مفصل فی تاریخ العرب قبل الإسلام جلد 4
لطفا منتظر باشید ...
ولابن قتيبة رأي في الشعر يخالف رأي "أبي
عمرو بن العلاء" وأصحابه، رأيه في قيمة
الشعر رأي الجاحظ الذي ذكرته، وقد عرضه
بقوله: "رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر
السخيف لتقدم قائله، ويضعه في متخيره،
ويرذل الشعر الرصين، و لا عيب له عنده إلا
انه قيل في زمانه، أو انه رأي قائله.ولم يقصر الله العلمَ والشعر والبلاغة
على زمن دون زمن، ولا خص به قوماً دون قوم،
بل جعل ذلك مشتركاً مقسوماً بين عباده في
كل دهر، وجعل كل قديم حديثاً في عصره، وكل
شرف خارجية في أوله".وقال: "ولم أسلك، فيما ذكرته من شعر كل
شاعر مختاراً له، سبيلَ من قلّد، أو
استحسن باستحسان غيره، و لا نظرت إلى
المتقدم منهم بعين الجلالة لتقدمه، والى
المتأخر بعين الاحتقار لتأخره، بل نظرت
بعين العدل على الفريقين، وأعطيت كلاً
حظه، ووفرت عليه حقه".قال خلف الأحمر: قال لي شيخ من أهل الكوفة:
أما عجبتَ من الشاعر قال:
أنبتَ قيصوماً وجثُجاثاً .فاحتُمِلَ له، وقلت أنا: أنبتَ إجاصاً
وتفاحاً
فلم يُحتمل لي ؟".ومن شدة عجب الناس بالشعر الجاهلي انهم
جعلوه انموذجاً لشعرهم ودليلاً لهم
وهادياً في أصول نظم الشعر، من محافظة على
مظهر القصيدة وعلى "عمود الشعر". وجعلوا
الشكل الخارجي، الذي رسم للقصيدة من ذكر
الديار والدمن والآثار إلى آخر ما قالوه
عن ترتيب المراحل التي يجب أن تمر بها
القصيدة، ثم عمود الشعر مقياسين، قاسوا
بموجبها الشعر الجيد من الشعر الرديء،
وميزوا بينهما بهذين المقياسين. "فالشاعر
المجيد مَن سلك هذه الأساليب، وعدّل بين
هذه الأقسام، فلم يجعل واحداً منها أغلب
على الشعر، ولم يطل فيملّ السامعين، ولم
يقطع وبالنفوس ظمأ إلى المزيد".وكان "الجاحظ" وهو من شيوخ الأدباء، يرى
مذهب الأديب في تقدير الشعر وتثمينه، يرى
أن الشعر بمواضع الحسن منه، وبالمعاني
الجليلة التي فيه، وعلى الألفاظ العذبة
التي تشتمله، وفي ذلك يقول: "وقد أدركت
رواة المسجديين والمربديين، ومن لم يروِ
أشعار المجانين ولصوص الأعراب، ونسيت
الأعراب، والأرجاز الأعرابية القصار،
وأشعار اليهود، والأشعار المنصفة -فإنهم
كانوا لا يعدونه من الرواة. ثم استبردوا
ذلك كله ووقفوا على قصار الأحاديث
والقصائد والفقر والنتف من كل شيء، ولقد
شهدتهم وما هو إلاّ أن أورد عليهم خلف
الأحمر نسيب الأعراب، فصار زهدهم في نسيب
العباس بقدر رغبتهم في نسيب الأعراب، ثم
رأيتهم منذ سُنيات وما يروى عندهم نسيب
الأعراب إلا حدث السن قد ابتدأ في طلب
الشعرأو فتياني متغزل.وقد جلست إلى أبي عبيدة والأصمعي ويحيى بن
نُجيم وأبي مالك عمرو بن كركرة مع من جالست
من رواة البغداديين، فما رأيت أحداً منهم
قصد إلى شعر في النسيب فأنشده، وكان خلف
يجمع ذلك كله.ولم أرَ غاية النحويين إلاّ كل شعر فيه
إعراب، ولم أرَ غاية رواة الأشعار إلا كل
شعر فيه غريب أو معنى صعب يحتاج إلى
الاستخراج، ولم أرَ غاية رواة الأخبار إلا
كل شعر فيه الشاهد والمثل، ورأيت عامتهم -
فقد طالت مشاهداتي لهم -لا يقفون على
الألفاظ المتخيرة والمعاني المنتخبة،
وعلى الألفاظ العذبة والمخارج السهلة
والديباجة الكريمة، وعلى الطبع المتمكن،
وعلى السبك الجيد، وعلى كل كلام له ماء
ورونق، وعلى المعاني التي ان صارت في
الصدور عمرتها وأصلحتها من الفساد
القديم، وفتحت للسان باب البلاغة، ودلت
الأقلام على مدافن الألفاظ، وأشارت إلى
حسان المعاني. ورأيت البصر بهذا الجوهر من
الكلام في رواة الكتاب أعم، وعلى ألسنة
حذاق الشعر أظهر ؛ ولقد رأيت أبا عمرو
الشيباني يكتب أشعاراً من أفواه جلسائه
ليدخلها في باب التحفظ والتذاكر، وربما
خُيل إليّ أن أبناء أولئك الشعراء لا
يستطيعون أن يقولوا شعراً جيداً، لمكان
إغراقهم في أولئك الآباء، ولولا أن أكون
عيّاباً ثم للعلماء خاصة، لصورت لك في هذا
الكتاب بعض ما سمعتُ من أبي عبيدة، ومن هو
أبعدُ في وهمك من أبي عبيدة".