كالمعلقات، لم يتم نظمها دفعة واحدة.
ومهما كانت القافية كثيرا ما تهدي الشاعر
في نظم شعره، فانه يجدر بنا إن نتصور نشأة
القصيدة في الزمن القديم على غرار ما وصفه
"موزل" عند شعراء البادية المحدثين. وعلى
ذلك فلا يستبعد بحال من الاحوال أن تكون
القصيدة من نتاج حول كامل ومن هنا وجدنا
رواية أكثر القصائد لا تثبت على ترتيب
واحد. فقد ينشد الشاعر شعراً لرواته
وأحبائه اول الأمر لئلا ينساه، ثم يزيد
عليه، لا سيما إذا ذكروه أحباؤه بشئ غفل
عنه، وربما بدل بعض أبياته بعد ذلك باخرى
لم يسمعها ذووه الأولون، فتختلف الرواية
عن الشاعر. ولا يأبى الشاعر نفسه أن يعترف
بأن كل ذلك من بنات افكاره. وقد يكون ذلك
أيضاً هو السبب في إن كثيراً من الشعر
القديم لم تبق منه إلا قطع متفرقة".ولا يختلف الشاعر الجاهلي عن الشاعر
الاسلامي في نظري في تهذيب شعره وتنقيحه.
فقد كان للفرزدق الشاعر المشهور الذي حفظ
وروى شعر عدد كبير من الشعراء المتقدمين
رواة، كانوا يعدلون ما انحرف من شعره،
ويهذبون ما يحتاج منه إلى تهذيب، وكانوا
يروونه. وكان لجرير، الشاعر الآخر، وهو
خصم الفرزدق ومنافسه في قول الشعر، رواته
ومعدلو شعره. كانوا يقومون ما انحرف من
شعره وما فيه من السناد. واذا كان هذا شأن
شعراء أيام الأمويين الذين ورثوا تقاليد
الشعراء المخضرمين والجاهليين، وساروا
على هديهم في الشعر، لا نستبعد اذن لجوء
الشاعر الجاهلي ورواته إلى التحكيك
والتعديل واجراء التهذيب على شعره، لغفلة
قد تكون وقعت له، وقد فاتت عليه، أو لمعنى
فات عليه، أدركه رواته عند إنشاده له، أو
غمز به خصومه فأظطر إلى اجراء تنقيح عليه
لإخراجه بالشكل الذي رآه يصلح فيه.وقد حكك ونقح علماء الشعر ورواته، ما
سمعوه واخذوه من شعر، لأنهم وجدوا انه في
حاجة إلى تحكيك، أو أنهم رأوا أن فيه
خللأً، وان عليهم واجب إصلاحه وتقويمه.
أجروا مثل هذا التنقيح حتى في شعر الشعراء
الاسلاميين. روي عن "الاصمعي" قوله: "قرأت
على خلف شعر جرير، فلما بلغت قوله:
فيا لك يوماً خيره قبل شره
تغيب واشيه وأقصي عاذله
تغيب واشيه وأقصي عاذله
تغيب واشيه وأقصي عاذله
له: هكذا قرأته على أبي عمرو. فقال لي: صدقت
وكذا قاله جرير، وكان قليل التنقيح، مشرد
الألفاظ، وما كان أبو عمرو ليقرئك إلا كما
سمع. فقلت: فكيف كان يجب أن يقول؟ قال:
الأجود له لو قال: فيا لك يوماً خيره دون
شره.فاروه هكذا، فقد كانت الرواة قديماً تصلح
من أشعار القدماء، فقلت: لا أرويه بعد هذا
إلا هكذا".وقد اضطر علماء الشعر إلى تنقيح ألفاظ في
الشعر بسبب تصحيف أو تحريف وقع عليها بفعل
النساخ، ومثل هذا التنقيح مستساغ بالطبع،
بل واجب لأن فيه اعادة الشعر إلى الصواب،
على أن ينص على الاصل الذي كان مكتوباً به،
والتصحيح الذي أدخل عليه، وعلى السبب الذي
حمل العالم على اجرائه عليه.
دواوين الشعر الجاهلي
ودواوين الشعراء الجاهليين، الموجودةعندنا هي كلها وبغير استثناء من جمع علماء
الشعر الاسلاميين. فلا يوجد من بينها
ديوان واحد ذكر انه كان من جمع اهل
الجاهلية. وقد شرع بصنع هذه الدواوين في
العصر الأموي. وبلغت العناية بها ذروتها
في القرن الثالث للهجرة. وقد أبدى علماء
العراق من موالي وعرب تفوقاً كبيراً على
غيرهم من علماء الأمصار الاسلامية في هذا
الباب.وقد نسب إلى "ابن عباس" قوله: "إذا اعياكم
تفسير آية من كتاب الله، فأطلبوه في الشعر
فأنه ديوان العرب". وإذا صح أن هذا الكلام
الذي رواه "عكرمة" عن "عبد الله بن عباس" هو
من كلامه نكون قد حصلنا لأول مرة على لفظة
الديوان، بالمعنى المفهوم من اللفظة في
عرف علماء الشعر والناس.وذكر أن لفظة "الديوان" قد وردت في حديث:
"لا يمجمعهم ديوان حافظ". وإذا صح هذا
الحديث وثبت، يكون ورود اللفظة فيه قبل
وردوها في كلام "ابن عباس"، ومعنى هذا أنها
كانت معروفة عند أهل الجاهلية. غير أن
ورودها في هذا الحديث لا يعني ديوان شعر،
وإنما الجمع والاحصاء، وبمعنى كتاب وسجل
تدون فيه الاشياء.