مفصل فی تاریخ العرب قبل الإسلام جلد 4
لطفا منتظر باشید ...
وهكذا كان الأمر بالنسبة للمواضع الأخرى
مثل: "اثنتا عشرة عيناً"، فقد قرئ بسكون
الشين وهي لغة تميم"، وكسرها وهي لغة
الحجاز، وفتحها وهي لغة، ومثل "الصراط"،
فقد قرأت بالسين وبالصاد، والقراءتان
لهجتا قبائل، ومثل "حتى"، فقد قرئت "عتى"،
قرأها "ابن مسعود"على لسانه، إذ كان من
هذيل.وقد ذكر "المعري" أمثلة على قراءات في
القرآن قرأها علماء مشهورون مثل "حمزة بن
حبيب"، هي منكرة في نظر غيره من العلماء،
"ينكرها عليه أصحاب العربية، كخفض الأرحام
في قوله تعالى: وأتقوا الله الذي تساءلون
به والأرحام، وكسر الياء في قوله تعالى:
وما أنتم بمصرخي، وكذلك سكون الهمزة في
قوله تعالى استكباراً في الأرض ومكر السئ
، وجاء بأمثلة أخرى من قراءات غيره
للقرآن.والخلاف الذي نلاحظه في أمور النحو بين
علماء البصرة وعلماء الكوفة، في مثل عمل
الأسماء والأدوات: أدوات الجرّ، أو الخفض،
وأدوات النصب، وأدوات الجزم، وأمثال ذلك،
هو في حدّ ذاته دليل على وجود إعراب متعدد
للعرب، وقف العلماء على شئ يسير منه،
فوقعوا من في بلبلة من أمره، بسبب عدم
اهتمامهم بأمر تلك اللغات، واقتصارهم في
جمعهم قواعد النحو على لهجات الأعراب
الذين اتصلوا بهم، فظهر لهم وكأنه نشاز،
ولو فطنوا يومئذ إلى أنه من إعراب الذين
أخذ عنهم البصريون: قيس، وتميم، وأسد، "فإن
هؤلاء هم الذين أخذ عنهم أكثر ما أخذ
ومعظمه، وعليهم اتكل في الغريب، وفي
الإعراب، والتصريف. ثم هذيل، وبعض كنانة،
وبعض الطائيين، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر
قبائلهم"، والقبائل المذكورة باستثناء
الطائيين، هم من مجموعة "مضر"، وليس فيها
قبيلة من "ربيعة"، لذلك نستطيع القول ان
العربية قد بنيت على لهجات مضر، وحيث أن
علماء اللغة أهملوا لغات القبائل الأخرى
وبينها قبائل من مضر كذلك، فلم يأخذوا
منها إلا عرضاً، تولد من عملهم هذا بناء
العربية على تلك اللهجات وبموجب اجتهاد
واستقصاء أولئك العلماء، فطهر من أجل ذلك
الغريب والنشاز، والاختلاف في الإعراب،
الذي أشار إلى قسم منه العلماء، وهو الذي
احتاجوا اليه للاستشهاد به في الشواهد
والمناظرات، وأكثره من لغات مضر، وأهملوا
الباقي، ولو هم سجلوا كل ما عرفوه من نشاز
لتجمع من ذلك تراث كبير كثير من تراث
اللغات الجاهلية من اختلاف في لغة وقواعد
اعراب وصرف.لقد تمسكت القبائل بقواعد ألسنتها حتى في
الإسلام، فكان أفرادها ينطقون بلهجتهم،
من ذلك ما ذكره "الزجاجي" من اختلاف "عيسى
بن عمر "الثقفي، و "أبو عمر بن العلاء" في
رفع أو نصب: "ليس الطيب إلا المسك"، ومن
احتكامها إلى "أبي المهدي"، فلما ذهبا اليه
وجداه لا يرفع، فلما حاولا اقناعه بالرفع،
أبي عليهما ذلك وقال: "لا، ليس هذا من لحني
و لا من لحن قومي"، فلما ذهبا إلى "المنتجع"
التميمي، وجداه لا ينصب وأبى إلا الرفع،
وذكر "الزجاجي": "ليس في الأرض حجازي إلا
وهو ينصب، و لا في الأرض تميمي إلا وهو
يرفع".
وقع ذلك في الإسلام وبعد تثبيت
القواعد، وكان هذا حال قبائل الحجاز، وحال
تميم في الجاهلية و لا شك، فهل يعد هذا
الاختلاف دلالة على عدم وجود اللحن عند
أهل الجاهلية، أم يعدّ دليلاً على وجوده
عندهم ؟ لقد أدى اقتصار العلماء في أخذهم
العربية عن القبائل التي ذكروها وفي
تمسكهم برأيهم في أن تلك القبائل، هي
صاحبة اللغة الفصيحة، إلى نبذ اللهجات
العربية الأخرى، لاعتبارهم اياها لهجات
مستقبحة، ولغات حشوية، فخسرت العربية
بذلك خسارة كبرى، وظهر بسبب ذلك التنابذ
في مذاهب علماء العربية، بسبب اعتمادهم
على لغات معينة محدودة، وليس على كل
اللغات العربية القريبة من لغة القرآن،
ليتمكنوا بذلك من استقرائها كلها
واستنباط القواعد الكلية منها.ومن جملة الأمور التي يجب أن نشير إليها
وننتبه اليها، هو أن علماء العربية حين
كانوا يشيرون إلى لهجة من اللهجات، مثل
لهجة أهل الحجاز، أو لهجة هذيل، أو تميم،
وأمثالها، كانوا يشيرون اليها بالتعميم،
مثل: جاء هذا على لغة اهل العالية: أو على
لغة اهل الحجاز، أو على لغة تميم مع ان
حكمهم هذا لم يؤخذ من دراسة لغة القبيلة
المشار اليها، وانما اخذ من لسان اعرابي
أو اكثر، بينما الحكم على منطق انسان واحد
أو اثنين أو ثلاثة، لا يمكن ان يتخذ حجة
للحكم على منطق قبيلة باكملها، اضف إلى
ذلك ان القبائل الكبيرة كانت موزعة
منتشرة، والحجاز وحده ذو قبائل كثيرة،
متعارضة اللغات، فكيف يقال: