق الرضا في الشرافة،
كما ان الحزن تحت الاعتراض في الخسة و الرذالة، و سبب الحزن و شدة الرغبة في
المشتهيات الطبيعية، و الميل الى مقتضيات قوتي الغضب و الشهوة، و توقع البقاء
للامور الجسمانية. و علاجه: ان يعلم ان ما في عالم الكون و الفساد من: الحيوان،
و النبات، و الجماد، و العروض، و الاموال، في معرض الفناء و الزوال، و ليس فيها
ما يقبل البقاء، و ما يبقى و يدوم هو الامور العقلية، و الكمالات النفسية المتعالية
عن حيطة الزمان و حوزة المكان و تصرف الاضداد و تطرق الفساد، و اذا تيقن بذلك
زالت عن نفسه الخيالات الفاسدة، و الاماني الباطلة. فلا يتعلق قلبه بالاسباب
الدنيوية، و يتوجه بشراشره الى تحصيل الكمالات العقلية، و السعادات الحقيقية
الموجبة للاتصال بالجواهر النورية الباقية، و المجاورة للانوار القادسة
الثابتة، فيصل الى مقام البهجة و السرور، و لا تلحقه احزان عالم الزور، كما
اشير اليه في الكتاب الالهي بقوله:

«الا ان اولياء الله لا خوف عليهم و لا هم يحزنون » (1) .

و في اخبار داود (ع) : «يا داود! ما لاوليائي و الهم بالدنيا؟ ان الهم يذهب حلاوة
مناجاتي من قلوبهم، ان محبي من اوليائي ان يكونوا روحانيين لا يغتمون » . و
الحاصل: ان حب الفانيات و التعلق بما من شانه الفوات خلاف مقتضى العقل، و
حرام على العاقل ان يفرح بوجود الامور الفانية، او يحزن بزوالها. و لقد قال سيد
الاوصياء-عليه آلاف التحية و الثناء-: «ما لعلي و زينة الدنيا، و كيف افرح بلذة
تفنى، و نعيم لا يبقى؟ ! »

بل ينبغي ان يرضى نفسه بالموجود، و لا يغتم بالمفقود، و يكون راضيا بما يرد عليه
من خير و شر. و قد ورد في الآثار: «ان الله-تعالى-بحكمته و جلاله، جعل الروح و الفرح
في الرضا و اليقين » ، و من رضى بالموجود و لا يحزن بالمفقود، فقد فاز بامن بلا فزع،
و سرور بلا جزع، و فرح بلا حسرة، و يقين بلا حيرة، و ما لطالب السعادة ان يكون ادون
حالا من سائر طبقات الناس، فان كل حزب بما لديهم فرحون، كالتاجر بالتجارة، و
الزارع بالزراعة، بل الشاطر بالشطارة، و القواد بالقيادة، مع ان ما هو السبب و
الموجب المفرح في الواقع و نفس الامر ليس الا لاهل السعادة و الكمال، و ما لغيرهم
محض التوهم و مجرد الخيال. فينبغي لطالب السعادة ان يكون فرحانا بما عنده من
الكمالات الحقيقية، و السعادات الابدية، و لا يحزن على فقد الزخارف الدنيوية، و
الحطام الطبيعية، و يتذكر ما خاطب الله به نبيه (ص) :

«و لا تمدن عينيك الى ما متعنا به ازواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه و
رزق ربك خير و ابقى » (2) .

و من تصفح فرق الناس، يجد ان كل فرقة منهم فرحهم بشي ء من الاشياء، و به اهتزازهم و
قوامهم و نظام امرهم. فالصبيان فرحهم باللعب و تهيئة اسبابه، و هو في غاية
القبح و الركاكة عند من جاوز مرتبتهم.

و البالغون حد الرجولية، بعضهم فرحان بالدرهم و الدينار، و بعضهم بالضياع و
العقار، و آخر بالاتباع و الانصار، و فرقة بالنسوان و الاولاد، و طائفة بالحرف و
الصنايع، و بعضهم بالحسب و النسب، و الآخر بالجاه و المنصب، و بعضهم بالقوة
الجسمانية، و آخر بالجمال الصوري، و طائفة بالكمالات الدنيوية: كالخط، و الشعر، و
حسن الصوت، و الطب، و العلوم الغريبة، و غير ذلك، حتى ينتهي الى من لا يفرح الا
بالكمالات النفسية و الرياسات المعنوية، و هم ايضا مختلفون، فبعضهم غاية فرحه
بالعبادة و المناجاة، و آخر بمعرفة حقائق الاشياء، حتى يصل الى من ليس فرحه الا
بالانس بحضرة الربوبية، و الاستغراق في لجة انواره، و سائر المراتب عنده في ء زائل
و خيال باطل. و لا ريب في ان العاقل يعلم ان ما ينبغي ان يفرح و يبتهج به حصول هذه
المرتبة، و سائر الامور كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء. فلا ينبغى للعاقل ان يحزن
بفقدها و يفرح بوجودها. ثم، من تامل، يجد ان الحزن ليس امرا وجوديا لازما، بل هو
امر اختياري يحدثه الشخص في نفسه بسوء اختياره. اذ كلما يفقد من شخص و يحزن لاجله
ليس موجودا لكثير من الناس، بل ربما لم يملكوه في مدة عمرهم اصلا، و مع ذلك لا
تجدهم محزونين على عدمه، بل فرحون راضون، و لو كان الحزن لازما لفقد هذا الامر
لكان كل من فقده محزونا، و ليس كذلك. و ايضا كل حزن يعرض لاجل مصيبته يزول بعد زمان
و يتبدل بالسرور، و لو كان الحزن لاجلها امرا ضروريا لازما لما زال اصلا.

ثم العجب من العاقل ان يحزن من فقد الامور الدنيوية، مع انه يعلم ان الدنيا دار
الفناء، و زخارفها متنقلة بين الناس، و لا يمكن بقاؤها لاحد، و جميع الاسباب
الدنيوية و دائع الله ينتقل الى الناس على سبيل التبادل و التناوب. و مثلها مثل
شمامة تدار فى مجلس بين اهله على التناوب، يتمتع بها في كل لحظة واحد منهم، ثم
يعطيها غيره. فطامع البقاء للحطام الدنيوية كمن طمع في ملكية الشمامة و
اختصاصها به، اذا وصلت اليه نوبة الاستمتاع، و اذا استردت منه عرض له الحزن
و الخجلة. و ما المال و الاهلون الا و دائع، و لا بد يوما ان ترد الودائع. فلا ينبغى
للعاقل ان يغتم و يحزن لاجل رد الوديعة، كيف و الحزن بردها كفران للنعمة؟ اذ اقل
مراتب الشكر ان ترد الوديعة الى صاحبها على طيب النفس، لا سيما اذا استرد
الاخس-اعني الخبائث الدنيوية-، و بقى الاشرف-اعني النفس و كمالاتها العلمية و العملية-،
فينبغى لكل عاقل الا يعلق قلبه بالامور الفانية، حتى لا يحزن بفقدها. قال سقراط: «انى
لم احزن قط، اذ ما احببت قط شيئا حتى احزن بفوته، و من سره الا يرى ما يسوؤه، فلا
يتخذ شيئا يخاف له فقدا» .

و منها:

عدم الاعتماد


او ضعفه في اموره على الله، و الوثوق بالوسائط، و النظر اليها فيها.

و سببه: اما ضعف اليقين، او ضعف القلب، او كلاهما. فهو من رذائل قوتى العاقلة و
الغضب. و لا ريب في انه من المهلكات العظيمة و ينافي الايمان، بل هو من شعب الشرك.
و لذا ورد في ذمه من الآيات و الاخبار ما ورد، قال الله-سبحانه-: «ان الذين
يدعون من دون الله عباد امثالكم » (3) .

و قال: «ان الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق و
اعبدوه » (4) . و قال: «و لله خزائن السماوات و الارض و لكن المنافقين لا يفقهون » (5) .

و في اخبار داود (ع) : «ما اعتصم عبد من عبادى باحد من خلقى عرفت ذلك من نيته،
الا قطعت اسباب السماوات من يديه، و اسخطت الارض من تحته، و لم ابال باى واد
هلك » . قال رسول الله (ص) :

«من اغتر بالعبيد اذله الله » . و قيل: «مكتوب في التوارة: ملعون من ثقته بانسان
مثله » . فينبغى للمؤمن ان يتخلى عنه باكتساب ضده، اعني التوكل، كما ياتى.

وصل


التوكل-فضيلة التوكل-درجات التوكل-السعى لا ينافي التوكل-الاسباب التي لا
ينافي السعى اليها التوكل-اعقل و توكل- درجات الناس فى التوكل-تفنيد زعم-طريق
تحصيل التوكل.

التوكل اعتماد القلب في جميع الامور على الله. و بعبارة اخرى: حوالة العبد
جميع اموره على الله، و بعبارة اخرى: هو التبرى من كل حول و قوة، و الاعتماد على
حول الله و قوته. و هو موقوف على ان يعتقد اعتقادا جازما بانه لا فاعل الا الله، و
انه لا حول و لا قوة الا بالله، و ان له تمام العلم و القدرة على كفاية العباد، ثم
تمام العطف و العناية و الرحمة بجملة العباد و الآحاد، و انه ليس وراء منتهى
قدرته قدرة، و لا وراء منتهى علمه علم، و لا وراء منتهى عنايته عناية. فمن اعتقد ذلك
اتكل قلبه لا محالة على الله وحده، و لم يلتفت الى غيره، و لا الى نفسه اصلا. و من لم
يجد ذلك من نفسه فسببه، اما ضعف اليقين، او ضعف القلب، و مرضه باستيلاء الجبن
عليه و انزعاجه بسبب الاوهام الغالبة عليه. فان القلب الضعيف ينزعج تبعا
للوهم، و طاعة له من غير نقصان في اليقين، كانزعاجه ان يبيت مع ميت في قبر او
فراش، مع يقينه بانه جماد في الحال لا يتصور منه اضرار، فلا ينبغى ان يخاف منه و
يفر عنه، كما لا يفر من سائر الجمادات. و كذا من كان ضعيف القلب و تناول
العسل-مثلا-، فشبه العسل بين يديه بالعذرة، فربما نفر طبعه لضعف قلبه، و تعذر عليه
ان يتناوله، مع يقينه بانه عسل و لا مدخلية للعذرة فيه.

فالتوكل لا يتم الا بقوة اليقين و قوة القلب جميعا، اذ بهما يحصل سكون القلب و
طمانينته، فالسكون في القلب شي ء آخر، و اليقين شي ء آخر. فكم من يقين لا طمانينة معه،
كما قال-تعالى-:

«ا و لم تؤمن؟ قال: بلى! ولكن ليطمئن قلبي » (6) .

فالتمس ان يشاهد احياء الميت بعينه ليثبت اليقين فى خياله، فان النفس تتبع
الخيال و تطمئن به، و لا تطمئن باليقين في ابتداء امره الى ان تبلغ درجة النفس
المطمئنة، و ذلك لا يكون في البداية. و كم من مطمئن لا يقين له، كارباب الملل و
المذاهب الباطلة. فان اليهودى مطمئن القلب الى تهوده، و كذا النصرانى، و لا
يقين لهما اصلا، و انما يتبعون الظن و ما تهوى الانفس. و اذا توقف التوكل على
اليقين و قوة القلب، و ارتفع بضعف احدهما، يظهر ان التوكل من الفضائل المتعلقة
بقوتي العاقلة و الغضبية معا، و ضده-اعني عدم التوكل-من رذائل احدهما او كليهما. ثم،
انك قد عرفت في باب التوحيد، ان عماد التوكل و ما يبتنى عليه، هو المرتبة
الثالثة من التوحيد، و هى ان تنكشف للعبد باشراق نور الحق بانه لا فاعل الا هو، و
ان ما عداه من الاسباب و الوسائط مسخرات مقهورات تحت قدرته الازلية. فطالب
التوكل يلزم عليه ان يحصل هذه المرتبة من التوحيد ليحصل له التوكل. و قد
عرفت-ايضا-ان المرتبة الثانية منه-اعني التوحيد الاعتقادى-اذا قويت ربما
اورثت حال التوكل، الا ان التوكل كما ينبغي موقوف على المرتبة الثالثة منه.

فصل


(فضيلة التوكل)


التوكل منزل من منازل السالكين و مقام من مقامات الموحدين، بل هو افضل
درجات الموقنين. و لذا ورد في مدحه و فضله و في الترغيب فيه ما ورد من الكتاب
و السنة، قال الله-تعالى-:

«و على الله فتوكلوا ان كنتم مؤمنين » (7) . و قال:

«و على الله فليتوكل المؤمنون » (8) . و قال: «ان الله يحب المتوكلين » (9) . و قال: «و من
يتوكل على الله فهوحسبه » (10) . و قال: «و من يتوكل على الله فان الله عزيز حكيم » (11) .

اى عزيز لا يذل من استجار به، فلا يضع من لاذ بجنابه، و حكيم لا يقصر عن تدبير من
توكل على تدبيره. و قال رسول الله (ص) : «من انقطع الى الله، كفاه الله كل مؤنة، و رزقه
من حيث لا يحتسب. و من انقطع الى الدنيا، و كله الله اليها» . و قال (ص) : «من سره
ان يكون اغنى الناس، فليكن بما عند الله اوثق منه بما في يده » . و قال (ص) : «لو انكم
تتوكلون على الله حق توكله، لرزقتم كما ترزق الطيور، تغدو خماصا و تروح بطانا»
. و عن على بن الحسين-عليهما السلام-قال: «خرجت حتى انتهيت الى هذا الحائط،
فاتكات عليه، فاذا رجل عليه ثوبان ابيضان ينظر في تجاه وجهى، ثم قال: يا علي
بن الحسين! مالى اراك كئيبا حزينا؟ اعلى الدنيا؟

فرزق الله حاضر للبر و الفاجر. قلت: ما على هذا احزن، و انه لكما تقول.

قال: فعلى الآخرة؟ فوعد صادق يحكم فيه ملك قاهر قادر. قلت: ما على هذا احزن، و انه
لكما تقول. فقال: مم حزنك؟ قلت: مما نتخوف من فتنة ابن الزبير و ما فيه للناس. قال:
فضحك، ثم قال: يا على بن الحسين!

هل رايت احدا دعا الله فلم يجبه؟ قلت: لا! قال: فهل رايت احدا توكل على الله فلم
يكفه؟ قلت: لا! قال: فهل رايت احدا سال الله فلم يعطه؟ قلت: لا! . . . ثم غاب عني » ، و لعل
الرجل كان هو الخضر-على نبينا و عليه السلام-. و قال الصادق (ع) : «اوحى الله الى
داوود: ما اعتصم بي عبد من عبادى دون احد من خلقي، عرفت ذلك من نيته، ثم تكيده
السماوات و الارض و من فيهن، الا جعلت له المخرج من بينهن » .

و قال (ع) : «ان الغنى و العز يجولان، فاذا ظفرا بموضع التوكل اوطنا» .

و قال (ع) : «من اعطى ثلاثا لا يمنع ثلاثا: من اعطى الدعاء اعطي الاجابة، و من
اعطى الشكر اعطي الزيادة، و من اعطى التوكل اعطي الكفاية. ثم قال: اتلوت كتاب
الله-عز و جل- (و من يتوكل على الله فهو حسبه) ، و قال: (و لئن شكرتم لازيدنكم) ، و قال:
(ادعوني استجب لكم) ؟ » .

و قال (ع) : «ايما عبد اقبل قبل ما يحب الله-تعالى-اقبل الله قبل ما يحب و من اعتصم
بالله عصمه الله، و من اقبل على الله قبله و عصمه، لم يبال لو سقطت السماء على
الارض، او كانت نازلة نزلت على اهل الارض فتشملهم بلية، كان في حزب الله بالتقوى
من كل بلية، اليس الله-تعالى-يقول: (ان المتقين في مقام امين) ؟ » . و قال (ع) : «ان
الله-تعالى-يقول: و عزتي و جلالى و مجدي و ارتفاعي على عرشي! لاقطعن امل كل مؤمل من
الناس في غيرى بالياس، و لاكسونه ثوب المذلة عند الناس، و لا نحينه من قربي، و
لابعدنه من وصلى، ايؤمل غيرى فى الشدائد و الشدائد بيدى و يرجو غيرى؟ و يقرع بالفكر
باب غيري، و بيدى مفاتيح الابواب و هي مغلقة؟

و بابى مفتوح لمن دعانى، فمن ذا الذي املني لنوائبه فقطعته دونها، و من ذا
الذى رجانى لعظيمة فقطعت رجاءه مني؟ جعلت آمال عبادي محفوظة، فلم يرضوا بحفظي، و
ملات سماواتي ممن لا يمل من تسبيحي، و امرتهم الا يغلقوا الابواب بيني و بين
عبادى، فلم يثقوا بقولى، الم يعلم من طرقته نائبة من نوائبى انه لا يملك كشفها
احد غيرى الا من بعد اذنى؟ فما لى اراه لاهيا عني؟ اعطيته بجودي ما لم يسالني،
ثم انتزعته عنه فلم يسالني رده، و سال غيرى، افتراني ابدا بالعطاء قبل المساله؟
ثم اسال فلا اجيب سائلى؟ ابخيل انا فيبخلني عبدي؟ او ليس الجود و الكرم لى؟ او
ليس العفو و الرحمة بيدي؟ او لست انا محل الآمال؟ فمن يقطعها دوني؟ افلا يخشى
المؤملون ان يؤملوا غيري؟ فلو ان اهل سماواتى و اهل ارضي املوا جميعا، ثم اعطيت
كل واحد منهم مثل ما امل الجميع، ما انتقص من ملكى مثل عضو ذرة، و كيف ينقص ملك
انا قيمه؟ فيا بؤسا للقانطين من رحمتي! و يا بؤسا لمن عصاني و لم يراقبني! » (12) .

فصل


(درجات التوكل)


للتوكل في الضعف و القوة ثلاث درجات:

الاولى-ان يكون حاله في حق الله و الثقة بعنايته و كفالته كحاله بالثقة بالوكيل،
و هذه اضعف الدرجات، و يكثر وقوعها و يدوم مدة مديدة، و لا ينافي اصل التدبير و
الاختيار، بل ربما زاول كثيرا من التدبيرات بسعيه و اختياره. نعم ينافي بعض
التدبيرات، كالتوكل على وكيله في الخصومة، فانه يترك تدبيره من غير جهة الوكيل،
و لكن لا يترك الذي اشار اليه وكيله، و لا التدبير الذي عرفه من عادته و سنته دون
تصريح اشارته.

الثانية-ان تكون حاله مع الله كحال الطفل مع امه، فانه لا يعرف غيرها، و لا يفزع
الا اليها، و لا يعتمد الا عليها. فان رآها تعلق في كل حال بذيلها، و ان ورد عليه
امر في غيبتها كان اول سابق لسانه يا اماه! . و الفرق بين هذا و سابقه، ان هذا
متوكل قد فنى في موكله عن توكله، اي ليس يلتفت قلبه الى التوكل، بل التفاته انما
هو الى المتوكل عليه فقط، فلا مجال في قلبه لغير المتوكل عليه. و اما الاول
فتوكل بالكسب و التكلف، و ليس فانيا عن توكله، اى له التفات الى توكله، و
ذلك شغل صارف عن ملاحظة المتوكل عليه وحده. و هذا اقل وقوعا و دواما من الاول، اذ
حصوله انما هو للخواص، و غاية دوامه ان يدوم يوما او يومين، و ينافي التدبيرات،
الا تدبير الفزع الى الله بالدعاء و الانتهال، كتدبير الطفل في التعلق بامه فقط.

الثالثة-و هي اعلى الدرجات، ان يكون بين يدى الله في حركاته و سكناته مثل
لميت بين يدى الغاسل، بان يرى نفسه ميتا، و تحركه القدرة الازلية كما يحرك
الغاسل الميت. و هو الذى قويت نفسه، و نال الدرجة الثالثة من التوحيد. و الفرق
بينه و بين الثاني، ان الثاني لا يترك الدعاء و التضرع كما ان الصبى يفزع الى
امه، و يصيح و يتعلق بذيلها، و يعدو خلفها، و هذا ربما يترك الدعاء و السؤال ثقة بكرمه
و عنايته، فهذا مثال صبى علم انه ان لم يرص بامه فالام تطلبه، و ان لم يتعلق
بذيلها فهي تحمله، و ان لم يسال اللبن فهي تسقيه. و من هذا القسم توكل ابراهيم
الخليل-عليه السلام- لما وضع في المنجنيق ليرمى به الى النار، و اشار اليه روح
الامين بسؤال النجاة و الاستخلاص من الله-سبحانه-فقال: «حسبي من سؤالي علمه
بحالي » . و هذا نادر الوقوع، عزيز الوجود، فهو مرتبة الصديقين، و اذا وجد فدوامه
لا يزيد على صفرة الوجل، او حمرة الخجل، و هو ينافي التدبيرات ما دام باقيا، اذ
يكون صاحبه كالمبهوت. ثم، توكل العبد على الله قد يكون في جميع اموره، و قد يكون في
بعضها. و تختلف درجات ذلك بحسب كثرة الامور المتوكل فيها و قلتها. و قال
الكاظم (ع) في قوله-عز و جل-:

«و من يتوكل على الله فهو حسبه » (13) .

«التوكل على الله درجات، منها ان تتوكل على الله في امورك كلها، فما فعل بك كنت
عنه راضيا، تعلم انه لا يالوك خيرا و فضلا، و تعلم ان الحكم في ذلك له، فتوكل على
الله بتفويض ذلك اليه، وثق به فيها و في غيرها» .

و لعل سائر درجات التوكل ان يتوكل على الله في بعض اموره دون بعض، و تعدد
الدرجات حينئذ بحسب كثرة الامور المتوكل فيها و قلتها.

فصل


(السعي لا ينافي التوكل)


اعلم ان الامور الواردة على العباد طما ان تكون خارجة عن قدرة العباد و وسعهم،
بمعنى انه لا تكون لها اسباب ظاهرة قطعية او ظنية لجلبها او دفعها، او تكون لها
اسباب جالبة لها او دافعة اياها، الا ان العبد لا يتمكن منها.

فمقتضى التوكل فيها ترك السعي بالتمحلات و التدبيرات الخفية، و حوالتها على
رب الارباب، و لو دبر في تغييرها بالتمحلات و التكلفات، لكان خارجا عن
التوكل راسا، او لا تكون خارجة عن قدرتهم، بمعنى ان لها اسبابا قطعية او ظنية يمكن
للعبد ان يحصلها و يتوصل بها الى جلبها او دفعها. فالسعي في مثلها لا ينافي
التوكل، بعد ان يكون وثوقه و اعتماده بالله دون الاسباب. فمن ظن ان معنى التوكل
ترك الكسب بالبدن، و ترك التدبير بالعقل راسا، و السقوط على الارض كالخرقة الملقاة،
فقد ابعد عن الحق، لان ذلك محرم في الشرع الاقدس. فان الشارع كلف الانسان بطلب
الرزق بالاسباب التي هداه الله اليها، من زراعة، او تجارة، او صناعة، او غير
ذلك مما احله الله، و بابقاء النسل بالتزويج، و كلفه بان يدفع عن نفسه الاشياء
المؤذية بالتوسل الى الاسباب المعينة لدفعها. و كما ان العبادات امور امر
الله-تعالى-عباده بالسعي فيها، ليحصل لهم بها التقرب اليه و السعادات في دار
الآخرة، فكذلك طلب الحلال و دفع الضرر و الالم عن النفس و الاهل و العيال امور
امرهم الله-تعالى-، ليحصل لهم بها التوسل الى العبادات و ما يؤدي الى التقرب و
السعادة. و لكنه -سبحانه-كلفهم ايضا بالا يثقوا الا به، و لا يعتمدوا على الاسباب.

كما انه-سبحانه-كلفهم بالا يتكلوا على اعمالهم الحسنة، بل على فضله و رحمته.
فمعنى التوكل المامور به في الشريعة: اعتماد القلب على الله في الامور كلها، و
انقطاعه عما سواه. و لا ينافيه تحصيل الاسباب اذا لم يسكن اليها، و كان سكونه
الى الله-سبحانه-دونها مجوزا في نفسه ان يؤتيه الله مطلوبه من حيث لا يحتسب،
دون هذه الاسباب التي حصلها، و ان يقطع الله هذه الاسباب عن مسبباتها.

فصل


(الاسباب التي لا ينافي السعي اليها التوكل)


الاسباب التي لا ينافي تحصيلها و مزاولتها للتوكل، هي الاسباب القطعية او الظنية،
و هي التي يقطع او يظن بارتباط المسببات بها بتقدير الله و مشيته ارتباطا
مطردا لا يتخلف عنها، سواء كانت لجلب نفع او لدفع ضر منتظر او لازالة آفة واقعة، و
ذلك كمد اليد الى الطعام للوصول الى فيه، و حمل الزاد للسفر، و اتخاذ البضاعة
للتجارة، و الوقاع لحصول الاولاد، و اخذ السلاح للعدو، و الادخار لتجدد الاضطرار،
و التداوي لازالة المرض، و التحرز عن النوم في ممر السيل و مسكن السباع و تحت
الحائط المائل، و غلق الباب، و عقل البعير، و ترك الطريق الذي يقطع او يظن وجود
السارقين او السباع الضارة فيه. . . و قس عليها غيرها.

و اما الاسباب الموهومة، كالرقية، و الطيرة، و الاستقصاء في دقائق التدبير، و
ابداء التمحلات لاجل التبديل و التغيير، فيبطل بها التوكل، لان امثال ذلك
ليست باسباب عند العقلاء، و ليست مما امر الله-تعالى- بها، بل ورد النهي عنها، على
ان المامور به الاجمال في الطلب و عدم الاستقصاء.

قال رسول الله (ص) : «الا ان الروح الامين نفث في روعي: انه لا تموت نفس حتى تستكمل
رزقها، فاتقوا الله-تعالى-، و اجملوا في الطلب » . و قال -صلى الله عليه و آله-: «ما
اجمل في الطلب من ركب البحر» . و قال الصادق (ع) :

«ليكن طلب المعيشة فوق كسب المضيع، و دون طلب الحريص، الراضي بدنياه، المطمئن
اليها، و لكن انزل نفسك من ذلك بمنزلة المنصف المتعفف، ترفع نفسك عن منزلة
الواهن الضعيف، و تكتسب ما لا بد منه، ان الذين اعطوا المال ثم لم يشكروا لا
مال لهم » . و قال (ع) : «اذا فتحت بابك، و بسطت بساطك، فقد قضيت ما عليك » .

فصل


(اعقل و توكل)


اعلم ان التوكل لا يبطل بالاسباب المقطوعة و المظنونة، مع ان الله قادر على
اعطاء المطلوب بدون ذلك، لان الله-سبحانه-ربط المسببات بالاسباب، و ابى ان
يجري الاشياء الا بالاسباب. و لذا لما اهمل الاعرابي بعيره، و قال: توكلت على الله،
قال له النبي (ص) : «اعقلها و توكل » .

و قال الصادق (ع) : «اوجب الله لعباده ان يطلبوا منه مقاصدهم بالاسباب التي
سببها لذلك و امرهم بذلك » . و قال الله-تعالى-:

«خذوا حذركم » (14) . و قال فى كيفية صلاة الخوف:

«و لياخذوا حذرهم و اسلحتهم » (15) . و قال: «و اعدوا لهم ما استطعتم من قوة و من
رباط الخيل » (16) .

و قال لموسى: « «فاسر بعبادي ليلا» (17) ، و التحصن بالليل اختفاء عن اعين الاعداء
دفعا للضرر.

و في الاسرائيليات: «ان موسى بن عمران (ع) اعتل بعلة، فدخل عليه بنو اسرائيل،
فعرفوا علته، فقالوا له: لو تداويت بكذا لبرئت، فقال:

لا اتداوى حتى يعافيني الله من غير دواء. فطالت علته، فاوحى الله اليه:

و عزتي و جلالي! لا ابرؤك حتى تتداوى بما ذكروه لك. فقال لهم: داووني بما ذكرتم.
فداووه، فبرى ء. فاوجس في نفسه من ذلك، فاوحى الله -تعالى-اليه: اردت ان تبطل
حكمتي بتوكلك علي، فمن اودع العقاقير منافع الاشياء غيرى؟ » . و روى: «ان زاهدا من
الزهاد، فارق الامصار و اقام في سفح جبل، فقال: لا اسال احدا شيئا حتى ياتيني ربي
برزقي، فقعد سبعا، فكاد يموت، و لم ياته رزق، فقال: يا رب! ان احييتني فاتني برزقى
الذى قسمت لي، و الا فاقبضني اليك. فاوحى الله-تعالى-اليه:

و عزتي و جلالي! لا ارزقك حتى تدخل الامصار، و تقعد بين الناس.

فدخل المصر فاقام، فجاء هذا بطعام، و هذا بشراب، فاكل و شرب.

فاوجس في نفسه ذلك، فاوحى الله اليه: اردت ان تذهب حكمتي بزهدك في الدنيا، اما
علمت اني ارزق عبدي بايدي عبادي احب الي من ان ارزقه بيد قدرتي؟ » .

فصل


(درجات الناس في التوكل)


اعلم ان درجات الناس-كما عرفت-في التوكل مختلفة، بحسب تفاوت مراتبهم في قوة
اليقين و ضعفه، و في قوة التوحيد و ضعفه:

فمنهم: من كمل ايمانه و يقينه، بحيث سقط وثوقه عن الاسباب بالكلية، و توجه بشراشره
الى الواحد الحق، و لا يرى مؤثرا الا هو، و ليس نظره الى غيره اصلا، و قلبه مطمئن
ساكن بعنايته، بحيث لا يختلج بباله احتمال ان يكله ربه الى غيره، و لا يعتري نفسه
اضطراب اصلا، فلا باس لمثله ان يعرض عن الاسباب المقطوعه او المظنونة بالكلية،
لان الله سبحانه يحفظه و يحرسه و يصلح اموره، و يرزقه من حيث لا يحتسب، سواء حسب
الاسباب ام لا، و سواء كسب ام لم يكتسب، الا انه ربما لم يترك السبب و الكسب
و يتبع امر الله فيه، الا انه ليس وثوقه الا بالله دون السبب و الكسب. و ما ورد
من حكايات بعض الكمل من الاولياء، من انهم يسافرون في البوادي التي لا يطرقها
الناس بغير زاد ثقة بالله، و يصل اليهم الرزق، او لا يتحرزون من السباع الضارة،
او يغلظون القول بالنسبة الى اهل الاقتدار من الملوك و السلاطين من دون خوف و
مبالاة، اعتمادا على الله، و الله-سبحانه-ينجيهم منهم، كانوا منهم: اي من
الكاملين في التوكل. قال الصادق (ع) : «ابى الله-عز و جل-ان يجعل ارزاق المؤمنين
الا من حيث لا يحتسبون » . و انما خصه بالمؤمنين، لان كمال الايمان يقتضي الا يثق
صاحبه بالاسباب و ان يتوكل على الله-عز و جل- وحده. و كمال الايمان انما يكون
لصاحب العلم المكنون من الانبياء و الاولياء، و ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

و منهم: من لم يبلغ قوة ايمانه و يقينه حدا تغيب عن نظره الاسباب و الوسائط، و
يكون مقصور الالتفات الى جناب الحق. فهذا هو الذي لا ينبغى له ان يعرض عن
الاسباب و يتركها، لان مثله ليس له المظنة التي توصله الى المقصد بدون الوسائط:
اعني قوة التوكل على الله و اليقين به سبحانه.

فصل


(تفنيد زعم)


بعض الناس زعم: ان حق التوكل ان يكتفى بالاسباب الخفية عن الاسباب الجلية، كان
يسافر في البوادي التي لا يطرقها الناس بغير زاد، بعد ان راض نفسه على جوع
الاسبوع و ما يقاربه، بحيث يصبر عنه من غير ضيق قلب، و اضطراب نفس، و تشويش خاطر، و
فتور في ذكر الله، و بعد ان يكون بحيث يقوى على التقوت بالحشيش و ما يتفق له، و ان
يوطن نفسه على انه ان مات جوعا كان خيرا له في الآخرة.

و كان يجلس فى مسجد او بيته و يترك الكسب، و يتفرغ للعبادة، و الفكر و الذكر، و
استغرق وقته بها، بحيث لا يستشرف نفسه الى الناس في انتظاره و من يدخل فيحمل
اليه شيئا، بل يكون قوي القلب في الصبر و الاتكال على الله. و هذا محض الخطا، اذ
من جاهد نفسه و راضها بحيث يصبر على جوع الاسبوع، و يمكنه التقوت بالحشيش، صارت
الاسباب له جلية. فان عدم الحاجة احد الغنائين. ثم ان كان اعتماده-حينئذ-على
صبره و تمكنه من التقوت بالحشيش، فاين التوكل؟ و ان كان وثوقه بالله وحده،
فليقم في بلده مع الاسباب، كما امر الله به في الشرع. و اما توطين نفسه
باختياره على الموت فممنوع عقلا، و محرم شرعا، قال الله-سبحانه-:

«و لا تلقوا بايديكم الى التهلكة » (18) .

و اما الجالس في بيته، التارك لكسبه، يعبد الله من دون طلب، فهو ايضا قد ترك
متابعة امر الله. قال الصادق-عليه السلام-: «ان من يقوته اشد عبادة منه » . و ربما
يكون مثله كلا على الناس، فان حاله ينادي بالبؤس و الياس، بل هو ضرب على تواطن
الناس و تعرض للذل. و بالجملة لا مدخل لخفاء الاسباب و جلائها في التوكل، بعد ما تقرر
ان معناه الثقة بالله وحده، لا بالاسباب، فسواء وجود الاسباب و فقدها و جلاؤها و
خفاؤها.

فصل


(طريق تحصيل التوكل)


الطريق الى تحصيل التوكل-بعد تقوية التوحيد و الاعتماد بان الامور باسرها
مستندة اليه سبحانه، و ليس لغيره مدخلية فيها-ان يتذكر الآيات و الاخبار
المذكورة الدالة على فضيلته و مدحه، و كونه باعث النجاة و الكفاية، ثم يتذكر ان
الله-سبحانه-خلقه بعد ان لم يكن موجودا، و اوجده من كتم العدم، و هيا له ما
يحتاج اليه، و هو اراف بعباده من الوالدة بولدها، و قد ضمن بكفالة من توكل عليه،
فيستحيل ان يضيعه بعد ذلك و لا يكفيه مؤنته، و لا يوصل اليه ما يحتاج اليه، و لا
يدفع عنه ما يؤذيه، لتقدسه من العجز و النقص و الخلف و السهو. و ينبغى ان يتذكر
الحكايات التي فيها عجائب صنع الله في وصول الارزاق الى صاحبها، و في دفع
البلايا و الاسواء عن بعض عبيده، و الحكايات التي فيها عجائب قهر الله في اهلاك
اموال الاغنياء و اذلال الاقوياء، و كم من عبد ليس له مال و بضاعة و يرزقه الله
بسهولة، و كم من ذي مال و ثروة هلكت بضاعته او سرقت و صار محتاجا، و كم من قوي
صاحب كثرة و عدة و سطوة صار عاجزا ذليلا بلا سبب ظاهر، و كم من ذليل عاجز صار
قويا و استولى على الكل. و من تامل في ذلك يعلم ان الامور بيد الله، فيلزم
الاعتماد عليه و الثقة به. و المناط ان يعلم ان الامور لو كانت بقدرة
الله-سبحانه-من غير مدخلية للاسباب و الوسائط فيها، فعدم التوكل
عليه-سبحانه-و الثقة بغير غاية الجهل، و ان كانت لغيره-سبحانه-من الوسائط و
الاسباب مدخلية، فالتوكل من جملة اسباب الكفاية و انجاح الامور، اذ السمع و
التجربة شاهدان بان من توكل على الله و انقطع اليه كفاه الله كل مؤنة. فكما ان
شرب الماء سبب لازالة العطش، و اكل الطعام سبب لدفع الجوع، فكذا التوكل سبب
رتبه مسبب الاسباب لانجاح المقاصد و كفاية الامور. و علامة حصول التوكل، الا
يضطرب قلبه، و لا يبطل سكونه بفقد اسباب نفسه و حدوث اسباب ضره. فلو سرقت بضاعته،
او خسرت تجارته، او تعوق امر من اموره، كان راضيا به، و لم تبطل طمانينته، و
لم تضطرب نفسه، بل كان حال قلبه في السكون قبله و بعده واحدا. فان من لم يسكن الى
شى ء لم يضطرب بفقده، و من اضطرب لفقد شى ء فقد سكن اليه و اطمان به.

و منها.

الكفران


(و ضده الشكر)

الشكر-فضيلة الشكر-الشكر نعمة يجب شكرها-المدارك لتمييز محاب الله عن
مكارهه-اقسام النعم و اللذات-الاكل-لا فائدة في الغذاء ما لم يكن بشهوة و
ميل-عجائب الماكولات-حاجة تحضير الطعام الى آلاف الاسباب-تسخير الله
التجار لجلب الطعام-نعم الله في خلق الملائكة للانسان -الاسباب الصارفة
للشكر-طريق تحصيل الشكر-الصحة خير من السقم.

و بعد ما تعرف حقيقة الشكر، و كونه متعلقا باي القوى، تعرف بالمقايسة حقيقة الكفران و
كونه من رذائل القوى.

فنقول: الشكر هو عرفان النعمة من المنعم، و الفرح به، و العمل بموجب الفرح باضمار
الخير، و التحميد للمنعم، و استعمال النعمة في طاعته.

اما المعرفة، فبان تعرف ان النعم كلها من الله، و انه هو المنعم، و الوسائط
مسخرات من جهته. و لو انعم عليك احد، فهو الذي سخره لك، و القى في قلبه من
الاعتقادات و الارادات ما صار به مضطرا الى الايصال اليك، فمن عرف ذلك،
حصل احد اركان الشكر لله، و ربما كان مجرد ذلك شكرا، و هو الشكر بالقلب. كما روى:
«ان موسى قال في مناجاته: الهى!

خلقت آدم بيدك، و اسكنته جنتك، و زوجته حواء امتك، فكيف شكرك؟

فقال: علم ان ذلك مني فكانت معرفته شكرا» .

ثم هذه المعرفة فوق التقديس و فوق بعض مراتب التوحيد، و هما داخلان فيها. اذ
التقديس تنزيهه-سبحانه-عن صفات النقص، و التوحيد قصر المقدس عليه، و الاعتراف بعدم
مقدس سواه، و هذه المعرفة هي اليقين بان كل ما في العالم موجود منه، و الكل نعمة منه،
فينطوي فيها مع التقديس و التوحيد كمال القدرة و الانفراد بالفعل، و لذلك قال رسول
الله (ص) : «من قال: سبحان الله، فله عشر حسنات، و من قال: لا اله الا الله، فله عشرون
حسنة، و من قال: الحمد لله، فله ثلاثون حسنة » .

فسبحان الله: كلمة تدل على التقديس، و لا اله الا الله: كلمة تدل على التوحيد، و
الحمد لله: كلمة تدل على معرفة النعم من الواحد الحق. و لا تظنن ان هذه الحسنات
بازاء تحريك اللسان بهذه الكلمات من غير عقد القلب بمعانيها، بل هى بازاء
الاعتقاد بمعانيها التي هي المعارف المعدودة من ابواب الايمان و اليقين. و
اما الفرح بالمنعم، مع هيئة الخضوع و التواضع، فهو ايضا من اركان الشكر. بل كما
ان المعرفة شكر قلبى براسه، فهو ايضا في نفسه شكر بالقلب، و انما يكون شكرا اذا
كان فرحه بالمنعم او بالنعمة لا من حيث انه نعمة و مال ينتفع به و يلتذ منه في
الدنيا، بل من حيث انه يقدر بها على التوصل الى القرب من المنعم، و النزول في
جواره، و النظر الى وجهه على الدوام، و امارته الا يفرح من الدنيا الا بما هو
مزرعة الآخرة و معينه عليها، و يحزن بكل نعمة تلهيه عن ذكر الله و تصده عن سبيله، لانه
ليس يريد النعمة لذاتها، بل من حيث انها توصله الى مجاورة المنعم و قربه و لقائه.
و اما العمل بموجب الفرح الحاصل من معرفة المنعم، فهو القيام بما هو مقصود
المنعم و محبوبه، و هو يتعلق بالقلب و اللسان و الجوارح. اما المتعلق بالقلب
فقصده الخير و اضماره لكافة الخلق. و اما المتعلق باللسان فاظهار الشكر لله
بالتحميدات الدالة عليه. و اما المتعلق بالجوارح، فاستعمال نعم الله في
طاعته و التوقى من الاستعانة بها على معصيته، حتى ان من جملة شكر العينين ان
يستر كل عيب يراه من مسلم، و من جملة شكر الاذنين ان يستر كل عيب يسمعه من مسلم،
فيدخل هذا و امثاله في جملة شكر نعمة هذه الاعضاء.

بل قيل: من كفر نعمة العين و لم يستعملها فيما خلقت لاجله كفر نعمة الشمس ايضا، اذ
الابصار انما يتم بها، و انما خلقتا ليبصر بهما ما ينفعه في دينه و دنياه، و يقى
بهما ما يضره فيهما. بل المراد من خلق السماء و الارض و خلق الدنيا و اسبابها
ان يستعين الخلق بها على الوصول الى الله، و لا وصول اليه الا بمحبته و الانس به
في الدنيا، و التجافي عن الدنيا و غرورها و لذاتها و علائقها، و لا انس الا
بدوام الذكر و لا محبة الا بالمعرفة الحاصلة بدوام الفكر، و لا يمكن الذكر و الفكر
الا ببقاء البدن، و لا يبقى البدن الا بالارض و الماء و الهواء و النار، و لا يتم
ذلك الا بخلق الارض و السماء و خلق سائر الاشياء، و كل ذلك لاجل البدن. و البدن مطية
النفس. و النفس الراجعة الى الله هى المطمئنة بطول العبادة و المعرفة. فكل من
استعمل شيئا في غير طاعة الله فقد كفر نعمة الله في جميع الاسباب التي لا بد منها
لاقدامه على تلك المعصية. و اذا عرفت حقيقة الشكر، تعرف بالمقايسة حقيقة الكفران،
فانه عبارة عن الجهل بكون النعم من الله، او عدم الفرح بالمنعم و النعمة من حيث
ايصالها الى القرب منه، او ترك استعمال النعمة فيما يحبه المنعم، او استعمالها
فيما يكرهه. ثم، بما ذكرناه، و ان ظهر ان حقيقة الشكر ملتئمة من الامور الثلاثة، الا
انه قد يطلق الشكر على كل واحد ايضا، كما قال الصادق (ع) : «شكر كل نعمة، و ان عظمت، ان
تحمد الله » ، و قال (ع) : «شكر النعم اجتناب المحارم، و تمام الشكر قول الرجل: الحمد
لله رب العالمين » . و سئل عنه (ع) :

«هل للشكر حد اذا فعله العبد كان شاكرا؟ قال: نعم! قيل: ما هو؟ قال:

يحمد الله على كل نعمة عليه في اهل و مال، و ان كان فيما انعم عليه في ماله حق اداه.
و منه قوله-جل و عز-:

«سبحان الذي سخر لنا هذا و ما كنا له مقرنين » (19) . و منه قوله-تعالى-: «رب انزلني
منزلامباركا و انت خير المنزلين » (20) . و قوله: «رب ادخلني مدخل صدق و اخرجني. مخرج صدق و
اجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا» (21) .

و قال (ع) : «كان رسول الله (ص) اذا ورد عليه امر يسره، قال:

الحمد لله على هذه النعمة. و اذا ورد عليه امر يغتم به، قال: الحمد لله على كل حال » .
و قال (ع) : «اذا اصبحت و امسيت، فقل عشر مرات: اللهم ما اصبحت بى من نعمة او
عافية فى دين او دنيا، فمنك وحدك لا شريك لك، لك الحمد و لك الشكر بها علي يا رب.
حتى ترضى و بعد الرضا. فانك اذا قلت ذلك، كنت قد اديت شكر ما انعم الله به عليك في
ذلك اليوم و في تلك الليلة » . و في رواية: «كان نوح (ع) يقول ذلك اذا اصبح، فسمى
بذلك عبدا شكورا» . و قال (ع) : «اذا ذكر احدكم نعمة الله، فليضع خده على التراب شكرا
لله، فان كان راكبا فليزل و ليضع خده على التراب، و ان لم يكن يقدر على النزول
للشهرة فليضع خده على قربوسه (22) ، و ان لم يقدر فليضع خده على كفه، ثم ليحمد الله على ما
انعم عليه » . و روى: «ان الصادق (ع) قد ضاعت دابته، فقال: لئن ردها الله علي لا شكرن
الله حق شكره » . قال الراوى: فما لبث ان اوتى بها، فقال: «الحمد لله » . فقال قائل له:
جعلت فداك! اليس قلت لا شكرن الله حق شكره؟ فقال ابو عبد الله (ع) : «الم تسمعنى قلت:
الحمد لله؟ » (23) . ثم الشكر باللسان لاظهار الرضا من الله، و لذا امر به. و قد كان
السلف يتساءلون بينهم، و نيتهم استخراج الشكر لله، ليوجر كل واحد من الشاكر و
السائل. و قد روى: «ان رسول الله (ص) قال لرجل: كيف اصبحت؟ فقال: بخير. فاعاد عليه
السؤال، فاعاد عليه الجواب، فاعاد السؤال ثالثة، فقال: بخير، احمد الله و
اشكره.

فقال (ص) : هذا الذى اردت منك » .

«تنبيه » لا ريب في ان الجزء الاول من الشكر-اعني معرفة النعم من الله-من متعلقات
العاقلة و فضائلها. و الثاني-اعني الفرح للنفس-ان كان من النعم العقلية الروحانية،
يكون متعلقا بالعاقلة ايضا، و ان كان لاجل وصول نعمة الغلبة و الاستيلاء-مثلا-على عدو
ظالم، يكون متعلقا بالقوة الغضبية، و ان كان من نعمة المال و الاولاد، يكون متعلقا
بالقوة الشهوية.

و الجزء الثالث-اعني العمل بمقتضى الفرح الحاصل من معرفة المنعم-فهو من ثمرات
الحب للمنعم و الخوف من زوال نعمته. و بهذا يظهر: ان الشكر و الكفران من متعلقات
القوى الثلاث، و الاول من فضائلها اذا امتزجت و تسالمت، و الثاني. من
رذائلها.

فصل


(فضيلة الشكر)


الشكر افضل منازل الابرار، و عمدة زاد المسافرين الى عالم الانوار، و هو
موجب لدفع البلاء و ازدياد النعماء، و قد ورد به الترغيب الشديد، و جعله الله سببا
للمزيد. قال الله-سبحانه-:

«ما يفعل الله بعذابكم ان شكرتم و آمنتم » (24) . و قال: «لئن شكرتم لازيدنكم » (25) .

و قال: «فاذكروني اذكركم و اشكروا لي و لاتكفرون » (26) . و قال: «و سنجزي الشاكرين » (27) .

و لكونه غاية الفضائل و المقامات، ليس لكل سالك ان يصل اليه، بل ليس الوصول اليه
الا لاوحدي من كمل السالكين. و لذا قال الله رب العالمين:

«و قليل من عبادي الشكور» (28) . و كفى به شرفا و فضلا، انه خلق من اخلاق الربوبية،
كما قال الله-سبحانه-:

«و الله شكور حليم » (29) . و هو فاتحة كلام اهل الجنة و خاتمته، كما قال الله-تعالى-:
«و قال الحمد لله الذي صدقنا وعده » (30) . و قال: «و آخر دعواهم ان الحمدلله رب العالمين » (31) .

و قال رسول الله (ص) . «الطاعم الشاكر، له من الاجر كاجر الصائم المحتسب. و
المعافى الشاكر، له من الاجر كاجر المبتلى الصابر. و المعطى الشاكر، له من
الاجر كاجر المحروم القانع » . و قال (ص) : «ان للنعم او ابد كاوابد الوحش، فقيدوها
بالشكر» . و قال (ص) : «ينادي مناد يوم القيامة: ليقوم الحامدون! فيقوم زمرة. فينصب
لهم لواء فيدخلون الجنة » . فقيل: من الحمادون؟ فقال: «الذين يشكرون الله على كل
حال » .

و قال السجاد (ع) : «ان الله-سبحانه-يحب كل عبد حزين، و يحب كل عبد شكور» . و قال
الباقر (ع) : «كان رسول الله (ص) عند عائشة ليلتها، فقالت: يا رسول الله! لم تتعب
نفسك و قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك و ما تاخر؟ فقال: يا عائشة! الا اكون عبدا
شكورا؟ . . . قال: و كان يقوم على اطراف اصابع رجليه، فانزل الله-تعالى-: طه! ما
انزلنا عليك القرآن لتشقى » . و قال الصادق (ع) : «ما انعم الله على عبد من نعمة فعرفها
بقلبه و حمد الله ظاهرا بلسانه، فتم كلامه، حتى يؤمر له بالمزيد» . و قال (ع) : «ثلاث
لا يضر معهن شي ء: الدعاء عند الكرب، و الاستغفار عند الذنب، و الشكر عند النعمة » (32) . و قال
(ع) : «في كل نفس من انفاسك شكر لازم لك، بل الف او اكثر، و ادنى الشكر رؤية النعمة من
الله -تعالى-من غير علة يتعلق القلب بها دون الله-عز و جل-، او الرضا بما اعطى، و
الا تعصيه بنعمته و تخالفه بشي ء من امره و نهيه بسبب نعمته.

فكن لله عبدا شاكرا على كل حال، تجد الله ربا كريما على كل حال، و لو كان عند
الله-تعالى-عبادة تعبد بها عباده المخلصون افضل من الشكر على كل حال، لا طلق لفظة
منهم عن جميع الخلق بها، فلما لم يكن افضل منها خصها من بين العبادات، و خص
اربابها، فقال: (و قليل من عبادى الشكور) . و تمام الشكر الاعتراف بلسان السر،
خاضعا لله بالعجز عن بلوغ ادنى شكره، لان التوفيق للشكر نعمة حادثة يجب الشكر عليها،
و هي اعظم قدرا و اعز وجودا من النعمة التى من اجلها وفقت له، فيلزمك على كل شكر شكر
اعظم منه، الى ما لا نهاية له، مستغرقا فى نعمه، قاصرا عاجزا عن درك غاية شكره، و
انى يلحق العبد شكر نعمة الله، و متى يلحق صنيعه بصنيعه، و العبد ضعيف لا قوة له ابدا الا
بالله-عز و جل-، و الله غنى عن طاعة العبد قوي على مزيد النعم على الابد، فكن لله عبدا
شاكرا على هذا الاصل، ترى العجب » (33) . ثم كما ان الشكر من المنجيات الموصلة الى
سعادة الابد و زيادة النعمة في الدنيا، فضده-اعني الكفران-من المهلكات المؤدية الى
شقاوة السرمد و عقوبة الدنيا و سلب النعم. قال الله-سبحانه-:

«فكفرت بانعم الله فاذاقها الله لباس الجوع و الخوف » (34) . و قال-تعالى-: « «ان
الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم » (35) .

و قال الصادق (ع) : «اشكر من انعم عليك، و انعم على من شكرك، فانه لا زوال للنعماء اذا
شكرت و لا بقاء لها اذا كفرت. الشكر زيادة في النعم، و امان من الغير» اي من
التغيير.

فصل


(الشكر نعمة يجب شكرها)


لما كانت حقيقة الشكر عبارة عن عرفان كل النعم من الله مع صرفها في جهة محبة الله،
فالشكر على كل نعمة ان تعرف كونها من الله و تصرفها في جهة محبته. و لا ريب في
ان هذه المعرفة و الصرف ايضا نعمة من الله، اذ جميع ما نتعاطاه باختيارنا نعمة
من الله، لان جوارحنا، و قدرتنا، و ارادتنا، و دواعينا، و افاضة المعارف علينا، و
سائر الامور التي هي اسباب حركاتنا، بل نفس حركاتنا، من الله. و على هذا فالشكر
على كل نعمة نعمة اخرى من الله يحتاج الى شكر آخر. و هو ان يعرف ان هذا الشكر ايضا
نعمة من الله-سبحانه-. فيفرح به و يعمل بمقتضى فرحه.

و هذه المعرفة و الفرح تحتاج الى شكر آخر، و هكذا. فلا بد من الشكر في كل حال. و ليس
يمكن ان تنتهي سلسلة الشكر الى ما لا يحتاج الى شكر.

فغاية شكر العبد ان يعرف عجزه عن اداء حق شكره-تعالى-. اذ عرفان عجزه مسبب عن
عرفان جميع النعم، حتى شكره من الله، و هذا غاية ما يمكن للعبد. و يشهد بذلك ما روى:
«ان الله-عز و جل-اوحى الى موسى (ع) :

يا موسى! اشكرني حق شكري. فقال: يا رب! كيف اشكرك حق شكرك و ليس من شكر اشكرك به الا و
انت انعمت به علي؟ قال: يا موسى! الآن شكرتني، حيث علمت ان ذلك مني » . و كذلك اوحى
ذلك الى داود، فقال:

«يا رب! كيف اشكرك و انا لا استطيع ان اشكرك الا بنعمة ثانية من نعمك » . و فى لفظ آخر:
«و شكري لك نعمة اخرى منك، و يوجب علي الشكر لك، فقال: اذا عرفت هذا فقد شكرتني » . و في
خبر آخر: «اذا عرفت ان النعم مني، رضيت عنك بذلك شكرا» . و روى: «ان السجاد -عليه
السلام-كان اذا قرا هذه الآية (و ان تعدوا نعمة الله لا تحصوها)

يقول: سبحان من لم يجعل في احد من معرفة نعمه الا المعرفة بالتقصير عن معرفتها!
كما لم يجعل في احد من معرفة ادراكه اكثر من العلم بانه لا يدركه » ،
فشكره-تعالى-معرفة العارفين بالتقصير عن معرفة شكره، فجعل معرفتهم بالتقصير
شكرا، كما علم العارفين بانهم لا يدركونه، فجعله ايمانا، علما منه انه فقد وسع
العباد فلا يتجاوز ذلك، فان شيئا من خلقه لا يبلغ مدى عبادته، فكيف يبلغ مدى
عبادته من لا مدى له و لا كيف؟

تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. و قال ابو الحسن (ع) : «من حمد الله على النعمة فقد
شكره، و كان الحمد لله افضل من تلك النعمة » (36) ، يعني انه نعمة فوق تلك النعمة، يستدعي
شكرا آخر.

فصل


(المدارك لتمييز محاب الله عن مكارهه)


لما عرفت ان الشكر عبارة عن استعمال نعم الله فيما يحبه، و الكفران عبارة عن
نقيض ذلك-اعني ترك استعمالها فيه او استعمالها فيما يكرهه- فلا بد من معرفة ما
يحبه و ما يكرهه، و تمييز محابه عن مكارهه، حتى يتمكن من اداء الشكر و ترك
الكفران، لتوقفهما على معرفتهما و تمييزهما. و هذا التمييز و التعريف له
مدركان:

احدهما-الشرع، فانه كشف عن جميع ما يحبه و ما يكرهه، و عبر عن الاول
بالواجبات و المندوبات، و عن الثاني بالمحرمات و المكروهات.

فمعرفة ذلك موقوفة على معرفة جميع احكام الشرع في افعال العباد، فمن لم يطلع
على حكم في جميع افعاله، لم يمكنه القيام بحق الشكر.

و ثانيهما-العقل و النظر بعين الاعتبار، فان العقل متمكن-في الجملة- من ان يدرك
بعض وجوه الحكم في بعض الموجودات. فان الله-سبحانه- ما خلق شيئا في العالم الا
و فيه حكم كثيرة، و تحت كل حكمة مقصود و مصلحة، و هذا المقصود و المصلحة هو محبوب
الله-تعالى-. فمن استعمل كل شي ء على النحو الذي يؤدي الى المقاصد المطلوبة و على
الجهة التي خلق لها فقد شكر نعم الله-تعالى-، و ان استعمل شيئا على النحو الذي لم يؤد
الى المقصودة منه او في جهة غير الجهة التي خلق لها، فقد كفر نعمة الله.

ثم العقل لا يتمكن من معرفة كل حكمة مطلوبة من كل شي ء، اذ الحكم المقصودة من الاشياء،
طما جلية او خفية. اما الجلية: كحكمة حصول الليل و النهار في وجود الشمس، و حكمة
انتشار الناس و سكونهم في وجود الليل و النهار، و حكمة انشقاق الارض بانواع
النبات في وجود الغيم و نزول الامطار، و حكمة الابصار في العين، و البطش في
اليد، و المشي في الرجل، و حصول الاولاد و بقاء النسل في آلات التناسل و خلق الشهوة،
و حكمة المضغ و الطحن في خلق الاسنان و امثال ذلك. و اما الحكم الخفية: كالحكم
التي في خلق الكواكب السيارة و الثابتة، و اختصاص كل منها بقدر معين و موضع خاص،
و الحكم التي في بعض الاعضاء الباطنية للحيوان، من الامعاء و المرارة و الكلية و
احاد العروق و الاعصاب و العضلات، و ما فيها من التجاويف و الالتفاف و
الاشتباك و الانحراف و الدقة و الغلظة و غير ذلك.

فهذه الحكم و امثالها لا يعرفها كل احد، و من يعرف منها شيئا فلا يعرف الا قدرا
يسيرا. فان جميع اجزاء العالم، سماءه و كواكبه، و ما فيها من الاوضاع و الحركة
و الاختصاصات، و عناصره من كثرة النار و الهواء و الماء و الارض، و ما فيها من
البحار و الجبال و الرياح، و المعادن و النبات و الحيوان، لا تخلو ذرة من
ذراته من حكم كثيرة من عشرة الى الف او اكثر، و قليل منها جلية، و اكثرها دقيقة
خفية، و بعضها متوسط في الجلاء و الخفاء، يعرفها المتفكرون في خلق السماوات و
الارض، و اكثر الحكم الدقيقة مما لا يعرفها غير خالقها و موجدها. ثم ما عدا
الانسان من الاشياء المجردة و المادية، و الروحانية و الجسمانية، جارية على
وفق الحكمة، و مستعملة ذواتها و اجزاؤها و ما يتعلق بها على الوجه الذي هو مقتضى
المصلحة المقصودة منها. و اما الانسان، فلكونه محل الاختيار و مجراه، فقد يجري و
يستعمل الاشياء التي يتمكن من استعمالها على خلاف ذلك، فيكون كافرا بنعمة
الله-سبحانه-. فمن ضرب غيره بيده فقد كفر نعمة الله في اليد، اذ خلقت له اليد ليدفع
بها عن نفسه ما يؤذيه، و ياخذ ما ينفعه، لا ليهلك به غيره، و من نظر الى وجه غير
المحرم فقد كفر نعمة العين، لانها خلقت ليبصر بها ما ينفعه في دينه و دنياه، و يتقي
بها ما يضره فيهما، و من ادخر الدراهم و الدنانير و حبسهما فقد كفر نعمة الله
فيهما، لانهما حجران لا منفعة و لا عوض في اعيانهما، و انما خلقهما
الله-تعالى-ليكونا حاكمين يحصل بهما التعديل و المساواة و التقدير بين سائر
الاموال من الاعيان المتنافرة المتباعدة، فهما عزيزان في انفسهما. و لا غرض
في اعينهما. و نسبتهما الى سائر الاموال نسبة واحدة. فمن ملكهما فكانه ملك كل
شي ء، لا كمن ملك ثوبا، فانه لا يملك الا الثوب. فان احتاج الى طعام ربما لم
يرغب صاحب الطعام في الثوب، اذ لا غرض له في ذاته، بخلاف النقدين، فانهما من
حيث الصورة كانهما ليسا بشي ء، و من حيث المعنى كانهما كل شي ء. و الاشياء انما
تستوى نسبتها الى المختلفات-اذا لم يكن لها صورة خاصة تقيدها
بخصوصها-كالمرآة لا لون لها و تحكى كل لون، و كالحرف لا معنى لها في نفسها، بل
تظهر لها المعاني في غيرها، و كذلك النقدان، لا غرض فيهما مع كونهما وسيلة الى كل
غرض. فالحكمة في خلقهما ان يحكما بين الاموال بالعدل، و تعرف بهما المقادير
المختلفة، و تقوم بهما الاشياء المتباينة، و يحصل التوسل بهما الى سائر الاموال.
فيلزم اطلاقهما لتداولهما الايدي، و تحصل بهما التسوية فى تبادل الاعيان و
المنافع المتخالفة، فمن ادخرهما و حبسهما فقد ظلمهما، و ابطل الحكمة فيهما، و
كفر نعمة الله فيهما، و كان كمن حبس حاكم المسلمين في سجن، و من لم يدخرهما و
لم يتصرف ازيد مما يحصل به التوصل الى ما يحتاج و انفق الزائد في سبيل الله،
فهو الذي استعملهما على وفق الحكمة و شكر نعمة الله فيهما. و لما عجز اكثر الناس
عن قراءة الاسطر الالهية المكتوبة على صفحاتهما في فائدتهما و حكمتهما بخط الهي
لا حرف فيه و لا صوت، اخبرهم الله عن ذلك بقوله: «و الذين يكنزون الذهب و الفضة و
لا ينفقونها فى سبيل الله فبشرهم بعذاب اليم » (37) .

و بما ذكرنا من وجه الحكمة فيهما، يظهر ان من اتخذ الاواني منهما فقد كفر نعمة
الله فيهما ايضا، و كذا من عامل معاملة الربا فيهما فقد كفر النعمة و ظلم،
لانهما طنما خلقا لغيرهما لا لانفسهما، اذ لا غرض في عينهما، فاذا اتجر في
عينهما فقد اتخذهما مقصودا لانفسهما على خلاف وضع الحكمة، و كذلك الحكمة في خلق
الاطعمة ان يغتذى بها، فلا ينبغي ان تصرف عن جهتها و تقيد في الايدي، بل اللازم
ان تخرج عن يدي المستغني عنها الى المحتاج. و لذا ورد في الشرع حرمة الاحتكار و
المنع عن معاملة الربا في الاطعمة، لان ذلك يوجب صرفها عن الحكمة المقصودة منها. و
اذا عرفت ذلك، فقس عليه جميع افعالك و اعمالك و حركاتك و سكناتك، فان كل فعل
يصدر منك اما شكر او كفران لا يتصور ان ينفك عنهما، مثلا لو استنجيت باليمين، فقد
كفرت نعمة اليدين، اذ خلق الله اليدين و جعل احداهما اقوى و استحق الاقوى لرجحانه
التفضيل، و تفضيل الناقص عليه عدول عن العدل، و هذا التفضيل انما يتصور بان تصرف
الاقوى في الافعال الشريفة، كاخذ المصحف و اكل الطعام، و تصرف الاضعف في
الاعمال الخسيسة، كازالة النجاسة، فمن خالف ذلك فقد عدل عن العدل و ابطل الحكمة
و كفر النعمة. و كذلك اذا لبست خفك فابتدات باليسرى فقد ظلمت لان الخف وقاية
للرجل، فللرجل فيه حظ، و البداء فى الحظوظ ينبغي ان تكون بالاشرف، و هو العدل و العمل
على وفق الحكمة، فخلافه ظلم و كفران.

و كذلك ان استقبلت القبلة عند قضاء الحاجة، فقد كفرت نعمة الله في خلق الجهات و خلق
سعة العالم، لانه خلق الجهات متعددة متسعة، و شرف بعضها بان وضع فيه بيته، فينبغي
استقباله بالافعال الشريفة، كالصلاة و الجلوس للذكر و الاغتسال و الوضوء، دون
الافعال الخسيسة، كقضاء الحاجة و رمي البزاق، فمن قضى حاجته او رمى بزاقه الى
جهة القبلة فقد ظلمها و كفر نعمة الله، و كذلك من كسر غصنا من شجرة من غير حاجة مهمة،
و من غير غرض صحيح، فقد كفر نعمة الله فى خلق الاشجار و في خلق اليد. اما اليد
فلانها لم تخلق للعبث، بل للطاعة المعينة عليها. و اما الشجر، فلان الله-تعالى-خلقه،
و خلق له العروق و ساق اليه الماء، و خلق فيه قوة الاغتذاء و النماء ليبلغ منتهى
نشوه فينتفع به عباده، فكسره قبل منتهى نشوه لا على وجه ينتفع به عباده مخالفة لمقصود
الحكمة و عدول عن العدالة.

نعم ان كان له غرض صحيح في كسره فله ذلك. اذ الشجر و الحيوان جعلا فداءين لاغرضا
الانسان، فانهما جميعا فانيان هالكان، فافناء الاخس في بقاء الاشرف مدة ما
اقرب الى العدل من تضييعهما جميعا. و اليه الاشارة بقوله-تعالى-:

«و سخر لكم ما في السماوات و ما فى الارض جميعا» (38) .

ثم هذه الافعال المتصفة بالكفران، بعضها يوجب نقصان القرب و انحطاط المنزلة، و
بعضها يخرج بالكلية عن حدود القرب الى عالم البعد الذي هو افق الشياطين. و لذلك
يوصف بعضها-في لسان الفقه- بالكراهة و بعضها بالحظر. و قد سومح فى الفقه حيث جعل
فيه بعض هذه المكاره مكروهة غير محظورة، مع ان جميعها عدول عن العدل، و كفران للنعمة، و
نقصان عن الدرجة المبلغة الى القرب، لان الخطاب به انما هو الى العوام الذين
تقرب درجتهم من درجة الانعام، و قد انغمسوا في ظلمات اعظم من ان تظهر امثال
هذه الظلمات بالاضافة اليها. فان المعاصي كلها ظلمات، الا ان بعضها فوق بعض،
فيتمحق بعضها في جنب البعض. و لذا ترى ان السيد يعاتب عبده اذا استعمل سكينه
بغير اذنه، و لكن لو قتل بهذا السكين اعز اولاده لم يبق لاستعمال السكين بغير
اذنه حكم و نكاية في نفسه. و لذا جميع هذه المكاره موصوفة عند ارباب القلوب بالحظر،
و لا يتسامحون في شي ء مما راعاه الانبياء و الاولياء من الآداب. حتى نقل: «ان
بعضهم جمع اكرارا من الحنطة ليتصدق بها، فسئل عن سببه فقال: لبست المداس مرة
فابتدات بالرجل اليسرى سهوا، فاريد ان اكفره بالصدقة » .

1) يونس، الآية: 62.

2) طه، الآية: 131.

3) الاعراف، الآية: 193.

4) العنكبوت، الآية: 17.

5) المنافقون، الآية: 7.

6) البقرة، الآية: 260.

7) المائدة، الآية: 26.

8) آل عمران، الآية: 122، 160. المائدة، الآية: 12. التوبة، الآية: 52. ابراهيم، الآية: 11.
المجادلة، الآية: 10. التغابن، الآية: 13.

9) آل عمران، الآية: 159.

10) الطلاق، الآية: 3.

11) الانفال، الآية 50.

12) صححنا الاحاديث على (اصول الكافي) : ج 2، باب التفويض الى الله و التوكل
عليه. و على (البحار) : باب التوكل و التفويض و الرضا: مج 15 2 153، ط (امين
الضرب) . و للعلامة (المجلسى) -قدس سره-في الموضع المذكور، في الحديث الخامس، تحقيق
دقيق و بيان لطيف، لا يسع المقام ذكره هنا، فمن اراد الوقوف عليه فعليه بمراجعة
الموضع المذكور.

13) الطلاق، الآية: 3.

14) النساء، الآية: 70.

15) النساء، الآية: 101.

16) الانفال، الآية: 61.

17) الدخان، الآية: 23.

18) البقرة، الآية: 195.

19) الزخرف، الآية: 13.

20) المؤمنون، الآية: 29.

21) الاسراء، الآية: 80.

22) القربوس-بفتحتين-: حنو السرج، اي قسمه المقوس المرتفع من قدام المقعد و من
مؤخره.

23) هذه الرواية مذكوره في (اصول الكافي) : ج 2-باب الشكر. و في (الوافي) : 3
324-باب الشكر. الا ان المنقول في نسخ (جامع السعادات) فيه اختلاف كثير عما في
الموضعين، فصححناها عليهما.

24) النساء، الآية: 146.

25) ابراهيم، الآية: 7.

26) البقرة، الآية: 152.

27) آل عمران، الآية: 145.

28) سبا، الآية: 13.

29) التغابن، الآية: 17.

30) الزمر، الآية: 74.

31) يونس، الآية: 10.

32) صححنا الاحاديث على (اصول الكافي) : ج 2، باب الشكر. و على (البحار) مج 15: 2
132-135، باب الشكر.

33) صححنا الحديث على (مصباح الشريعة) : الباب السادس. و على (سفينة البحار) 1 710.

34) النحل، الآية: 111.

35) الرعد، الآية: 12.

36) صححنا الروايات الثلاث على (اصول الكافي) ج 2، باب الشكر، و على (الوافي) : 3
324 باب الشكر.

37) التوبة، الآية: 35.

38) الجاثية، الآية: 12.

/ 32