وخمسين سنة تقريباً للشعر الجاهلي، لم
يبعدوا عن الصواب إذا فرضنا أنهم إنما
أرادوا بذلك ما وصل الينا من الأشعار
القديمة"، بمعنى أن أقدم ما وصل إلى علمنا
من ذلك الشعر بصورة لا يرتاب بصحتها، لا
يمكن أن يرتقي عهده أكثر من قرن أو قرن
ونصف عن الهجرة على أكثر تقدير، وأن أقدم
اسم شاعر جاهلي وصل إلى سمعنا لا يرتقي
عهده عن هذا التقدير. أما إذا كان قصدهم أن
نظم القصيد كان قد بدأ في هذا الوقت، وأن
الشعر بالمعنى الاصطلاحي المفهوم منه لم
يظهر عند العرب، إلا قبل قرن أو قرنين عن
الإسلام، فذلك خطل في الرأي، وفساد في
الحكم. فالشعر أقدم من هذا العهد بكثير،
وقد أشار المؤرخ "سوزيموس" Zosimus" "إلى وجود
الشعر عند العرب، وهو من رجال القرن
الخامس للميلاد، إلى تغني العرب
بأشعارهم، وترنيمهم في غزواتهم بها، وفي
إشارته إلى الشعر عند العرب دلالة على قدم
وجوده عندهم، واشتهاره شهرة بلغت مسامع
الأعاجم، فذكره في تأريخه. وفي سيرة
القديس "نيلوس""Nilus" المتوفى حوالي السنة
"430" بعد الميلاد، أن أعراب طور سيناء كانوا
يغنون أغاني وهم يستقون من البئر. وهي
أشعار ترنم بإيقاء، تشبه أناشيد
العبرانيين عند استقائهم الماء من الآبار.
"حينئذ ترنم اسرائيل بهذا النشيد: اصعدي
أيتها البئر أجيبوا لها، بئر حفرها رؤساء،
حفرها شرفاء الشعب بصولجان بعصيتهم"،
والأشعار المروية في كتب التواريخ والأدب
عن حفر آبار مكة وغيرها من هذا القبيل، فقد
روي أن "عبد المطلب" لما حفر بئر "زمزم"،
قالت "خالدة بيت هاشم ":
نحن وهبنا لعدي سجلـه في
تربة ذات عذاة سهله
تربة ذات عذاة سهله
تربة ذات عذاة سهله
خفرت خماّ وحفرت رما حتى
أرى المجد لنا قد تما
أرى المجد لنا قد تما
أرى المجد لنا قد تما
إن الطوى إذا شربتم ماءهـا
صوب الغمام عذوبة وصفاء
صوب الغمام عذوبة وصفاء
صوب الغمام عذوبة وصفاء
ماء شفية كماء المـزن
وليس ماؤها بطرق أجن
وليس ماؤها بطرق أجن
وليس ماؤها بطرق أجن
الدار " قالت في حفر بئر "أم أحراد":
نحن حفرنا البحر أم أحراد
ليست كبذر النذر والجماد
ليست كبذر النذر والجماد
ليست كبذر النذر والجماد
نحن حفـرنـا بـذر
من مقبـل ومـدبـر
فيها الجـراد والـذر
وقـذر لا يذكــر
تروى الحجيج الأكبر
وأم أحـراد بـشـر
وقـذر لا يذكــر
وقـذر لا يذكــر
بن وهب" الجمحي، قال قائلهم:
نحن حفرنا للحجيج سنـبـلـه
صوب سحاب ذو الجلال أنزله
صوب سحاب ذو الجلال أنزله
صوب سحاب ذو الجلال أنزله
وائل، قال ابن الربعي أو غيره:
نحن حفرنا الغمر للحجيج
تثج ماء أيمـا ثـجـيج
تثج ماء أيمـا ثـجـيج
تثج ماء أيمـا ثـجـيج
نحن حفرنا بئرنا الحفيرا
بحراً يجيش ماؤه غزبرا
بحراً يجيش ماؤه غزبرا
بحراً يجيش ماؤه غزبرا
شاعرهم:
نروي على العجول ثم ننطلق
إن قصيّاً قد وفى وقد صدق
إن قصيّاً قد وفى وقد صدق
إن قصيّاً قد وفى وقد صدق
أنا قصيّ وحفرت سـجـلة
تروي الحجيج زغلة فزغلة
تروي الحجيج زغلة فزغلة
تروي الحجيج زغلة فزغلة
لعدي بن نوفا، فقالت: خلدة بنت هاشم:
نحن وهبنا لعـدي سـجـلة
تروي الحجيج زغلة فزغلة
تروي الحجيج زغلة فزغلة
تروي الحجيج زغلة فزغلة
زمزم، وفي آبار أخرى، مما يدل على أن العرب
كانوا قبل هذا العهد، إذا حفروا بئراً،
قالوا شعراً فيها، وهو شعر يمكن أن نسميه
شعر الآبار، وهو يعود و لا شك إلى عرف
قديم، قد يتقدم على الميلاد بكثير، وهو
يجب أن يكون من أقدم ما قيل من الشعر، لما
للبئر من أهمية في حياة العرب.ولم يقتصر التغني بالشعر على حفر الآبار
وحدها، وإنما تغنى به عند بنائهم بناء أو
حفرهم خندقاً، أو أقامتهم سوراً، أو
قيامهم بزرع أو حصاد، وفي أعمال أخرى يناط
بها إلى جماعة في الغالب، وكذلك في
الغارات وفي الحروب.