عرب و تحدیات المستقبل، رؤیة و موقف نسخه متنی

ومن أي منطقة أو قومية؟ وكيف قضت طفولتها؟ وكيف تربت وترعرعت؟ وفي أية بيئة عاشت، ونمت؟ وأين درست ومن أساتذتها؟ وما هي ذي الأحداث التي واجهتها؟ وما هي الانتصارات والهزائم التي منيت بها"(21) وإذا ما أسقطنا هذه المعيارية التي وضعها د. علي شريعتي على شخصية الأمة ودرسنا آثارها الفكرية والعلمية والأدبية والبيئية الاجتماعية والقومية وما واجهتها من أحداث وانتصارات وهزائم وجدنا أمتنا من أغنى الأمم فكراً وتجربة. وسأبدأ بعلم الآثار لإثبات هذا الغنى لأن علم الآثار لغة الدراسة العلمية للتاريخ. لقد أثبتت الدراسات الأثرية أن إنساننا العربي في هذه المنطقة أول من اتبع دستوراً أخلاقياً ينزع إلى العدل ويعتمد القيمة أساساً في المفاضلة فهو الأسبق إلى الإنجاز الحضاري منذ لبت عشتار أول الشرائع التي اكتشفها علم الآثار إلى تشريعات حمورابي إلى القوانين الآشورية إلى مدرسة بيروت الحقوقية التي كانت نواة الفكر القانوني في العلم. يقول بول لينت: "في بيروت كان يتم إعداد الحقوق الرومانية وإلى جماعة من الفينيقيين السوريين وهم عائلة سبتموس سفيروس ومستشاريهم لا تزال الحقوق الرومانية الجديدة مدينة لها ببلوغ أوج الكمال. وتبين الأبحاث أنَّ ما قدمه هؤلاء الفقهاء السوريين للتشريع الروماني يتعدى 80% وهذا ما دفع بعض الباحثين إلى القول في القرن الثالث الميلادي. كانت سوريا تعطي العالم تقاليدها الحقوقية التي تعد مصدر الحقوق الرومانية وأصلها".

وبعد أن استطاع القياصرة والأكاسرة الغلبة والهيمنة على أجزاء من الوطن العربي وتسلم قيادة الأمة استطاع هذا المجتمع المغلوب سياسياً أن لا يغلب قيمياً وأن يحافظ على شخصيته وهويته حيث كانت تحكمه دساتيره الخاصة وقد نقل إلينا التاريخ خبراً عن النعمان بن المنذر وهو في بلاط كسرى وكان عنده وفود الروم والهند والصين وكانوا يذكرون ملوكهم وبلادهم. فوقف النعمان قائلاً: أما الأمم التي ذكرتم فأي أمة تقدنها بالعرب إلا فضلتها. فقال كسرى بماذا؟ قال النعمان: بعزها ومنعتها وحسن وجودها وبأسها وسخائها وحكمة ألسنتها وشدة عقولها وأنقتها"(24).

وهكذا جمع النعمان سلوك الشخصية العربية، وطريقة تفكرها، واللغة جاملة الفكر. عندما تكلم عن الأمة العربية واعتمدها صفات معممة على العرب رغم تفرقهم وضعفهم في تلك الفترة. وقد أكد كذلك السيد وليم مور في دراسته عن العرب فقال يصف عرب الجاهلية: "إن أكثر ما يلفت الانتباه تفرق العرب إلى جماعات عديدة لكنها تتشابه في العادات والطباع وتتحدث لغة واحدة وتتبع دستوراً أخلاقياً غير مكتوب أساسه الشرف والأخلاق"(24) ولما جاء التشريع الإسلامي متوجاً رسالات السماء رسخ أسس الأخلاق والشرف مهذباً مشذباً الشخصية العربية مادة الإسلام الأولى وحاملة رايته المؤمنة برسالتها. مؤكدة على مشروعها الحضاري ملتزمة به عاملة على نشرة حضارة وعدالة. وسلاماً وقد ربط ربنا جل جلاله بين الاعتقاد والسلوك وجعل هذا الربط تعبداً". وأدان من فرق بين المنهج والتطبيق فقال: يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون.

وقد فهم الصحابة رض واجبهم وترجموا الرسالة إلى سلوك يومي سام مكونين شخصيتهم العربية الإسلامية يرسمونها وفق المنهج القرآني والسلوك الرسولي. يقول عبد الرحمن بن حبيب السلمي: "حدثنا الذين كانوا يقرؤوننا أنهم كانوا يستقرئون من النبي (ص) وكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بها فتعلموا القرآن وعملوا به"(25) فدافعوا عن رسالتهم وأمتهم حتى الشهادة أو النصر. قيمتي "وكان الإيثار أهم صفاتهم السلوكية وأعلاها وهاتين القيمتين أضافهما الإسلام إلى العرب وهما أهم قيمتين تساعدان على ربط النهج بالسلوك. وأعني "الإيثار والشهادة" فالأولى تفضل القيمة على الحاجة والثانية تفضل القيمة على الحياة.

ح-العقيدة الروحية: كان يمكن لهذا العامل أن يكون ترتيبه أولاً في دراستنا كما هو أول بالأهمية من حيث هو الناظم لكل القيم والفضائل وهو الحالة الأكثر راحة وطمأنينة للمرء.

يرى المفكر بيرس: "إن ما يهتم لـه الإنسان أولاً وقبل كل شيء هو أن يرسو بفكرة إلى حال أو اعتقاد"(18).

ويقول فراس سوّاح في مقدمة كتابه الأهم لغز عشتار: "إن أهم ما علمني إياه العمل في