بل نجد آثاره في لغات سامية أخرى، وانما
ظهر وعرف في عربيتنا، لأن اللغات الأخرى
قد ماتت في الغالب، فلم يبق أحد من
الناطقين بها، لنتبين كلامه، ولأن نصوصها
غير مشكلة، وهي خالية من الحروف التي تدل
على الشكل والحركات، لذلك لا نستطيع
التحدث عن وجود الإعراب بها. ولكن بعض
النصوص البابلية تشير إلى وجود الإعراب
بها. واللاتينية مع أنها من اللغات الآرية
فهي لغة معربة كذلك. ويخيل لي ان معظم
العامة، ولتكون اللسان الرفيع الذي يخاطب
الإنسان به أربابه، ثم خفت حدة الحاضر،
تبسط لغتها وتختزل لغتها قواعدها وجمل
كلامها ليتناسب الكلام مع عقلية السرعة
التي أخذت تسيطر على الإنسان الحاضر.وما قلته عن اللغات الأخرى من صعوبة
التكلم عن إعرابها، بسبب عدم وجود نصوص
مشكلة عندنا تشير إلى طرق اإعراب بها،
ينطبق كذلك على اللغات العربية الجنوبية،
وعلى اللغات الأخرى، مثل الصفوية،
والثمودية واللحيانية، لعدم وجود الحركات
بها أو العلأمات الدالة على الإعراب. وخلو
هذه اللغات من العلأمات التي تقوّم
الإعراب، هو بالنطق في اللسان، وهو ما لا
يمكن استخراجه من الكتابة العربية
الجنوبية، فاللسان هو الذي يشكل ويحرك
الألفاظ وفق مقتضيات قواعد الألسنة: أما
النبطية، وهي من اللهجات العربية
الشمالية، ففيها ظواهر بالرزة تشير إلى
انها كانت لغة معربة، وهي في نظري أقرب
اللغات العربية الجاهلية إلى عربية
القرآن الكريم، فالأسماء في النبطية،
معروفة في عربيتنا قليلة في العربيات
الأخرى، وهي قريبة من هذه العربية في أمور
أخرى نحوية وصرفية.
اللحن
من معاني اللحن: اللغة. "روي أن القرآن نزلبلحن قريش، أي بلغتهم. وفي حديث عمر رضي
الله عنه: تعلموا الفرائض والسنة واللحن،
بالتحريك، أي اللغة"، ومنه قول "عمر":
"تعلموا الفرائض والسنن واللحن، كما
تَعلَّمون القرآن". ومن معانيه الخطأ في
الكلام. "قال أبو عبيد في قول عمر رضي الله
عنه: تعلّموا اللحن، أي الخطأ في الكلام
لتحترزوا منه"، وورد: "وأما قول عمر رضي
الله عنه: تعلّموا اللحن والفرائض، فهو
بتسكين الحاء، وهو الخطأ في الكلام ... قال
أبو عدنان: سألت الكلابيين عن قول عمر:
تعلّموا اللحن في القرآن كما تعلمونه،
فقالوا: كُتب هذا عن قوم ليس لهم لغو
كلغونا، قلت: ما اللغو ؟ فقال: الفاسد من
الكلام. وقال الكلابيون: اللحن: اللغة.
فالمعنى في قول عمر: تعلموا اللحن فيه،
يقول: تعلموا كيف لغة العرب فيه الذين نزل
القرآن بلغتهم"، "وجاء في رواية تعلموا
اللحن في القرآن كما تتعلمونه، يريد
تعلموا لغة العرب بإعرابها"، ووردت اللفظة
بمعان أخرى. وقد أجمل العلماء ما جاء فيها
من معان بستة معان: الخطأ في الإعراب،
واللغة، والغناء، والفطنة، والتعريض،
والمعنى.وقد ذكر أن الرسول لما أرسل "سعد بن معاذ"،
وهو يومئذ سيد الأوس و "سعد بن عبادة"، وهو
يومئذ سيد الخزرج إلى "كعب بن أسد"، وكان قد
نقض عهده للرسول وبرئ مما كان بينه وبين
رسول الله، قال لهما: "انطلقوا حتى تنظروا
أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا، فإن
كان حقاً فالحنوا إليّ لحناً أعرفه و لا
تفتوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على
الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به
للناس"، فلما أتيناهم وجداهم على أخبث ما
بلغهما عنهم، نالوا من رسول الله، "وقالوا:
من رسول الله ! لا عهد بيننا وبين محمد و لا
عقد"، فلما عادا إلى رسول الله قالا: "عضل
والقارة. أي كغدر عضل والقارة"، فاللحن هنا
بمعنى الإيماءة والاشارة والرمز، فاللحن
هنا أن تريد الشئ فتوري عنه.والذي أريده من اللحن، الخطأ في الكلام،
والزيغ عن الإعراب، وهو معنى لا نستطيع
فهمه من النصوص الجاهلية، لخلو تلك النصوص
من الكركات، ومن الإشارة إلى قواعد لغاتها.
ولذلك فلا مناص لنا لفهمه إلا بالرجوع إلى
الموارد الإسلامية. وهي تذكر أن اللحن
بهذا المعنى، لم يظهر إلا في الإسلام، ظهر
بسبب دخول الأعاجم في دين الله، واختلاطهم
بالعرب، وأخذهم لغتهم واتصال العرب بهم،
ففسدت الألسنة، وظهر اللحن بين الموالي
وبين العرب. وقد عيب ظهوره في العربي، حتى
غلب على ألسنة الناس. وهم يذكرون ان العربي
القح الأصيل، لم يكن يخطئ في كلامه، لأنه
يتكلم عن طبع وسجية، ومن كان هذا شأنه، لا
يقع اللحن في كلامه، أو لأنهم كانوا
يتأملون مواقع الكلام ويعطونه في كل موقع
حقه وحصته من الإعراب عن ميزة وعلى بصيرة.