فصل - مستند الشیعه فی احکام الشریعه جلد 2

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

مستند الشیعه فی احکام الشریعه - جلد 2

احمد بن محمد مهدی النراقی؛ تحقیق: مؤسسة آل البیت (ع) لاحیاء التراث

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

فصل


(ما ينبغى للمؤمن عقد ظهور الآيات)


اذا ظهرت الآيات، من الكسوف و الخسوف و الزلازل و غيرها، ينبغي لكل مؤمن ان
يستحضر عندها اهوال الآخرة و زلازلها، و تكور الشمس و القمر، و ظلمة القيامة، و وجل
الخلائق، و خوفهم من الاخذ و النكال و العقوبة و الاستيصال، فيكثر في صلاتها من
الدعاء و الابتهال بمزيد الخضوع و الخشوع و الهيبة و الخوف، في النجاة من تلك
الشدائد ورد النور بعد الظلمة و المسامحة على الهفوة، و ينبغى ان يكون منكسر النفس،
مطرق الراس، مستحييا من التقصير، مستشعرا بقلبه عظمة الله و جلاله.

و بالجملة: حصول الخوف و الخشية، و المبادرة الى التضرع و الابتهال، و اداء
الصلاة بالاقبال و الخشوع عند ظهور الآيات، من شعار اهل الايمان. قال سيد الساجدين
(ع) : «لا يفزع للآيتين و لا يرهب الا من كان من شيعتنا، فان كان ذلك منهما،
فافزعوا الى الله و راجعوه » . و قال الرضا (ع) : «انما جعلت للكسوف صلاة، لانه من
آيات الله تعالى، لا يدري الرحمة ظهرت ام لعذاب، فاحب النبي (ص) ان يفزع امته
الى خالقه و راحمه عند ذلك، ليصرف عنهم شرها، و يقيهم مكروهها، كما صرف عن قوم
يونس (ع) حين تضرعوا الى الله تعالى » .

المقصد الثالث


الذكر-فضيلة الاذكار-الدعاء اعلم انه ينبغى لكل مؤمن ان يكثر من الذكر و الدعاء،
لا سيما عقيب الصلاة المفروضة. و قد ورد في فضائلهما من الآيات و الاخبار ما لا
يمكن احصاؤه، و لاشتهارها لا حاجة الى ذكرها هنا.

فصل


(الذكر)


اما الذكر، فالنافع منه هو الذكر على الدوام، او في اكثر الاوقات، مع حضور
القلب، و فراغ البال، و التوجه الكلي الى الخالق المتعال، حتى يتمكن المذكور
في القلب، و تتجلى عظمته الباهرة عليه، و ينشرح الصدر بشروق نوره عليه، و هو غاية
ثمرة العبادات. و للذكر اول و آخر، فاوله يوجب الانس و الحب، و آخره يوجبه
الانس و الحب.

و المطلوب منه ذلك الحب و الانس. فان العبد في بداءة الامر يكون متكلفا بصرف
قلبه و لسانه عن الوسواس و الفضول الى ذكر الله، فان وفق للمداومة انس به و
انغرس في قلبه حب المذكور. و من احب شيئا اكثر ذكره، و من اكثر ذكر شى ء، و ان
كان تكلفا، احبه. و من هنا قال بعضهم: «كاءدت القرآن عشرين سنة، ثم تنعمت به عشرين سنة »
. و لا تصدر النعم الا من الانس و الحب، و لا يصدر الانس و الحب الا من المداومة على
المكاءدة و التكلف مدة طويلة، حتى يصير التكلف طبعا.

و كيف يستبعد هذا و قد يتكلف الانسان تناول طعام يستبشعه اولا، و يكائد اكله، و
يواظب عليه، فيصير موافقا للطبعه حتى لا يصبر عنه؟ فالنفس تصير معتادة متحملة
لما تكلفت: «هى النفس ما عودتها تتعود» .

ثم اذا حصل الانس بذكر الله انقطع عن غير الله، و ما سوى الله يفارقه عند الموت، و
لا يبقى الا ذكر الله، فان كان قد انس به تمتع به و تلذذ بانقطاع العوائق الصارفة
عنه، اذ ضرورات الحاجات في الحياة تصد عن ذكر الله، و لا يبقى بعد الموت عائق،
فكانه خلى بينه و بين محبوبه، فعظمت غبطته، و تخلص من السجن الذي كان ممنوعا
فيه عما به انسه، و هذا الانس يتلذذ به العبد بعد موته الى ان ينزل في جوار الله،
و يترقى من الذكر الى اللقاء، قال الصادق (ع) : «من كان ذاكرا لله على الحقيقة فهو
مطيع، و من كان غافلا عنه فهو عاص، و الطاعة علامة الهداية، و المعصية علامة الضلالة،
و اصلهما من الذكر و الغفلة، فاجعل قلبك قبلة للسانك، و لا تحركه الا باشارة القلب،
و موافقة العقل، و رضا الايمان، فان الله تعالى عالم بسرك و جهرك، و كن كالنازع
روحه، او كالواقف في العرض الاكبر، غير شاغل نفسك عما عناك مما كلفك به ربك في
امره و نهيه و وعده و وعيده، و لا تشغلها بدون ما كلفك به ربك، و اغسل قلبك بماء الحزن،
و اجعل ذكر الله تعالى من اجل ذكره تعالى اياك، فانه ذكرك و هو غني عنك، فذكره لك
اجل و اشهى و اثنى و اتم من ذكرك له و اسبق، و معرفتك بذكره لك تورثك الخشوع و
الاستحياء و الانكسار، و يتولد من ذلك رؤية كرمه و فضله السابق، و تصغر عند ذلك
طاعتك و ان كثرت في جنب منته، و تخلص لوجهه، و رؤيتك ذكرك له، يورثك الرياء و
العجب و السفه و الغلظة في خلقه، و استكثار الطاعة و نسيان فضله و كرمه، و لا
تزداد بذلك من الله تعالى الا بعدا، و لا تستجلب به على مضي الايام الا وحشة. و
الذكر ذكران: ذكر خالص بموافقة القلب، و ذكر صارف لك ينفى ذكر غيره، كما قال
رسول الله (ص) : (انا لا احصى ثناء عليك، انت كما اثنيت على نفسك) . فرسول الله (ص)
لم يجعل لذكره الله عز و جل مقدارا عند علمه بحقيقة سابقة ذكر الله عز و جل من قبل ذكره،
و من دونه اولى، فمن اراد ان يذكر الله تعالى، فليعلم انه ما لم يذكر الله
العبد بالتوفيق لذكره، لا يقدر العبد على ذكره » (1) .

تتميم


(فضيلة الاذكار)


الاذكار كثيرة، كالتهليل، و التسبيح، و التحميد، و التكبير، و الحوقلة، و
التسبيحات الاربع، و اسماء الله الحسنى، و غير ذلك. و قد وردت فى فضيلة كل منها
اخبار كثيرة، و المواظبة على كل منها توجب صفاء النفس و انشراح الصدر، و كلما
كانت ادل على غاية العظمة و الجلال و العزة و الكمال، فهي افضل. و لذا صرحوا بان
افضل الاذكار التهليل، لدلالته على توحده في الالوهية، و استناد الكل اليه. و
ربما كان بعض اسماء الله تعالى في مرتبته ادل، و العارف السالك الى الله يعلم:
انه قد ينبعث في القلب من عظمة الله و جلاله و شدة كبريائه و كماله ما لا يمكن
التعبير عنه باسم.

فصل


(الدعاء)


و اما الدعاء، فهو مخ العبادة، و لذا ورد في فضله ما ورد من الآيات و الاخبار،
و لا حاجة الى ذكرها لاشتهارها. و الادعية الماثورة كثيرة مذكورة في كتب
الدعوات، و لا يتصور مطلب من مطالب الدنيا و الآخرة الا و قد وردت به ادعية، فمن
اراد شيئا منها فلياخذ من مواضعها.

و مما ينبغي لكل داع، ان يراعى شرائط و آدابا في الدعاء، حتى يستجاب له، و يصل
الى فائدته، و تحصل لنفسه نورانية، و هي ان يترصد لدعائه الاوقات الشريفة، و الاحوال
الشريفة، و الاماكن المتبركة المشرفة، و ان يدعو متطهرا، مستقبل القبلة، رافعا
يديه بحيث يرى باطن ابطيه، و ان يخفض صوته بين الجهر و الاخفات، و لا يتكلف
السجع في الدعائه، و يكون في غاية التضرع و الخشوع و الرهبة، و ان يجزم و يتيقن
اجابة دعائه، و يصدق رجاءه فيه، و ان يلح في الدعاء، و يكرره ثلاثا، و يفتح الدعاء
بذكر الله و تمجيده، و لا يبتدي ء بالسؤال، و ان يتوب، و يرد مظالم العباد، و يقبل
على الله بكنه الهمة، و هو السبب القريب للاجابة، و ان يكون مطعمه و ملبسه من
الحلال، و هو ايضا من عمدة الشرائط، و ان يسمى حاجته، و يعم في الدعاء، و يبكي عنده،
و هو ايضا سيد الآداب، و ان يتقدم في الدعاء قبل الحاجة اليه، و الا يعتمد في
حوائجه على غير الله تعالى، قال الصادق (ع) : «احفظ ادب الدعاء، و انظر من تدعو، و
كيف تدعو، و لماذا تدعو، و حقق عظمة الله و كبرياءه، و عاين بقلبك علمه بما في ضميرك،
و اطلاعه على سرك و ما تكن فيه من الحق و الباطل، و اعرف طرق نجاتك و هلاكك،
كيلا تدعو الله بشي ء عسى فيه هلاكك و انت تظن ان فيه نجاتك، قال الله تعالى:

«و يدعو الانسان بالشر دعاءه بالخير و كان الانسان عجولا» (2) .

و تفكر ما ذا تسال، و لماذا تسال. و الدعاء استجابة الكل منك للحق، و تذويب
المهجة في مشاهدة الرب، و ترك الاختيار جميعا، و تسليم الامور كلها-ظاهرها و
باطنها-الى الله تعالى، فان لم تات بشرط الدعاء فلا تنتظر الاجابة، فانه يعلم
السر و اخفى، فلعلك تدعوه بشي ء قد علم من سرك خلاف ذلك. و اعلم انه لو لم يكن الله
امرنا بالدعاء، لكنا اذا اخلصنا الدعاء تفضل علينا بالاجابة، فكيف و قد ضمن ذلك
لمن اتى بشرائط الدعاء، و سئل رسول الله (ص) عن اسم الله الاعظم، فقال: (كل اسم من
اسماء الله اعظم) . ففرغ قلبك عن كل ما سواه، و ادعه باى اسم شئت، فليس في الحقيقة
لله اسم دون، بل هو الله الواحد القهار. و قال النبي (ص) :

(ان الله لا يستجيب دعاء من قلب لاه) . فاذا اتيت بما ذكرت لك من شرائط الدعاء،
و اخصلت سرك لوجهه، فابشر باحدى ثلاث: اما ان يعجل لك بما سالت، و اما ان يدخر
لك بما هو افضل منه، و اما ان يصرف عنك من البلاء ما لو ارسله عليك لهلكت » (3) . و
سئل من الصادق (ع) :

ما لنا ندعوا و لا يستجيب لنا؟ فقال: «لانكم تدعون من لا تعرفونه، و تسالون من
لا تفهمونه، فالاضطرار عين الدين، و كثرة الدعاء مع العمى عن الله من علامة
الخذلان، لان من لم يعرف ذلة نفسه و قلبه و سره تحت قدرة الله، حكم على الله بالسؤال،
و ظن ان سؤاله دعاء، و الحكم على الله من الجراة على الله تعالى » .

المقصد الرابع


(تلاوة القرآن)


اعلم انه لاحد لثواب تلاوة القرآن، و الاخبار الواردة في عظم اجره و وفور
ثوابه لا تحصى كثرة، و كيف لا يعظم اجره و هو كلام الله، حامله روح الامين الى
سيد المرسلين، فتامل ان الكلام الصادر من الله بلا واسطة، اذا كان من حيث
اللفظ معجزة لغاية فصاحته، و من حيث المعنى متضمنا لاصول حقائق المعارف و
المواعظ و الاحكام، و مخبرا عن دقائق صنع الله، و عن مغيبات الاحوال و القصص
الواقعة فى سوالف القرون و الاعوام، كيف يكون تاثيره للقلوب و تصفيته للنفوس؟ .
و بالجملة: العقل و النقل و التجربة شواهد متظاهرة على عظم ثواب تلاوة القرآن، و
الاخبار الواردة فيه مشهورة، فلا حاجة الى ذكرها، فلنشر الى بعض ما يتعلق
بالتلاوة من الآداب الظاهرة و الباطنة:

اما الآداب الظاهرة، فالوضوء، و الوقوف على هيئة الادب، و الطمانينة، اما قائما
او جالسا، مستقبل القبلة، مطرقا راسه، غير متربع و لا متكي ء، و الترتيل و البكاء، و
الجهر المتوسط لو امن من الرياء، و الا فالسر افضل، و تحسين القراءة و
تنزيهها، و مراعاة حق الآيات، فاذا مر بآية السجود سجد، و اذا مر بآية العذاب
استعاذ منه بالله، و اذا مر بآية الرحمة و نعيم الجنة سال الله تعالى ان يرزقه، و
اذا مر بآية تسبيح او تكبير سبح و كبر، و اذا مر بآية دعاء او استغفار دعا و
استغفر، و افتتاح القراءة بقوله: (اعوذ بالله السميع العليم من الشيطان
الرجيم) ، و ان يقول عند الفراغ من كل سورة: (صدق الله العلي العظيم و بلغ رسوله
الكريم، اللهم انفعنا به و بارك لنا فيه، و الحمد لله رب العالمين) .

و اما الآداب و الاعمال الباطنة:

فمنها-فهم عظمة الكلام و علوه، و فضل الله تعالى و لطفه بخلقه في نزوله عن عرش
جلاله الى درجة افهام خلقه: فلينظر كيف لطف بخلقه في ايصال معاني كلامه الذي هو
صفة قائمة بذاته الى افهام خلقه، و كيف تجلت لهم تلك الصفة في طي حروف و اصوات
هي صفات البشر، اذ يعجز البشر عن الوصول الى فهم صفات الله الا بوسيلة صفات
نفسه، و لو لا استتار كنه جمال كلامه بكسوة الحروف، لما ثبت سماعه عرش و لا ثرى،
و لا شي ء ما بينهما، من عظمة سلطانه و سبحات نوره، و لو لا تثبيت الله موسى (ع) لما
اطاق سماع كلامه، كما لم يطق الجبل مبادي تجليه حيث صار دكا و لا يمكن تفهيم
عظمة الكلام الا بامثلة على حد فهم الخلق، و لهذا عبر عنه بعض العارفين، فقال: «ان
كل حرف من كلام الله في اللوح اعظم من جبل قاف، و ان الملائكة لو اجتمعت على
الحرف الواحد ان ينقلوه ما اطاقوه، حتى ياتى اسرافيل، و هو ملك اللوح، فيرفعه.
فنقله باذن الله و رحمته، لا بقوته و طاقته » . و ايصال معاني الكلام مع علو درجته
الى فهم الانسان مع قصور رتبته، تشابه من درجة تصويت الانسان البهائم و
الطيور. فان الانسان لما اراد تفهيم بعض الدواب و الطيور ما يريد من
اقبالها و ادبارها و تقديمها و تاخيرها، و كان تمييزها قاصرا عن فهم كلامه
الصادر عن عقله مع حسنه و ترتيبه و بديع نظمه، فينزل الى درجة تمييز البهائم، و
يوصل مقاصده اليها باصوات لائقة بها، من النفير و الصغير و الاصوات القريبة من
اصواتها، يطيقون حملها. و كذلك الناس، لما كانوا عاجزين عن حمل كلام الله
بكنهه و كمال صفاته، فتنزل من عرش العظمة و الجلال الى درجة افهامهم، فتجلى في
مظاهر الاصوات و الحروف، و قد يشرف الصوت لاجل الحكمة المحبوة فيه. فكما ان بدن
البشر يكرم و يعزز لمكان الروح، فكذلك اصوات الكلام تشرف للحكمة التي فيها. و
الكلام عالى المنزلة، رفيع الدرجة، قاهر السلطان، نافذ الحكم في الحق و الباطل، و
هو القاضي العادل، يامر و ينهى، و لا طاقة للباطل ان يقوم قدام كلام الحكمة كما لا
يستطيع الظل ان يقوم قدام شعاع الشمس، و لا طاقة للناس ان ينفذوا غور الحكمة، كما لا
طاقة لهم ان ينفذوا بابصارهم ضوء عين الشمس، و لكنهم ينالون منها ما تقدر به
ابصارهم و يستدلون به على حوائجهم. فالكلام كالملك المحجوب، الغائب وجهه،
المشاهد امره، فهو مفتاح الخزائن النفيسة، و شراب الحياة الذي من شرب منه لم يمت،
و دواء الاسقام الذي من سقى منه لم يسقم.

و منها-تعظيم المتكلم: فينبغي للقارى ء عند الابتداء بالتلاوة، ان يحضر في قلبه عظمة
المتكلم، و يعلم انه ليس من كلام البشر، بل هو كلام خالق الشمس و القمر، و في
تلاوة كلامه غاية الخطر، اذ كما لا ينبغي ان تمس جلده و ورقه و حروفه البشرة
المستقذرة بخبث او حدث، فكذلك لا ينبغي ان تقرؤه الالسنة المستخبثة بقبائح
الكلمات، و الا تحوم حول معناه القلوب المكدرة برذائل الاخلاق و الصفات، فكما انه
لا يصلح لمس ظاهر خطه كل يد، بل هو محروس عن ظاهر بشرة اللامس، الا اذا كان متطهرا،
فكذلك لا يصلح لتلاوة حروفه كل لسان، و لا لنيل معانيه كل قلب، بل باطن معناه لعلوه و
جلاله محجوب عن باطن القلوب، الا اذا كانت منقطعة عن كل رجس، مستنيرة بنور
التعظيم و التوقير. و بالجملة: ينبغي الا يترك عند التلاوة تعظيم المتكلم له،
ليتحقق تعظيم الكلام ايضا، اذ تعظيم الكلام بتعظيم المتكلم، و لو لم تحضره عظمة
المتكلم لغفلة قلبه، فليرجع الى التفكر في صفاته و افعاله، و يستحضر ان المتكلم
هو الذي اوجد و اظهر بمجرد ارادته كل ما يشاهده و يسمعه، من العرش و الكرسى و
السماوات و الارضين، و ما فيها و ما تحتها و ما فوقها، و انه الخالق و
الرازق للجميع، و الكل في قبضة قدرته مسخر اسير، و مردد بين فضله و رحمته، و بين
نقمته و سطوته، و جميع ذلك لا نسبة له الى عوالم المجردات. فالتفكر في امثال
ذلك يوجب استشعار القلب لعظمة المتكلم و الكلام. و لمثل هذا التعظيم كان بعضهم
اذا نشر المصحف للتلاوة غشى عليه، و يقول: (هو كلام ربى، هو كلام ربي! ) .

و منها-الخضوع و الرقة: قال الصادق (ع) : «من قرا القرآن، و لم يخضع و لم يرق قلبه، و لا
ينشي ء حزنا و وجلا في سره، فقد استهان عظيم شان الله تعالى، و خسر خسرانا مبينا.
فقاري ء القرآن محتاج الى ثلاثة اشياء: قلب خاشع، و بدن فارغ، و موضع خال. فاذا خشع
لله قلبه فر منه الشيطان الرجيم، قال الله تعالى:

«فاذا قرات القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم » (4) .

فاذا تفرغ نفسه من الاسباب، تجرد قلبه للقراءة، فلا يعرضه عارض فيحرمه بركة نور
القرآن و فوائده. فاذا اتخذ مجلسا خاليا، و اعتزل عن الخلق بعد ان اتى
بالخصلتين: خضوع القلب و فراغ البدن، استانس روحه و سره بالله عز و جل، و وجد حلاوة
مخاطبات الله عز و جل عباده الصالحين، و علم لطفه بهم و مقام اختصاصه لهم،
بفنون كراماته، و بدائع اشاراته، فان شرب كاسا من هذا المشرب حينئذ، لا يختار
على ذلك الحال حالا، و لا على ذلك الوقت وقتا، بل يؤثره على كل طاعة و عبادة، لان
فيه المناجاة مع الرب بلا واسطة، فانظر كيف تقرا كتاب ربك و منشور ولايتك، و
كيف تجيب اوامره و نواهيه، و كيف تمتثل حدوده:

«و انه لكتاب عزيز، لا ياتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد» (5) .

فرتله ترتيلا، وقف عند وعده و وعيده، و تفكر في امثاله و مواعظه، و احذر ان تقع من
اقامتك حروفه في اضاعة حدوده » (6) .

و منها-حضور القلب، و ترك حديث النفس: و هو يترتب على التعظيم، فان من يعظم شيئا،
كلاما كان او غيره، يستبشر و يستانس به، و لا يغفل عنه. و لا ريب في ان القرآن يشتمل
على ما يستانس به القلب و تفرح به النفس، ان كان التالي اهلا له.

و منها-التدبر: و هو زائد على حضور القلب، اذ التالي ربما لم يتفكر في غير القرآن،
و لكنه اقتصر على سماعه من نفسه، من دون تدبر فيه. و المقصود من تلاوة القرآن
التدبر فيه في الباطن، قال الله سبحانه:

«افلا يتدبرون القرآن ام على قلوب اقفالها» (7) .

و قال امير المؤمنين (ع) : «لا خير في عبادة لا فقه فيها، و لا في قراءة لا تدبر
فيها» . و اذا لم يتمكن من التدبر الا بالترديد فليردد. و لذلك كان الاكابر
كثيرا ما يكررون بعض الآيات مرات كثيرة للتدبر فيها، و ربما يقفون عند آية مدة
مديدة، و قال بعضهم: «لي في كل جمعة ختمة، و في كل شهر ختمة، و في كل سنة ختمة، ولي ختمة منذ
ثلاثين ما فرغت منها بعد! » ، و ذلك بحسب درجات تدبره و تفتيشه.

و منها-التفهم: و هو ان يستوضح من كل آية ما يليق بها. اذ القرآن يشتمل على ذكر
صفاته تعالى، و ذكر افعاله، و ذكر الجنة و النار، و احوال النشاة الآخرة، و ذكر
احوال انبيائه، و احوال المكذبين، و انهم كيف اهلكوا، و ذكر احكامه و اوامره
و نواهيه و غير ذلك. فان مر بآيات صفاته تعالى، كقوله:

«ليس كمثله شي ء و هو السميع البصير» (8) .

و كقوله تعالى: «الملك القدوس السلام. . . » الى آخر الآية (9) ، و غير ذلك.

فليتامل في معاني هذه الاسماء و الصفات، لتنكشف له اسرارها المكنونة تحتها، و لا
تنكشف هذه الاسرار الا للمؤيدين في فهم كتاب الله. قال امير المؤمنين (ع) : «ما
اسر الي رسول الله (ص) شيئا كتمه عن الناس، الا ان يؤتى الله عز و جل عبدا فهما في
كتابه » . و ان مر بآيات الافعال، اي الآيات الحاكية عن خلقه السماوات و الارض،
و ما فيهما من الملائكة و الكواكب و الجبال و الحيوان و النبات، و ما بينهما
من السحب و الغيوم و الرياح و الامطار و غير ذلك، فليفهم التالي منها عظمة
الله و جلاله. اذ الفعل يدل على الفاعل، فعظمته تدل على عظمته. و ينبغي ان يشهد في
الفعل الفاعل دون الفعل، اذ من عرف الحق رآه في كل شى ء، اذ كل شي ء منه و به و اليه و
له، فهو الكل في وحده، و من لا يراه في كل ما يراه فكانه ما عرفه، و من عرفه عرف
ان كل شي ء ما خلا الله باطل، و ان كل شي ء هالك الا وجهه، و ان اعتبر من حيث هو، اذ
مع قطع النظر عن الواجب و ايجاده، لا ذات و لا وجود، بل محض العدم و عدم المحض.
فذات كل شي ء و وجوده و ثباته و بقاؤه بالله العلي العظيم. فاذا قرا التالي آية
تدل على شي ء من عجائب صنعه و غرائب فعله، فليتامل في تلك العجائب، ثم يترقى منها
الى اعجب العجائب، و هي الصفة التي صدرت منها هذه الاعاجيب. و اذا سمع وصف
الجنة و النار و سائر احوال الآخرة، فليتذكر ان ما في هذا العالم من النعم و
النقم لا نسبة له الى ما في عالم الآخرة، فلينتقل من ذلك الى عظمة الله تعالى، و
ينقطع اليه باطنا، ليخلصه من عقوبات تلك النشاة، و يوصله الى نعيمها و لذاتها. و
اذا سمع احوال الانبياء-عليهم السلام-، من تكذيبهم و ضربهم و قتلهم، فليفهم منه
صفة الاستغناء لله تعالى من الرسل و المرسل اليهم، و انه لو اهلك جميعهم لا يؤثر في
ملكه، و اذا سمع نصرتهم في الامر، فليفهم قدرة الله و ارادته لنصرة الحق، و اما
احوال المكذبين، و ما جرى عليهم من العقوبات و ضروب النكال، فليستشعر الخوف من
سطوته و نقمته، و يعتبر في نفسه، و يعلم انه غفل و اساء الادب، و اغتر بما امهل،
فربما تدركه النقمة. و كذلك اذا سمع الوعد و الوعيد و الامر و التهديد. فلا يمكن
استقصاء ما يفهم من القرآن، لانه لا نهاية له، اذ (لا رطب و لا يابس الا في كتاب
مبين) .

«قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفدالبحر قبل ان تنفد كلمات ربي » (10) .

و لكل عبد منه بقدر استعداده و مقدار فهمه و صفاء نفسه.

و منها-التخلي عن موانع الفهم: و هى التقليد و التعصب لمذهب، فان ذلك بمنزلة
حجاب لمرآة النفس يمنعها عن انعكاس غير معتقدها فيها، و الجمود على تفسير ظاهر،
ظانا ان غيره تفسير بالراي لا يجوز ارتكابه، و صرف الهمة و الفهم الى تحقيق
الحروف و ما يتعلق بها من الامور المتداولة بين القراء، فان قصر التامل على
ذلك مانع من انكشاف المعاني، و الاصرار على الذنوب الظاهرة و الباطنة، و متابعة
الشهوات المظلمة للقلب الموجبة للحرمان عن انكشاف الاسرار و الحقائق فيه، و
اشراق المعارف الحقة عليه. قال رسول الله-صلى الله عليه و آله-: «اذا عظمت امتي
الدينار و الدرهم، تنزع منها هيبة الاسلام، و اذا تركوا الامر بالمعروف حرموا
بركة الوحى » . و قد شرط الله تعالى الانابة في الفهم و التذكر، قال الله تعالى:

«تبصرة و ذكرى لكل عبد منيب » (11) . و قال تعالى: «و ما يتذكر الا من ينيب » (12) . و قال
تعالى:

«انما يتذكر اولو الالباب » (13) .

و منها-التخصيص: و هو ان يقدر انه المقصود بكل خطاب في القرآن، من الامر و النهى و
الوعد و الوعيد، حتى انه لو سمع قصص الاولين، يجزم بان المقصود الاعتبار دون
مجرد الحكاية و التشمر. فما من قصة في القرآن الا و سياقها الفائدة في حق النبى و
امته، و لذلك قال سبحانه:

«ما نثبت به فؤادك » (14)

فان القرآن جميعه هدى و شفاء و رحمة، و نور و موعظة و بصائر للعالمين. فكل احد اذا
قراه ينبغي ان تكون قراءته كقراءة العبد كتاب مولاه الذي كتب اليه ليتامله و يعمل
بمقتضاه. قال بعض الاكابر: «هذا القرآن رسائل اتتنا من قبل ربنا عز و جل بعهوده،
فتتدبرها في الصلوات، و نقف عليها في الخلوات، و ننفذها فى الطاعات بالسنن
المتبعات » .

و منها-التاثر: و هو ان يتاثر قلبه بآثار مختلفة بحسب اختلاف الآيات، فيكون
له بحسب كل فهم حال: من الخوف، و الحزن، و الوجل، و الوجد، و الفرح، و الارتياح، و
الرجاء، و القبض، و الانبساط. فاذا سمع الوعيد، فليضطرب قلبه، و يتضاءل من
الخوف كانه يموت، و ان سمع و سعة الرحمة و وعد المغفرة، فليفرح و يستبشر كانه
يطير من الابتهاج، و اذا سمع وصف الجنة، فلينبعث باطنه شوقا اليها، و اذا سمع
وصف النار، فلترتعد فرائصه خوفا منها، و اذا سمع صفات الله و اسماءه و نعوت
جلاله، فليتطاطا خضوعا لجلاله و استشعارا لعظمته و كبريائه، و اذا سمع ذكر
الكفار ما يستحل على الله من اتخاذ الولد و امثاله، فليغض صوته و ينكسر في
باطنه حياء من قبح مقالتهم. . . و قس على ذلك غيره من الآيات المختلفة.

و مهمات تمت المعرفة، كانت الخشية اغلب الاحوال على القلب، اذا التضيق غالب
على آيات القرآن، اذ لا ترى ذكر المغفرة و الرحمة الا مقرونا بشروط يقصر
الاكثرون عن نيلها، و لذلك كان في الخائفين من يصير مغشيا عليه عند استماع آيات
الوعيد، و منهم من مات بمجرد استماعها. و بالجملة:

المقصود الاصلي من القرآن، استجلاب هذه الاحوال الى القلب و العمل به، و الا
فالمؤنة بتحريك اللسان بحروفه خفيفة. و حق تلاوة القرآن ان يشترك فيها اللسان و
العقل و القلب. فحظ اللسان تصحيح الحروف بالترتيل، و حظ العقل ادراك المعاني، و حظ
القلب الاتعاظ و التاثر بالحالات المذكورة. فاللسان واعظ القلب، و العقل
مترجم، و القلب متعظ.

و منها-الترقي: و هو ان يترقى الى ان يسمع الكلام من الله تعالى، لا من نفسه.
فدرجات القراءة ثلاث: الاولى: و هى ادناها، ان يقدر العبد انه يقرؤه على الله
تعالى واقفا بين يديه، و هو ناظر اليه و مستمع منه، فتكون حاله-على هذا
التقدير-التملق و السؤال و التضرع و الابتهال.

الثانية: ان يشهد بقلبه، كان ربه يخاطبه بالطافه، و يناجيه باحسانه و انعامه،
فمقامه الهيبة و الحياء و التعظيم و الاصغاء. الثالثة: ان يرى في الكلام
المتكلم، و في الكلمات الصفات، فلا ينظر الى نفسه و الى تلاوته، و لا الى تعلق
الانعام به من حيث انه منعم عليه، بل يكون مقصور الهم على التكلم، موقوف الفكر عليه،
كانه مستغرق بمشاهدة المتكلم من غيره.

و هذه درجة المقربين و الصديقين و ما قبله من درجات اصحاب اليمين، و ما خرج عن
ذلك فهو درجات الغافلين. و قد اخبر عن الدرجة العليا سيد الشهداء-ارواحنا
فداه-حيث قال (ع) : «الذي تجلى لعباده في كتابه، بل في كل شي ء، و اراهم نفسه في
خطابه، بل في كل نور» .

و اشار اليها الامام ابو عبد الله الصادق (ع) حيث قال: «و الله لقد تجلى الله عز
و جل لخلقه فى كلامه! و لكن لا يبصرون » . و روى: «انه لحقته حالة في الصلاة حتى خر
مغشيا عليه، فلما سرى عنه، قيل له في ذلك، فقال (ع) : ما زلت اردد الآية على قلبي، حتى
سمعتها من المتكلم بها، فلم يثبت جسمي لمعاينة قدرته » او في مثل هذه الدرجة تشتد
البهجة، و تعظم الحلاوة و اللذة. و لذلك قال بعض الحكماء: «كنت اقرا القرآن، فلا اجد
له حلاوة، حتى تلوته كاني اسمعه عن رسول الله (ص) يتلوه على اصحابه، ثم رفعت الى
مقام فوقه، فكنت اتلوه كاني اسمعه من جبرئيل يلقيه على رسول الله (ص) ، فعندها وجدت
لذة و نعيما لا اصبر عنه » . و قال حذيفة: «لو طهرت القلوب، لم تشبع من قراءة القرآن » . و
ذلك لانها بالطهارة تترقى الى مشاهدة المتكلم في الكلام، بل التوحيد الخالص
للعبد الا يرى في كل شي ء الا الله، اذ لو راى غيره و لا من حيث انه منه و له و به و
اليه، كان مشركا بالشرك الخفي.

و منها-التبري: و هو ان يتبرى من حوله و قوته، و لا يلتفت الى نفسه بعين الرضا و
التزكية. فاذا قرا آيات الوعد و مدح الاخيار، فلا يشهد نفسه و لا يدخلها في
زمرتهم، بل يشهد اهل الصدق و اليقين، و يتشوق الى ان يلحقه الله بهم. و اذا قرا
آيات المقت و الوعيد، و ذم العصاة و المقصرين، شهد نفسه هناك، و قدر انه المخاطب
خوفا و اشفاقا و الى هذا اشار مولانا امير المؤمنين (ع) ، حيث قال في صوف
المتقين:

«و اذا مروا بآية فيها تخويف، اصغوا اليها مسامع قلوبهم، و ظنوا ان زفير جهنم
في آذانهم » . فاذا راى القارى ء نفسه بصورة التقصير في القراءة، كانت رؤيته
سبب قربه. فان من شهد البعد في القرب، لطف له بالخوف، حتى يسوقه الى درجة اخرى
في القرب وراءها، و من شهد القرب في البعد، مكر به بالامن الذي يفضيه الى درجة
اخرى في البعد اسفل مما هو فيه. و مهما كان مشاهدا نفسه بعين الرضا، صار
محجوبا بنفسه. فاذا جاوز حد الالتفات الى نفسه، و لم يشاهد الا الله تعالى في
قراءته، كشف له سر الملكوت بحسب احواله، فحيث يتلو آيات الرحمة و الرجاء، يغلب
على حاله الاستبشار، و تنكشف له صورة الجنة، فيشاهدها كانه يراها عيانا، و ان
غلب عليه الخوف، كوشف بالنار، حتى يرى انواع عذابها، و ذلك لان كلام الله عز و
جل يشتمل على السهل اللطيف، و الشديد العسوف، و المرجو و المخوف، و ذلك بحسب
اوصافه، اذ منها الرحمة و اللطف.

و منها-القهر و البطش و الانتقام: فبحسب مشاهدة الكلمات و الصفات ينقلب القلب
في اختلاف الحالات، و بحسب كل حالة منها يستعد للمكاشفة بامر يناسب تلك الحالة،
اذ يمتنع ان يكون حال المستمع واحدا و المسموع مختلفا، اذ فيه كلام راض، و
كلام غضبان، و كلام منعم، و كلام منتقم، و كلام جبار متكبر لا يبالي، و كلام
منان متعطف لا يهمل.

المقصد الخامس


(الصوم)


اعلم ان الصوم اجره عظيم، و ثوابه جسيم، و ما يدل على فضله من الآيات و
الاخبار اكثر من ان يحصى، و هي معروفة مشهورة، فلا حاجة الى ذكرها، فلنشر الى ما
يتعلق به من الامور الباطنة:

فصل


(ما ينبغي للصائم)


ينبغي للصائم ان يغض بصره عن كل ما يحرم النظر اليه، او يكره، او يشغل القلب و
يلهيه عن ذكر الله تعالى، و يحفظ اللسان عن جميع آفاته المتقدمة، و يكف السمع عن
كل ما يحرم او يكره استماعه، و يكف بطنه عن الحرام و الشبهات، و يكف سائر
جوارحه عن المكاره. و قد ورد في اشتراط جميع ذلك في الصوم في ترتب كمال
الثواب عليه اخبار كثيرة. و ينبغي ايضا الا يستكثر من الحلال وقت الافطار
بحيث يمتلي ء، اذ ما من وعاء ابغض الى الله عز و جل من بطن ملى ء من حلال، كيف و
السر في شرع الصوم قهر عدو الله، و كسر الشهوة و الهوى، لتتقوى النفس على التقوى،
و ترتقى من حضيض حظوظ النفس البهيمية الى ذروة التشبيه بالملائكة الروحانية، و
كيف يحصل ذلك اذا تدارك الصائم عند الافطار ما فاته ضحوة نهاره، لا سيما اذا
زيد عليه في الوان الطعام، كما استمرت العادات في هذه الاعصار، و ربما يؤكل
من الاطعمة في شهر رمضان ما لا يؤكل فى عدة شهور. و لا ريب في ان المعدة اذا خليت
من ضحوة النهار الى العشاء، حتى هاجت شهوتها و قويت رغبتها، ثم اطعمت من
اللذات، و اشبعت من الوان المطاعم، و جمع ما كان ياكل ضحوة الى ما ياكل ليلا،
و اكل الجميع في الليل مرة او مرتين او اكثر، زادت لذتها، و تضاعفت قوتها، و
انبعث من الشهوات ما عساها كانت راكدة لو تركت على عادتها، فلا يحصل ما هو
المقصود من الصوم، اعني تضعيف القوى الشهوية التي هي وسائل الشيطان، فلا بد من
التقليل، و هو ان ياكل في مجموع الليلة اكلته التي كان ياكلها كل ليلة لو لم يصم،
من دون ضم مما ياكل في النهار اليه، حتى ينتفع بصومه. و الحاصل: ان روح الصوم و
سره، و الغرض الاصلي منه:

التخلق بخلق من اخلاق الله تعالى، اعني الصمدية، و الاقتداء بالملائكة في الكلف عن
الشهوات بقدر الامكان، و هذا انما يحصل بتقليل الاكل عما ياكله في غير وقت الصوم،
فلا جدوى لمجرد تاخير اكلة و جمع اكلتين عند العشاء، ثم لو جعل سر الصوم ما يظهر
من بعض الظواهر، من ادراك الاغنياء الم الجوع و الانتقال منه الى شدة حال
الفقراء، فيبعثهم ذلك على مواساتهم بالاموال و الاقوات، فهو ايضا لا يتم بدون
التقليل في الاكل.

فصل


(ما ينبغي للصائم عند الافطار)


ينبغي لكل صائم ان يكون قلبه بعد الافطار مضطربا، معلقا بين الخوف و الرجاء، اذ
ليس يدري ايقبل صومه فهو من المقربين او يرد عليه فهو من الممقوتين، و ليكن
الحال كذلك فى آخر كل عبادة يفرغ منها.

روى: «ان الامام ابا محمد الحسن المجتبى (ع) مر بقوم يوم العيد و هم يضحكون،
فقال (ع) : ان الله تعالى جعل شهر رمضان مضمارا لخلقه، يستبقون فيه لطاعته،
فسبق اقوام ففازوا، و تخلف اقوام فخابوا، فالعجب كل العجب للضاحك اللاعب
في اليوم الذي فاز فيه المسارعون، و خاب فيه المبطلون، اما و الله لو كشف
الغطاء لاشتغل المحسن باحسانه، و المسي ء عن اساءته! » ، اي كان سرور المقبول
يشغله عن اللعب، و حسرة المردود تسد عليه باب الضحك.

فصل


(درجات الصوم)


للصوم ثلاث درجات:

الاولى-صوم العموم: و هو كف البطن و الفرج عن قضاء الشهوة، و هذا لا يفيد ازيد
من سقوط القضاء و الاستخلاص من العذاب.

الثانية-صوم الخصوص: و هو الكف المذكور، مع كف البصر و السمع و اللسان و اليد
و الرجل و سائر الجوارح عن المعاصي، و على هذا الصوم تترتب المثوبات
الموعودة من صاحب الشرع.

الثالثة-صوم خصوص الخصوص: و هو الكفان المذكوران، مع صوم القلب عن الهمم
الدنية، و الاخلاق الردية، و الافكار الدنيوية، و كفه عما سواه بالكلية، و يحصل افطر
في هذا الصوم بالفكر في ما سوى الله و اليوم الآخر، و حاصل هذا الصوم اقبال
بكنه الهمة على الله، و انصراف عن غير الله، و تلبس بمعنى قوله تعالى: «قل الله ثم
ذرهم » ، و هذا درجة الانبياء و الصديقين و المقربين، و يترتب عليه الوصول الى
المشاهدة و اللقاء، و الفوز بما لا عين رات، و لا اذن سمعت، و لا خطر على قلب احد. و
الى هذا الصوم اشار مولانا الصادق (ع) حيث قال:

«قال النبي (ص) : الصوم جنة، اي ستر من آفات الدنيا و حجاب من عذاب الآخرة،
فاذا صمت فانو بصومك كف النفس عن الشهوات، و قطع الهمة عن خطرات الشياطين،
و انزل نفسك منزلة المرضى، و لا تشتهي طعاما و لا شرابا، و توقع في كل لحظة شفاءك من مرض
الذنوب، و طهر باطنك من كل كدر و غفلة و ظلمة يقطعك عن معنى الاخلاص لوجه الله. قال
رسول الله (ص) : قال الله تعالى: الصوم لي و انا اجزى به.

و الصوم يميت مراد النفس و شهوة الطبع، و فيه صفاء القلب، و طهارة الجوارح، و
عمارة الظاهر و الباطن، و الشكر على النعم و الاحسان الى الفقراء، و زيادة
التضرع و الخشوع و البكاء، و حبل الالتجاء الى الله، و سبب انكسار الهمة، و تخفيف
الحساب، و تضعيف الحسنات، و فيه من الفوائد ما لا يحصى و لا يعد، و كفى بما
ذكرنا لمن عقله و وفق لاستعماله » (15) .

تتميم


من صام شهر رمضان اخلاصا لله و تقربا اليه، و طهر باطنه من ذمائم الاخلاق، و
كف ظاهره عن المعاصي و الآثام، و اجتنب عن الحرام، و لم ياكل الا الحلال، و لم
يفرط في الاكل، و واظب على جملة من النوافل و الادعية و سائر الآداب المسنونة فيه،
استحق للمغفرة و الخلاص عن عذاب الآخرة، بمقتضى الاخبار المتواترة. ثم ان كان
من العوام، حصل له من صفاء النفس ما يوجب استجابة دعوته، و ان كان من اهل
المعرفة، فعسى الشيطان لا يحوم على قلبه، فينكشف له شي ء من الملكوت، لا سيما في ليلة
القدر، اذ هي الليلة التى تنكشف فيها الاسرار، و تفيض على القلوب الطاهرة
الانوار، و المناط و العمدة في نيل ذلك تقليل الاكل بحيث يحس الم الجوع، اذ من جعل
بين قلبه و بين صدره مخلاة من الطعام فهو محجوب عن عوالم الانوار، و يستحيل
ان ينكشف له شي ء من الاسرار.

المقصد السادس


(الحج)


اعلم ان الحج اعظم اركان الدين، و عمدة ما يقرب العبد الى رب العالمين، و هو
اهم التكاليف الالهية و اثقلها، و اصعب العبادات البدنية و افضلها، و اعظم
بعبادة ينعدم بفقدها الدين، و يساوى تاركها اليهود و النصارى في الخسران
المبين. و الاخبار التي وردت في فضيلته و في ذم تاركه كثيرة مذكورة في
كتب الاخبار، و الاحكام و الشرائط الظاهرة له على عهدة الفقهاء، فلنشر الى
الاسرار الخفية، و الاعمال الدقيقة، و الآداب الباطنة، التي يبحث عنها ارباب القلوب:

فصل


(الغرض من ايجاد الانسان)


اعلم ان الغرض الاصلي من ايجاد الانسان معرفة الله و الوصول الى حبه و الانس
به، و الوصول اليه بالحب و الانس يتوقف على صفاء النفس و تجردها. فكلما صارت
النفس اصفى و اشد تجردا، كان انسها و حبها بالله اشد و اكثر. و صفاء النفس و
تجردها موقوف على التنزه عن الشهوات، و الكف عن اللذات، و الانقطاع عن
الحطام الدنيوية، و تحريك الجوارح و ايقاعها لاجله في الاعمال الشاقة، و
التجرد لذكره و توجيه القلب اليه. و لذلك شرعت العبادات المشتملة على هذه
الامور، اذ بعضها انفاق المال و بذله، الموجب للانقطاع عن الحطام الدنية،
كالزكاة و الخمس و الصدقات، و بعضها الكف عن الشهوات و اللذات، كالصوم، و
بعضها التجرد لذكر الله و توجيه القلب اليه، و ارتكاب تحريك الاعضاء و تعبها،
كالصلاة، و الحج من بينها مشتمل على جميع هذه الامور مع الزيادة، اذ فيه هجران
اوطان، و اتعاب ابدان، و انفاق اموال، و انقطاع آمال، و تحمل مشاق، و تجديد
ميثاق، و حضور مشاعر، و شهود شعائر، و يتحقق في اعماله التجرد لذكر الله، و
الاقبال عليه بضروب الطاعات و العبادات، مع كون اعماله امورا لا تانس بها
النفوس، و لا تهتدي الى معانيها العقول، كرمى الجمار بالاحجار، و التردد بين
الصفا و المروة على سبيل التكرار، اذ بمثل هذه الاعمال يظهر كمال الرق و
العبودية، فان سائر العبادات اعمال و افعال يظهر وجهها للعقل، فللنفس اليها ميل،
و للطبع بها انس.

و اما بعض اعمال الحج، كرمى الجمار و ترددات السعى، فلا حظ للنفس و لا انس
للطبع فيها، و لا اهتداء للعقل الى معانيها، فلا يكون الاقدام عليها الا لمجرد
الامر و قصد الامتثال له من حيث انه امر واجب الاتباع، ففيها عزل العقل عن
تصرفه، و صرف النفس و الطبع عن محل انسه، فان كل ما ادرك العقل معناه مال الطبع
اليه ميلا ما، فيكون ذلك الميل معينا للامتثال، فلا يظهر به كمال الرق و
الانقياد، و لذلك قال النبي (ص) في الحج على الخصوص: «لبيك بحجة حقا و تعبدا ورقا! » ،
و لم يقل ذلك في غيره من العبادات. فمثل هذه العبادة-اي ما لم يهتد العقل الى
معناه و وجهه-ابلغ انواع العبادات في تزكية النفوس و صرفها عن مقتضى الطبع و
البغي الى الاسترقاق، فتعجب بعض الناس من هذه الافعال العجيبة مصدره الجهل
باسرار التعبدات، و هذا هو السر في وضع الحج، مع دلالة كل عمل من اعماله على بعض
احوال الآخرة، او في بعض اسرار اخر-كما ياتي-ما فيه من اجتماع اهل العالم في
موضع تكرر فيه نزول الوحي، و هبوط جبرئيل و غيره من الملائكة المقربين على رسوله
المكرم، و من قبله على خليله المعظم-عليهما افضل الصلاة-، بل لا يزال مرجعا و منزلا
لجميع الانبياء، من آدم الى خاتم، و مهبطا للوحى، و محلا لنزول طوائف الملائكة.
و قد تولد فيه سيد الرسل (ص) و توطات اكثر مواضعه قدمه الشريفة و اقدام سائر
الانبياء، و لذلك سمى ب (البيت العتيق) ، و قد شرفه الله تعالى بالاضافة الى
نفسه، و نصبه مقصدا لعباده، و جعل ما حواليه حرما لبيته، و تفخيما لامره، و جعل
عرفات كالميدان على فناء حرمه، و اكد حرمة الموضع بتحريم صيده و قطع شجره، و وضعه
على مثال حضرة الملوك، فقصده الزوار من كل فج عميق، و من كل اوب سحيق، شعثاء غبراء،
متواضعين لرب البيت، و مستكنين له، خضوعا لجلاله، و استكانة لعزته و عظمته، مع
الاعتراف بتنزهه عن ان يحومه بيت او يكتنفه بلد.

و لا ريب في ان الاجتماع في مثل هذا الموضع، مع ما فيه من حصول المؤالفة و
المصاحبة، و مجاورة الابدال و الاوتاد و الاخيار المجتمعين من اقطار البلاد،
و تظاهر الهمم، و تعاون النفوس على التضرع و الابتهال و الدعاء الموجب لسرعة
الاجابة، بذكر النبى (ص) و اجلاله، و نزول الوحي عليه، و غاية سعيه و اهتمامه في
اعلاء كلمة الله و نشر احكام دينه، فتحصل الرقة للقلب، و الصفاء للنفس. ثم لكون الحج
اعظم التكليفات لهذه الامة، جعل بمنزلة الرهبانية في الملل السالفة، فان الامم
الماضية اذا ارادوا العمل لا صعب التكليف و اشقها على النفس، انفردوا عن الخلق، و
انحازوا الى قلل الجبال، و آثروا التوحش عن الخلق بطلب الانس بالله، و
التجرد له في جميع الحركات و السكنات، فتركوا اللذات الحاضرة، و الزموا
انفسهم الرياضات الشاقة، طمعا فى الآخرة، و قد اثنى الله عليهم في كتابه، و قال:

«ذلك بان منهم قسيسين و رهبانا و انهم لا يستكبرون » (16) . و قال تعالى: «و رهبانية
ابتدعوها ما كتبناها عليهم الا ابتغاء رضوان الله » (17) .

و لما اندرس ذلك، و اقبل الخلق على اتباع الشهوات، و هجروا التجرد لعبادة
الله تعالى، و فروا عنها، بعث الله تعالى من سرة البطحاء محمدا (ص) ، لاحياء طريق
الآخرة، و تجديد سنة المرسلين في سلوكها، فساله اهل الملل من الرهبانية و
السياحة في دينه، فقال (ص) : «ابدلنا بالرهبانية الجهاد و التكبير على كل شرف-يعني
الحج-، و ابدلنا بالسياحة الصوم » . فانعم الله على هذه الامة، بان جعل الحج
رهبانية لهم، فهو بازاء اعظم التكاليف و الطاعات في الملل السابقة.

فصل


(ما ينبغي في الحاج)


ينبغى للحاج، عند توجهه الى الحج، مراعات امور:

الاول-ان يجرد نيته لله، بحيث لا يشوبها شي ء من الاغراض الدنيوية، و لا يكون باعثه
على التوجه الى الحج الا امتثال امر الله، و نيل ثوابه، و الاستخلاص من عذابه،
فليحذر كل الحذر ان يكون له باعث آخر، مكنون في بعض زوايا قلبه، كالرياء و الحذر
عن ذم الناس و تفسيقهم لو لا يحج، او الخوف من الفقر و تلف امواله لو ترك الحج،
لما اشتهر من ان (تارك الحج يبتلى بالفقر و الادبار) ، او قصد التجارة او شغل
آخر، فان كل ذلك يخرج العمل من الاخلاص، و يحجبه عن الفائدة و ترتب الثواب
الموعود، و ما اجهل من تحمل الاعمال الشاقة التي يمكن ان تحصل بها سعادة الابد،
لاجل خيالات فاسدة لا يترتب عليها سوى الخسران فائدة، فيجتهد كل الجهد ان يجعل
عزمه خالصا لوجه الله، بعيدا عن شوائب الرياء و السمعة، و يتيقن انه لا يقبل من
قصده و عمله الا الخالص، و ان من افحش الفواحش ان يقصد بيت الملك و حرمه و المقصود
غيره، فليصحح في نفسه العزم، و تصحيحه باخلاصه باجتناب كل ما فيه رياء و سمعة.

الثاني-ان يتوب الى الله تعالى توبة خالصة، و يرد المظالم، و يقطع علاقة قلبه عن
الالتفات الى ما وراءه، ليكون متوجها الى الله بوجه قلبه، و يقدر انه لا يعود، و
ليكتب وصيته لاهله و اولاده، و يتهيا لسفر الاخرة، فان ذلك بين يديه على قرب، و
ما تقدمه من هذا السفر تهيئة لاسباب ذلك السفر، فهو المستقر و اليه المصير.
فلا ينبغى ان يغفل عن ذلك عند الاستعداد لهذا، فليتذكر عند قطعه العلائق لسفر الحج
قطع العلائق لسفر الاخرة.

الثالث-ان يعظم في نفسه قدر البيت و قدر رب البيت، و يعلم انه ترك الاهل و الاوطان،
و فارق الاحبة و البلدان، للعزم على امر رفيع شانه، خطير امره: اعنى زيارة بيت
الله الذي جعل مثابة للناس، فسفره هذا لا يضاهى اسفار الدنيا. فليحضر في قلبه
ماذا يريد، و اين يتوجه، و زيارة من يقصد، و انه متوجه الى زيارة ملك الملوك في
زمرة الزائرين اليه، الذين تودوا فاجابوا، و شوقوا فاشتاقوا، و دعوا فقطعوا
العلائق، و فارقوا الخلائق و اقبلوا على بيت الله الرفيع قدره و العظيم شانه، تسليا
بلقاء البيت على لقاء صاحبه، الى ان يرزقوا منتهى مناهم، و يسعدوا بالنظر الى
مولاهم، فليحضر في قلبه عظم السفر، و عظمة البيت، و جلالة رب البيت، و يخرج معظما
لهما، ناويا ان لم يصل و ادركته المنية في الطريق لقي الله و افدا اليه بمقتضى
وعده.

الرابع-ان يخلى نفسه عن كل ما يشغل القلب، و يفرق الهم في الطريق، او المقصود، من
معاملة او مثلها، حتى يكون الهم مجردا لله، و القلب مطمئنا منصرفا الى ذكر الله
و تعظيم شعائره، متذكرا عند كل حركة و سكون امرا اخرويا يناسبه.

الخامس-ان يكون زاده حلالا، و يوسع فيه و يطيبه، و لا يغتم ببذله و انفاقه، بل كان
طيب النفس به، اذ انفاق المال في طريق الحج نفقة في سبيل الله، و الدرهم منه
بسبعمائة درهم، قال رسول الله (ص) : «من شرف الرجل ان يطيب زاده اذا خرج في سفر» .
و كان السجاد (ع) اذا سافر الى الحج، يتزود من اطيب الزاد، من اللوز و السكر
و السويق المحمض و المحلى. و قال الصادق (ع) : «اذا سافرتم، فاتخذوا سفرة و
تنوقوا فيها» . و في رواية: «انه يكره ذلك في زيارة الحسين (ع) » . نعم ينبغى ان يكون
الانفاق على الاقتصاد من دون تقتير و لا اسراف، و المراد بالاسراف التنعم
باطائب الاطعمة، و الترفه بصرف انواعها على ما هو عادة المترفين، و اما
كثرة البذل على المستحقين، فلا اسراف فيه، اذ لا خير في السرف، و لا سرف فى
الخير. و ينبغى-ايضا-ان يكون له طيب النفس فيما اصابه من خسران و مصيبة في مال
و بدن، لان ذلك من دلائل قبول حجه، فان ذهاب المال فى طريق الحج يعد الدرهم منه
سبعمائة في سبيل الله، فالمصيبة في طريق الحج بمثابة الشدائد في طريق الجهاد، فله
بكل اذى احتمله و خسران اصابه ثواب، فلا يضيع منه شي ء عند الله.

السادس-ان يحسن خلقه، و يطيب كلامه، و يكثر تواضعه، و يجتنب سوء الخلق و الغلظة في
الكلام، و الرفث و الفسوق و الجدال، و الرفث اسم جامع لكل فحش و لغو و خنى، و
الفسوق اسم جامع لكل خروج عن طاعة الله، و الجدال هو المبالغة في الخصومة و
المماراة بما يورث الضغائن و يفرق الهم و يناقض حسن الخلق. قال رسول الله (ص) :
«الحج المبرور ليس له جزاء الا الجنة » ، فقيل: يا رسول الله، ما بر الحج؟ قال: «طيب
الكلام و اطعام الطعام » افلا ينبغى ان يكون كثير الاعتراض على رفيقه و جماله،
و على غيرهما من اصحابه، بل يلين جانبه، و يخفض جناحه للسائرين الى بيت الله، و
يلزم حسن الخلق، و ليس حسن الخلق مجرد كف الاذى، بل احتمال الاذى، و قيل: سمى
السفر سفرا، لانه يسفر عن اخلاق الرجال.

السابع-ان يكون اشعث اغبر، غير متزين و لا مائل الى اسباب التفاخر و التكاثر،
فيكتب في المتكبرين و يخرج عن حزب الضعفاء و المساكين، و يمشى ان قدر، خصوصا
بين المشاعر. و في الخبر: «ما عبد الله بشى ء افضل من المشي » . و ينبغي الا يكون
الباعث للمشي تقليل النفقة، بل التعب و الرياضة في سبيل الله، و لو كان القصد تقليل
النفقة مع اليسار فالركوب افضل. و كذا الركوب افضل لمن ضعف بالمشي، و ساء خلقه، و
قصر في العمل، ففي الخبر: «تركبون احب الي، فان ذلك اقوى على الدعاء و العبادة » .

و كان الحسن بن علي-عليهما السلام-يمشى و تساق معه المحامل و الرحال. و اذا
حضرت الراحلة ليركبها، فليشرك الله تعالى بقلبه على تسخيره له الدواب، لتتحمل
عنه الاذى، و تخفف عنه المشقة. و ينبغي ان يرفق بها، فلا يحملها ما لا تطيق.

فصل


(الميقات)


اذا خرج عن وطنه، و دخل الى البادية، متوجها الى الميقات، و شاهد العقبات،
فليتذكر فيها ما بين الخروج من الدنيا بالموت الى ميقات يوم القيامة، و
ما بينهما من الاهوال و المطالبات، و ليتذكر من هول قطاع الطريق هول منكر و
نكير، و من سباع البوادي و حياتها و عقاربها حيات القبر و افاعيها و عقاربها
و ديدانها، و من افراده عن اهله و اقاربه وحشة القبر و وحدته و كربته، و ليكن في
هذه المخاوف في اعماله و اقواله متزودا لمخاوف القبر.

فصل


(ما ينبغى في الميقات)


اذا دخل الميقات، و لبس ثوبى الاحرام، فليتذكر عند لبسهما لبس الكفن و لفه
فيه، و انه سيلقى الله ملفوفا في ثياب الكفن لا محالة، فكما لا يلقى بيت الله الا
بهيئة وزي يخالف عادته، فكذلك لا يلقى الله بعد الموت الا في زي يخالف زي الدنيا، و
هذا الثوب قريب من ذلك الثوب.

اذ ليس مخيطا، كما ان الكفن ايضا ليس مخيطا، و اذا احرم و تلبى، فليعلم ان
الاحرام و التلبية اجابة نداء الله، فليرج ان يكون مقبولا، و ليخش ان يكون مردودا،
فيقال: لا لبيك و لا سعديك! فليكن بين الخوف و الرجاء مترددا، و عن حوله و قوته
متبرا، و على فضل الله و كرمه متكلا. فان وقت التلبية هو بداية الامر، و هو محل
الخطر. و قد روى: «ان علي بن الحسين-عليهما السلام-لما احرم، و استوت به
راحلته، اصفر لونه و انتفض، و وقعت عليه الرعدة، و لم يستطع ان يلبى. فقيل له: لم لا
تلبى؟ فقال: اخشى ان يقول ربي: لا لبيك و لا سعديك! فلما لبى غشي عليه و سقط من
راحلته.

فلم يزل يعتريه ذلك حتى قضى حجه » . فليتذكر الملبي عند رفع الاصوات في الميقات
خائفا راجيا، انه اجابة لنداء الله تعالى، اذ قال تعالى:

«و اذن في الناس بالحج ياتوك رجالا» (18) .

و يتذكر من هذا النداء نداء الخلق بنفخ الصور، و حشرهم من القبور، و ازدحامهم في
عرصات القيامة لنداء الله، منقسمين الى مقربين و مبعدين، و مقبولين و مردودين، و
مردودين فى اول الامر بين الخوف و الرجاء، مثل تردد الحاج في الميقات، حيث لا
يدرون ايتيسر لهم اتمام الحج و قبوله ام لا.

فصل


(ما ينبغى عند دخول مكة)


ينبغى ان يتذكر عند دخول مكة: انه قد انتهى الى حرم من دخله كان آمنا، و ليرج عنده
ان يامن بدخوله من عقاب الله، و ليضطرب قلبه من الا يكون اهلا للقرب و القبول،
فيكون بدخول الحرم خائبا مستحقا للمقت، و ليكن رجاؤه في جميع الاوقات غالبا،
اذ شرف البيت عظيم، و رب البيت كريم، و الرحمة واسعة، و الفيوضات نازلة، و حق
الزائر منظور، و اللائذ المستجير غير مردود. و اذا وقع البصر على البيت، فليحضر
في قلبه عظمته، و يقدر كانه مشاهد لرب البيت لشدة تعظيمه، و ليرج ان يرزقه لقاءه كما
رزقه لقاء بيته، و ليشكر الله على تبليغه اياه الى بيته، و الحاقه اياه بزمرة
الوافدين اليه، و يتذكر عند ذلك ايصاب الخلائق الى جهة الجنة آملين لدخولها
كافة، ثم انقسامهم الى ماذونين في الدخول و مصروفين عنها، انقسام الحاج
الى مقبولين و مردودين.

فصل


(ما ينبغي عند الطواف)


و ينبغى عند الطواف ان يمتلئ قلبه من التعظيم و المحبة و الخوف و الرجاء، و يعلم
انه في الطواف متشبه بالملائكة المقربين الطائفين حول العرش، و ليعلم ان
المقصود طواف قلبه بذكر رب البيت، دون مجرد طواف جسمه بالبيت، فليبتدي ء
الذكر به و يختم به، كما يبتدا الطواف من البيت و يختم بالبيت، فروح
الطواف و حقيقته هو طواف القلب بحضرة الربوبية و البيت مثال ظاهر في عالم
الشهادة لتلك الحضرة التى لا تشاهد بالبصر، و هو عالم الغيب و عالم الملك و
الشهادة، مدرجة الى عالم الغيب و الملكوت لمن فتح له الباب. و ما ورد من ان
البيت المعمور في السماوات بازاء الكعبة، و ان طواف الملائكة بها كطواف الانس
بهذا البيت، و ربما كان اشارة الى ما ذكرناه من المماثلة، و لما قصرت رتبة
الاكثرين عن مثل ذلك الطواف، امروا بالتشبه بهم بقدر الامكان، و وعدوا بان
من تشبه بقوم فهو منهم.

فصل


(ما ينبغي عند استلام الحجر)


ينبغي ان يتذكر عند استلام الحجر الاسود، انه بمنزلة يمين الله في ارضه، و فيه
مواثيق العباد. قال رسول الله (ص) : «استلموا الركن، فانه يمين الله فى خلقه،
يصافح بها خلقه مصافحة العبد او الدخيل، و يشهد لمن استلمه بالموافاة » ، و مراده
(ص) بالركن: الحجر الاسود، لانه موضوع فيه، و انما شبه باليمين، لانه واسطة
بين الله و بين عباده في النيل و الوصول و التحبب و الرضا، كاليمين حين
التصافح. و قال الصادق (ع) : «ان الله تبارك و تعالى لما اخذ مواثيق العباد،
امر الحجر فالقمها، فلذلك يقال: امانتي اديتها، و ميثاقي عاهدته، لتشهد لى
بالموافاة » . و قال (ع) : «الركن اليماني باب من ابواب الجنة، لم يغلقه الله منذ
فتحه » . و قال (ع) : «الركن اليماني بابنا الذي يدخل منه الجنة، و فيه نهر من الجنة
تلقى فيه اعمال العباد» ، قيل: انما شبه بباب الجنة، لان استلامه وسيلة الى
وصولها، و بالنهر، لانه تغسل به الذنوب.

ثم لتكن النية في الاستلام و الالتصاق بالمستجار، بل الممارسة لكل جزء من
البيت، طلب القرب حبا و شوقا للبيت و لرب البيت، و تمسكا و تبركا بالممارسة،
و رجاء للتحصن عن النار في كل جزء لا في البيت، و لتكن نيته في التعلق باستار
البيت الالحاح في طلب المغفرة و سؤال الامان، كالمقصر المتعلق بثياب من قصر في
حقه، المتضرع اليه في عفوه عنه، المظهر له انه لا ملجا منه الا اليه، و لا مفزع الا
عفوه و كرمه، و انه لا يفارق ذيله حتى يعفو عنه، و يعطيه الامان في المستقبل.

فصل


(السعى)


السعي بين الصفا و المروة فى فناء البيت، يضاهي تردد العبد بفتاء دار الملك،
جائيا و ذاهبا مرة بعد اخرى، اظهارا للخلوص في الخدمة، و رجاء للملاحظة بعين الرحمة،
كالذى دخل على الملك و خرج، و هو لا يدري ما الذي يقضي به الملك في حقه من قبول اورد،
فلا يزال يتردد على فناء الدار مرة بعد اخرى، يرجوا ان يرحمه في الثانية ان لم
يرحمه في الاولى، و ليتذكر عند تردده التردد بين الكفتين، ناظرا الى الرجحان و
النقصان، مرددا بين العذاب و الغفران.

فصل


(ما ينبغي عند الوقوف بعرفات)


و اما الوقوف بعرفات، فليتذكر بما يرى من ازدحام الخلق، و ارتفاع الاصوات،
و اختلاف اللغات، و اتباع الفرق ائمتهم في التردد على المشاعر:

عرصات يوم القيامة و اهوالها، و انتشار الخلائق فيها حيارى، و اجتماع الامم
مع الانبياء و الائمة، و اقتفاء كل امة نبيهم، و طمعهم في شفاعته لهم، و تحيرهم في
ذلك الصعيد الواحد بين الرد و القبول. و اذا تذكر ذلك، فليتضرع الى الله
تعالى و يبتهل اليه، ليقبل حجة و يحشره في زمرة الفائزين المرحومين.

و ينبغي ان يحقق رجاءه، اذ اليوم شريف و الموقف عظيم، و النفوس من اقطار الارض
فيه مجتمعة، و القلوب الى الله سبحانه منقطعة، و الهمم على الدعاء و السؤال
متظاهرة، و بواطن العباد على التضرع و الابتهال متعاونة، و ايديهم الى حضرة
الربوبية مرتفعة، و ابصارهم الى باب فيضه شاخصة، و اعناقهم الى عظيم لطفه و بره
ممتدة، و لا يمكن ان يخلو الموقف عن الاخيار و الصالحين، و . رباب القلوب و
المتقين، بل الظاهر حضور طبقات الابدال و اوتاد الارض فيه، فلا تستبعدون ان
تصل الرحمة من ذي الجلال بواسطة القلوب العزيزة و النفوس القادسة الشريفة الى كافة
الخليقة، و لا تظنن انه يخيب آمال الجميع، و يضيع سعيهم، و لا يرحم غربتهم و
انقطاعهم عن الاهل و الاوطان، فان بحر الرحمة اوسع من ان يضن به في مثل هذه
الحالة، و لذا ورد: انه من اعظم الذنوب ان يحضر عرفات و يظن ان الله لم يغفر له.

فصل


(المشعر)


و اذا فاض من عرفات و دخل المشعر، فليتذكر عند دخوله فيه: ان الله سبحانه قد
اذن له في دخول حرمه بعد ان كان خارجا عنه، اذ المشعر من جملة الحرم، و عرفات
خارجة عنه، فليتفاءل من دخول الحرم، بعد خروجه عنه، بان الله سبحانه قربه اليه و
كساه خلع القبول، و اجاره و آمنه من العذاب و البعد، و جعله من اهل الجنة و القرب.

فصل


(ما ينبغى عند الرمي و الذبح)


و اذا ورد منى، و توجه الى رمى الجمار، فليقصد به الانقياد و الامتثال،
اظهارا للرق و العبودية، و تشبيها بالخليل الجليل (ع) ، حيث عرض له ابليس اللعين
في هذا الموضع ليفسد حجه، فامره الله تعالى ان يرميه بالحجارة طردا له و قطعا
لاصله. و ينبغى ان يقصد انه يرمى الحصا الى وجه الشيطان و يقصم به ظهره، و يرغم به
انفه، اذ امتثال امر الله تعالى تعظيما له يقصم ظهر اللعين و يرغم انفه. و اذا
ذبح الهدي، فليستحضر ان الذبح اشارة الى انه بسبب الحج قد غلب على الشيطان و
النفس الامارة و قتلهما، و بذلك استحق الرحمة و الغفران، و لذا ورد: انه يعتق بكل
جزء من الهدي جزء منه النار. فليجتهد في التوبة و الرجوع عما كان عليه قبل ذلك من
الاعمال القبيحة، حتى يصير حاله احسن من سابقه، ليصدق عليه اذلاله الشيطان و
النفس الامارة في الجملة، و لا يكون في عمله من الكاذبين. و لذلك ورد:

ان علامة قبول الحج: ان يصير حاله بعد الحج احسن مما كان عليه قبله. و في الخبر:
ان علامة قبول الحج ترك ما كان عليه من المعاصى، و ان يستبدل باخوانه
البطالين اخوانا صالحين، و بمجالس اللهو و الغفلة مجالس الذكر و اليقظة.

تتميم


(اسرار الحج)


قد ورد عن مولانا الصادق (ع) خبر يتضمن عمدة اسرار الحج و دقائقه، فلنذكره تيمنا
بكلماته الشريفة:

قال (ع) : «اذا اردت الحج، فجرد قلبك لله عز و جل، من قبل عزمك، من كل شغل شاغل و
حجب كل حاجب، و فوض امورك كلها الى خالقك، و توكل عليه في جميع ما يظهر من
حركاتك و سكناتك، و سلم لقضائه و حكمه و قدره، و ودع الدنيا و الراحة و الخلق، و اخرج
من حقوق يلزمك من جهة المخلوقين، و لا تعتمد على زادك و راحلتك و اصحابك و قوتك و
شبابك و مالك، مخافة ان يصير ذلك عدوا و وبالا، فان من ادعى رضا الله، و اعتمد
على شى ء ما سواه، صيره عليه عدوا و وبالا، ليعلم انه ليس له قوة و لا حيلة و لا لاحد الا
بعصمة الله تعالى و توفيقه، و استعد استعداد من لا يرجو الرجوع، و احسن الصحبة، و
راع اوقات فرائض الله تعالى و سنن نبيه (ص) ، و ما يجب عليك من الادب، و
الاحتمال، و الصبر، و الشكر، و الشفقة، و السخاوة، و ايثار الزاد على دوام
الاوقات، ثم اغسل بماء التوبة الخالصة ذنوبك، و البس كسوة الصدق و الصفاء و
الخضوع و الخشوع، و احرم من كل شي ء يمنعك عن ذكر الله عز و جل و يحجبك عن طاعته، و
لب بمعنى اجابة صافية خالصة زاكية لله عز و جل في دعوتك له، متمسكا بالعروة
الوثقى، و طف بقلبك مع الملائكة حول العرش كطوافك مع المسلمين بنفسك حول البيت.
و هرول هرولة فرا من هواك، و تبرا من جميع حولك و قوتك، و اخرج من غفلتك و زلاتك
بخروجك الى منى، و لا تتضمن مالا يحل لك و لا تستحقه، و اعترف بالخطا بالعرفات،
و جدد عهدك عند الله تعالى بوحدانيته، و تقرب اليه، و اتقه بمزدلفة، و اصعد بروحك الى
الملا الاعلى بصعودك على الجبل، و اذبح حنجرة الهوى و الطمع عند الذبيحة، و ارم
الشهوات و الخساسة و الدناءة و الافعال الذميمة عند رمى الجمرات، و احلق العيوب
الظاهرة و الباطنة بحلق شعرك، و ادخل في امان الله و كنفه و ستره و كلاءته من متابعة
مرادك بدخول الحرم، و زر البيت متحققا لتعظيم صاحبه و معرفته و جلاله، و استلم
الحجر رضى بقسمته و خضوعا لعظمته، و ودع ما سواه بطواف الوداع، و صف روحك و سرك
للقاء الله تعالى يوم تلقاه بوقوفك على الصفا، و كن ذامرة من الله بفناء
اوصافك عند المروة، و استقم على شروط حجتك، و وفاء عهدك الذي عاهدت ربك، و اوجبت
له الى يوم القيامة، و اعلم بان الله لم يفترض الحج، و لم يخصه من جميع
الطاعات بالاضافة الى نفسه بقوله تعالى:

«و لله على الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلا» (19)

و لا شرع نبيه (ص) سنة في خلال المناسك على ترتيب ما شرعه، الا للاستعداد و الاشارة
الى الموت و القبر و البعث و القيامة، و فضل بيان السبق من دخول الجنة اهلها
و دخول النار اهلها، بمشاهدة مناسك الحج من اولها الى آخرها، لاولى الالباب و
اولي النهى » (20) .

خاتمة


(زيارة المشاهد)


فى الاشارة الى بعض الامور الباطنة المتعلقة بزيارة المشاهد.

اعلم ان النفوس القوية القدسية، لا سيما نفوس الانبياء و الائمة (ع) ، اذا نفضوا
ابدانهم الشريفة، و تجردوا عنها، و صعدوا الى عالم التجرد، و كانوا في غاية
الاحاطة و الاستيلاء على هذا العالم، فامور هذا العالم عندهم ظاهرة منكشفة، و لهم
القوة و التمكن على التاثير و التصرف في موارد هذا العالم، فكل من يحضر
مقابرهم لزيارتهم يطلعون عليه، لا سيما و مقابرهم مشاهد ارواحهم المقدسة العلية، و
محال حضور اشباحهم البرزخية النورية، فانهم هناك يشهدون، «بل احياء عند ربهم
يرزقون » (21)

و بما آتاهم الله من فضله فرحون، فلهم تمام العلم و الاطلاع بزائري قبورهم، و
حاضري مراقدهم، و ما يصدر عنهم من السؤال و التوسل و الاستشفاع و التضرع، فتهب
عليهم نسمات الطافهم، و تفيض عليهم من رشحات انوارهم، و يشفعون الى الله في
قضاء حوائجهم، و انجاح مقاصدهم، و غفران ذنوبهم، و كشف كروبهم. فهذا هو السر فى
تاكد استحباب زيارة النبي و الائمة-عليهم السلام-، مع ما فيه من صلتهم و برهم و
اجابتهم، و ادخال السرور عليهم، و تجدد عهد ولايتهم، و احياء امرهم، و اعلاء
كلمتهم، و تنكيت اعدائهم. و كل واحد من هذه الامور مما لا يخفى عظيم اجره و جزيل
ثوابه. و كيف لا تكون زيارتهم اقرب القربات، و اشرف الطاعات، مع ان زيارة
المؤمن-من جهة كونه مؤمنا فحسب-عظيم الاجر جزيل الثواب، و قد ورد به الحث و
التوكيد و التغريب الشديد من الشريعة الطاهرة، و لذلك كثر تردد الاحياء الى
قبور امواتهم للزيارة، و تعارف ذلك بينهم، حتى صارت لهم سنة طبيعية، و ايضا قد
ثبت و تقرر جلالة قدر المؤمن عند الله، و ثواب صلته و بره و ادخال السرور عليه. و
اذا كان الحال في المؤمن من حيث انه مؤمن، فما ظنك بمن عصمه الله من الخطا،
و طهره من الرجس، و بعثه الله الى الخلائق اجمعين، و جعله حجة على العالمين، و
ارتضاه اماما للمؤمنين، و قدوة للمسلمين، و لاجله خلق السماوات و الارضين، و
جعله صراطه و سبيله، و عينه و دليله، و بابه الذي يؤتى منه، و نوره الذي يستضاء به، و
امينه على بلاده، و حبله المتصل بينه و بين عباده، من رسل و انبياء و ائمة و
اولياء.

ثم، الاخبار الواردة في فضيلة زيارة النبي و الائمة-عليهم السلام- مما لا
تحصى كثرة. قال رسول الله (ص) : «من زار قبرى بعد موتي كان كمن هاجو الي في حياتي،
فان لم تستطيعوا فابعثوا الي بالسلام، فانه يبلغني » .

و قال (ص) لامير المؤمنين (ع) : «يا ابا الحسن، ان الله تعالى جعل قبرك و قبر ولدك
بقاعا من بقاع الجنة، و عرصة من عرصاتها، و ان الله جعل قلوب نجباء من خلقه، و صفوة
من عباده، تحن اليكم، و تحتمل المذلة و الاذى فيكم، فيعمرون قبوركم، و يكثرون
زيارتها، تقربا منهم الى الله، و مودة منهم لرسوله، اولئك يا على المخصوصون
بشفاعتي، و الواردون حوضى، و هم زواري و جيرانى غدا في الجنة. يا على، من عمر
قبورهم و تعاهدها فكانما اعان سليمان بن داود على بناء بيت المقدس، و من زار
قبوركم عدل ذلك سبعين حجة بعد حجة الاسلام، و خرج من ذنوبه حتى يرجع من زيارتكم
كيوم ولدته امه. فابشر، و بشر اولياءك و محبيك من النعيم و قرة العين، بما لا
عين رات، و لا اذن سمعت، و لا خطر على قلب بشر، و لكن حثالة من الناس يعيرون زوار
قبوركم، كما تعير الزانية بزناها، اولئك شرار امتي، لا تنالهم شفاعتي، و لا يردون
حوضي » (22) . و قال الصادق (ع) : «لو ان احدكم حج دهره، ثم لم يزر الحسين بن على-عليهما
السلام-، لكان تاركا حقا من حقوق رسول الله (ص) ، لان حق الحسين عليه السلام
فريضة من الله واجبة على كل مسلم » . و قال الرضا (ع) : «ان لكل امام عهدا في عنق
اوليائه و شيعته، و ان من تمام الوفاء بالعهد و حسن الاداء زيارة قبورهم، فمن
زارهم رغبة في زيارتهم، و تصديقا بما رغبوا فيه، كان ائمته شفعاءه يوم القيامة » .
و الاخبار في فضل زيارة النبي و الائمة المعصومين، لا سيما زيارة سيد الشهداء و
ابى الحسن الرضا-عليهم افضل التحية و الثناء-، و فضل زيارتهما على الحج و
العمرة و الجهاد، اكثر من ان تحصى، و هى مذكورة في كتب المزار لاصحابنا، فلا
حاجة الى ايرادها هنا.

فصل


(ما ينبغي للزائر عند دخول المدينة المنورة)


و اذا عرفت فضل زيارتهم و سرها، و عظم قدرهم و جلالة شانهم، فينبغي ان تكثر
التواضع و التخضع و الانكسار عند الدخول في بلادهم، و مراقدهم المنورة، و مشاهدهم
المكرمة، و تستحضر في قلبك عظمتهم و جلالهم، و تعرف عظيم حقهم، و غاية جدهم و سعيهم
في ارشاد الناس و اعلاء كلمة الله.

فاذا قربت المدينة المنورة، و وقع بصرك على حيطانها، تذكر انها البلدة التي
اختارها الله لنبيه (ص) ، و جعل اليها هجرته، و انها البلدة التي فيها شرع
فرائض ربه و سننه، و جاهد عدوه، و اظهر بها دينه، و لم يزل قاطنا بها الى ان توفاه
الله، و جعل تربته فيها.

ثم مثل في نفسك اقدام رسول الله (ص) عند تردداتك فيها، و تذكر انه ما من موضع
قدم تطاه الا و هو موضع قدمه العزيز، فلا تضع قدمك عليه الا على سكينة و وجل، و كن
متذكرا لمشيه و تخطيه في سككها، و تصور سكينته و وقاره، و خشوعه و تواضعه لعظمة ربه، و
ما استودع الله في قلبه من عظيم معرفته و رفعة ذكره، حتى قرنه بذكر نفسه، و انزل
عليه كلامه العزيز، و اهبط عليه روح الامين و سائر ملائكته المقربين، و احبط عمل
من هتك حرمته، و لو برفع صوته فوق صوته. ثم تذكر ما من الله به على الذين
ادركوا صحبته، و سعدوا بمشاهدته و استماع كلامه، و اعظم تاسفك على ما فاتك من
صحبته، و تضرع الى الله الا تفوتك صحبته في الآخرة، و لتعظم رجاءك في ذلك، بعد ان
رزقك الله الايمان، و اشخصك من ارضك لاجل زيارته، محبة له، و تشوقا اليه. ثم اذا
دخلت مسجده، فتذكر ان اول موضع اقيمت فيه فرائض الله تلك العرصة، و انها تضمنت
افضل خلق الله حيا و ميتا، فارج الله غاية الرجاء ان يرحمك بدخولك اياه خاشعا
معظما، و ما اجدر ذلك المكان بان يستدعي الخضوع من قلب كل مؤمن.

ثم اذا اتيته للزيارة، فينبغى ان تقف بين يديه خاضعا خاشعا خائفا، و تزوره
ميتا كما تزوره حيا، و لا تقرب من قبره الا كما تقرب من شخصه الكريم لو كان حيا،
اذ لا فرق بين ميته و حيه، و لو وجدت التفرقة في قلبك لما كنت مؤمنا، و لتعلم انه
عالم بحضورك و قيامك و زيارتك، و انه يبلغه سلامك و صلواتك. فمثل صورته الكريمة
في خيالك، جالسا على سرير العظمة بحذائك. و احضر عظيم رتبته في قلبك، و قد ورد: ان
الله تعالى و كل بقبره ملكا يبلغه سلام من سلم عليه من امته. و هذا في حق من لم
يحضر قبره، فكيف بمن فارق الاهل و الوطن، و قطع البوادي شوقا الى لقائه، و اكتفى
و قنع بمشاهدة مشهده المنور، اذ فاتته مشاهدة طلعته البهية و غرته الكريمة. و قد قال (ص)
: «من صلى علي مرة، صليت عليه عشرا» . فهذا جزاؤه عليه في الصلاة عليه بلسانه، فكيف
بالحضور لزيارته ببدنه؟

و اذا فرغت من زيارته، فات المنبر و امسحه بيدك، و خذ برمانيته، و امسح بهما
وجهك و عينيك، و تضرع الى الله، و ابتهل اليه، و اسال حاجتك. و توهم صعود النبى
(ص) المنبر، و مثل في قلبك طلعته البهية، قائما على المنبر، و قد احدق به المسلمون من
المهاجرين و الانصار، و هو يحمد الله بافصح الكلمات و اللغات و يحث الناس على
طاعة الله. و اسال الله الا يفرق في القيامة بينه و بينك، و يجعلك في جواره، و يعطيك
منزلا في قرب داره.

فصل


(ما ينبغي للزائر عند دخول النجف و كربلاء)


و اذا دخلت ارض النجف لزيارة امير المؤمنين و سيد الوصيين (ع) ، تذكر انها
وادي السلام، و مجمع ارواح المؤمنين، و قد شرفها الله و جعلها اشرف البقاع، و جنة
المؤمنين، فما من مؤمن خالص الا و بعد الموت ياتى روحه اليها، و يتنعم فيها مع
سائر المؤمنين، الى ان يدخلوا دار كرامته العظمى في القيامة الكبرى. و قد اكد
شرافتها و عظم قدرها، بان جعلها مدفن وصي رسوله، بعد ان كانت مدفن آدم ابي البشر،
و نوح شيخ المرسلين-عليهما السلام-. فاسال الله ان ياتى بروحك اليها، و يدخلك
في زمرة المؤمنين، و يجعلها محل دفنك، لتنال شفاعة مولاك (ع) ، و لا يحشرك مع الكفار و
العصاة في وادي برهوت.

و اذا اتيت لزيارته، تذكر عظيم مرتبته عند الله و عند رسوله، و راع الآداب التي
ذكرناها في زيارة رسول الله (ص) .

و اذا اردت ارض كربلاء، لزيارة سيد الشهداء (ع) ، فتذكر ان هذه الارض هى التي قتل
فيها سبط الرسول و اولاده و اقاربه و اجناده، و اسرت فيها اهاليه و اهل بيته،
و فجدد الحزن على قلبك، و ادخلها اشعث اغبر، منكسر الحال، محزون القلب، كئيبا حزينا
باكيا، و احضر في قلبك حرمة هذه الارض و شرافتها، فانها الارض التي في تربتها
الشفاء، و لا يرد فيها الدعاء، و قد يجعلها الله يوم القيامة ارفع بقاع الجنة،
فتردد فيها على سكينة و وجل.

ثم اذا دخلت الحائر اللزيارة، و وقع بصرك على ضريحه المنور، ثم على ضريح اصحابه
المستشهدين معه، المجتمعين في موضع واحد في جواره، فمثل في قلبك اشخاصهم، و
تذكر وقائعهم و ما جرى عليهم من البلايا و المحن، و احضر في نفسك ابا عبد الله
الحسين (ع) واقفا في عرصة كربلاء، و ياتى اصحابه واحدا واحدا يستاذن منه للجهاد،
قائلا: السلام عليك يا ابا عبد الله! و هو ياذن له، و يلقى نفسه في الميدان على
الجم الغفير، فيقتل في سبيله، و اذا ايس من حياته، ينادي باعلى صوته: ادركني يا
ابا عبد الله! و هو (ع) يسرع اليه كالصقر المنقض، و ياخذ جثته من الميدان، و يلحقه
بسائر اخوانه الشهداء. فمثل في نفسك امثال ذلك، و جدد عليهم الحزن و البكاء، و
تمن كونك معهم في تلك العرصة، و قل: يا ليتنى كنت معهم فافوز فوزا عظيما!

ثم راع الآداب الباطنة لزيارته (ع) ، و قس على ذلك زيارة كل واحد من الائمة-عليهم
السلام-، فانه ينبغى لك ان تستحضر، عند حضورك كل واحد منهم، جلالة شانه، و عظمة قدره،
و عظيم حقه، و تتذكر ما يناسب حاله، و ما جرى عليه، ثم تستشعر في قلبك ما يترتب
عليه، من التعظيم، و الاجلال، و الخوف، و الحزن، و الفرح، و امثال ذلك.

هذا آخر كتاب (جامع السعادات) و الحمد لله على اتمامه، و اسال الله ان يجعلنا
من العاملين به، و ينفع به جميع عباده السالكين اليه. و قد وقع الفراغ من جمعه و
تاليفه، في سلخ شهر ذى القعدة الحرام سنة ست و تسعين و مائة بعد الالف من الهجرة
النبوية، على مهاجرها الف الف سلام و تحية.

هذا آخر ما كتبه المصنف (قدس سره)

1) الحديث مذكور في (مصباح الشريعة): الباب 5 136.و في (المستدرك): 1 401، كتاب
الصلاة، ابواب الذكر.و في الموضعين اختلاف يسير، فصححناه على (مصباح الشريعة) ،
الموضع المذكور.

2) الاسراء، الآية: 11.

3) الحديث مذكور في (مصباح الشريعة): الباب 19 145-146.
و فيه اختلاف كثير عما هنا، فصححناه على (المصباح) ، الموضع المذكور.

4) النحل، الآية: 98.

5) فصلت، الآية: 41-42.

6) صححنا الحديث على (مصباح الشريعة): الباب 14 142.

7) محمد-صلى الله عليه و آله-، الآية: 24.

8) الشورى، الآية: 11.

9) الحشر، الآية: 23.

10) الكهف، الآية: 110.

11) ق، الآية: 8.

12) المؤمن، الآية: 13.

13) الرعد، الآية: 21.الزمر، الآية: 9.

14) هود، الآية: 120.

15) صححنا الحديث على (مصباح الشريعة): الباب 20.و على (المستدرك): 589-590، كتاب
الصوم.

16) المائدة، الآية: 85.

17) الحديد، الآية: 27.

18) الحج، الآية: 27.

19) آل عمران، الآية: 97.

20) صححنا الحديث على (مصباح الشريعة): الباب 21.

21) آل عمران، الآية: 169.

22) صححنا الحديث على (مستدرك الوسائل): 2 195-196، كتاب الحج، 10، ابواب المزار
و ما يناسبه.

/ 32