في غياب التعريب لن تبقى قيمنا ومعتقداتنا وتقاليدنا الإيجابية سليمة، ذلك أن الذي يتلقى العلوم باللغات الأجنبية لن يختزن عقله وذاكرته تلك العلوم فقط، بل سوف تتسلل إلى عقله ووجدانه بعض القيم والمعتقدات التي تسود اللغة التي تعلم بوساطتها، ومهما حاول الدارس أن يبعد التأثيرات الجانبية للغة الأجنبية فلن تدعه تلك التأثيرات الجانبية بسلام. إن كثيراً من قضايانا الاجتماعية والسياسية صارت تناقش بمعايير ليست من معتقداتنا ولا من قيمنا في شيء، إن طرح عنوانات من مثل: (الساكنة والشرق أوسطية والمثلية والسامية) إنما جاءت بتأثير من التماهي في الثقافة الغربية ولغاتها، ومعظم الذين يروِّجون لها هم ممن تطغى الثقافة الأجنبية على تكوينهم العلمي، إن طفلنا الذي يقرأ في موسوعة الطفل الأمريكية أن (القدس) عاصمة إسرائيل وأن لا وجود لكيان اسمه فلسطين أو عرب فلسطين سوف نجد صعوبة بالغة في إقناعه بخلاف ذلك ما دمنا نحشو رأسه ليل نهار بأن اللغة الأجنبية هي مصدر المعرفة الأوثق والأوفى. لا أريد أن يفهم من كلامي هذا أن المجتمع الغربي ليس لديه قيم إيجابية يجب الإفادة منها في حركة النهضة العربية المعاصرة، كما لا يعني أن القيم الغربية السلبية لن تتسلل إلينا إذا نجح مشروع التعريب، لكن ما أريد توكيده أن تعريب التعليم مرقاة إلى تغليب الفكر العروبي الذي سيقلل من نفاذ القيم السلبية إلى مجتمعنا. وإذا كنا نؤمن بأن العقيدة محفوظة بالوعد الإلهي الخالد، فماذا عن بقية قيمنا الإيجابية التي وضعها المجتمع العربي لحماية نفسه كقيم الغيرة والنخوة، والنجدة والعيب، والجوار، التي قد لا نجد لبعضها مرادفات في اللغة الأجنبية.
2-أثر التعريب في الإنتاج العلمي والأدبي:
إن التعريب هو وسيلتنا لا لحفظ اللغة العربية فحسب، بل لتنميتها وتطويرها بما يجعلها قادرة على مواكبة مستجدات العصر والتعبير عنها بدقة ووضوح، ذلك أن التعريب يفرض مستلزمات ومتطلبات تحرك الواقع الثقافي والعلمي وتدفعه إلى الأمام. وأهم تلك المتطلبات:
أ-قيام حركة ترجمة واسعة تشمل النقل من مختلف اللغات الحية:
فقد انطلقت حركة الترجمة العلمية في بداية عصر النهضة الحديثة لتوفير الكتب والمراجع العلمية اللازمة لطلبة المدارس المتخصصة والكليات العلمية في مصر والشام، إذ ترجم في مصر ما بين سنتي (1832 و1835) ما يزيد عن مئتي كتاب في مختلف العلوم الأساسية والتطبيقية من هندسة ومعادن وطب وفيزياء ورياضيات.. (10). وما زال تعريب العلوم والتعليم هو الدافع الأول للترجمة العلمية، لأن الذي يقوم عليه هو مؤسسات علمية بحثية بالمقام الأول. لقد ترجمت وزارة التعليم العالي في سورية حتى عام (1996) ثلاثة وتسعين كتاباً علمياً في العلوم الأساسية والتطبيقية(11)، وترجم مركز المطبوعات الجزائري نحو خمسين كتاباً(12)، والمركز العربي للتعريب والترجمة والنشر بدمشق نحو ثلاثة وخمسين كتاباً، ومثلها المركز العربي للوثائق والمطبوعات الصحية في الكويت(13)، وكذلك مؤسسة الكويت للتقدم العلمي ومجمع اللغة العربية الأردني. ولا بد من الاعتراف بضعف حركة الترجمة العربية الثقافية عامة والعلمية خاصة، إذ يصنَّف العرب في مؤخرة الترتيب العالمي إذ يترجم العرب (285) كتاباً في السنة، في حين تترجم تركيا وحدها(1000) كتاب وروسيا (7000) كتاب(14). ولكن حتى هذا الترتيب المتأخر وهذا العدد المتواضع كان وسيكون أسوأ بكثير لو لم يكن