شاعر واحد نظم شعره وعاش في العربية
الجنوبية أو نظم بلهجة متأثرة باللهجات
العربية الجنوبية، فأكثر من ذكروهم من
الشعراء انما هم من الشعراء الذين قضوا
أكثر حياتهم خارج العربية الجنوبية، وقد
كان في هذه العربية شعراء ولابد، فليس من
المعقول خلوها من الشعر والشعراء، ولكن
علماء العربية لم يعتنوا إلا بشعراء
القبائل التي احتكوا بها والتي أخذوا
العربية عنها، والتي اعتبروا لسانها من
افصح ألسنة العرب، فضاع بسبب ذلك شعر
القبائل التي كانت بعيدة عنهم أو التي كان
لسانها بعيداً بعض البعد عن العربية التي
ارتضوها والتي نزل بها القرآن الكريم.ولا نجد في الشعر الجاهلي الواصل الينا
شعراً نظم في أغراض دينية وثنية، أي في
عبادات القوم قبل الإسلام، اللهم إلا ما
نسب إلى بعض الشعراء الأحناف من شعر فيه
تحنف، وإلا ما نسب إلى بعض آخر من شعر فيه
اشارات عابرة إلى عقائد يهودية أو
نصرانية. أما شعر وثنى خالص، من شعر فيه
ترنيم بالأصنام والأوثان، وتحميد لها
وتقديس، أو وصف لطقوس دينية وثنية، فهو
شعر لم يصل الينا منه شئ، وسبب عدم وصوله
الينا هو الإسلام، الذي اجتث ما يمت إلى
الوثنية بصلة قريبة، وقضى عليه، فأمتنع
المسلمون من رواية هذا النوع من الشعر.
الشاعر
والشاعر متعاطي الشعر ومحترفه ومن يقوله،أو يكثر القول منه. ذكر علماء اللغة أنه
أنما سمي شاعراً، لأنه يشعر ما لا يشعر
غيره، أي يعلم، أو لفطنته.ومن هنا قال البعض ان الشعراء في الجاهلية
كانوا أهل المعرفة، يعنون أنهم كانوا من
اثقف أهل زمانهم، وأنهم كانوا على مستوى
عال في الفكر والرأي وفي فهم الامور.وجعلوا للشعراء مزايا، ومنحهم العلماء
امتيازات خاصة، وقالو عنهم: "الشعراء
أمراء الكلام، يقصرون الممدود، ويمدون
المقصور، ويقدمون ويؤخرون، ويؤشرون
ويشيرون، ويختلسون ويعيرون ويستعيرون.
فاما لحن في إعراب، أو أزالة كلمة عن نهج
صواب، فليس لهم ذلك".وفي كتب أهل الأخبار أخبار تدل على اعتداد
الشعراء بأنفسهم من ناحية الرقي العقلي،
وعلى تقدير الناس لمدارك الشعراء. جاء أن
"الطفيل الدوسي قدم مكة ورسول الله بها،
فحذره رجال من قريش من سماع النبي حتى لا
يتأثر بقوله. قال الطفيل: فما زالوا بي حتى
أجمعت ألا أسمع منه شيئاً، ثم قلت في نفسي:
واثكل أمي! والله إني لرجل لبيب شاعر، ما
يخفى علي الحسن من القبيح، فما يمنعني من
ان أسمع هذا الرجل ما يقول؟ فإن كان الذي
يأتي به حسناً قبلته، وان كان قبيحاً
تركته"، وجاء في خبر اخر، "ان الطكفيل لما
قدم مكة، ذكر له ناس من قريش أمر النبي صلى
الله عليه وسلم، وسألوه أن يختبر حاله
فأتاه فأنشده شعره، فتلا النبي الاخلاص
والمعوذتين فأسلم". وفي هذا الخبر ان صح
دلالة على تقدير الناس لفطنة الشاعر ولسمو
مداركه. وقد رأينا ما كتبه "هوذة بن علي"
الحنفي، للرسول من انه شاعر قومه وسيدهم،
ونجد في خبر "جلاس بن سويد" الصامت
الانصاري، أن قومه اتوا عليه "فقالوا: إنك
امرؤ شاعر..."، وفي هذه الاخبار وغيرها
دلالة على ان الشعراء كانوا يرون أنفسهم
فوق الناس في الفطنة والفهم، وأن الناس
كانوا يرون هذا الرأي فيهم، لما يجدونه
فيهم من فطنة وذكاء.ولا يعني هذا ان الشعراء كانوا كلهم من
أرقى الناس عقلاً، ومن افهم الناس
ادراكاً، ومن اعلمهم بالأمور وابصرهم
بالمعرفة، فبينهم ولا شك تفاوت في
الادراك، وفي مجتمعهم من هو أرقى منهم
عقلاً وأكثر منهم ادراكاً، وهم مع ذلك لا
يقولون الشعر أو لا يمارسونه، مثل الحكام
والكهنة وأصحاب الآراء. وانما الشعر، ملكة
لا تكون إلا عند صاحب حس مرهف ولا تظهر الا
في انسان ذكي فطن لبيب، يذل الالفاظ
والابيات، لتنصاع لإرادته، فيخرجها
أبياتاً وقصائد تعبر عن مشاعره ومداركه.
فالشاعر من هنا من اذكى الناس، ومن أهل
الإدراك والمعرفة.والشعراء ككل البارزين من طبقات مختلفة
تباينت في السويات، منهم من نبت من عائلة
شريفة، ومنهم من نبت من عائلة أعرابية،
ومنهم من نبغ من بيت فقير. وقد سمي أهل
الاخبار شعراء بأسمائهم كانوا من اشراف
قومهم، وسموا شعراء كانوا من اوساط
أقوامهم، أو من النابتة. فالنبوغ لا يختص
بجماعة دون جماعة، ولا بطبقة دون طبقة.