مفصل فی تاریخ العرب قبل الإسلام جلد 4
لطفا منتظر باشید ...
وان من شعراء "تميم" "أوس بن حجر" شاعر مضر
في الجاهلية، ولم يتقدمه أحد منهم، حتى
نشأ "النابغة"، و "زهير" فأخكلاه، وبقي شارع
"تميم" في الجاهلية غير مدافع.ولا يمثل هذا التنقل الزعوم ترتيباً
زمنياً، بمعنى ان الشعر بدأ بربيعة أولاً،
ثم انتقل منها إلى قيس، ثم انتقل بعدها إلى
تميم، إذ يتعارض ذلك مع ما يرويه أهل
الأخبار وعلماء الشعر من تعاصر أكثر
الشعراء، ومن نبوغ معظمهم في وقت واحد،
وانما هو قول من أقوال أهل الأخبار
المألوفة، أصله رأي رجل واحد، حمل عنه
بالنص بذكر اسمه أحياناً، وبدون ذكره
أحياناً أخرى، فلما تواتر في الكتب، صار
في حكم الإجماع، يقال دون نقد و لا مناقشة
إلى هذا اليوم.وما ذكرته عن تنقل الشعر يمثل رأي الرواة
العدنانيين، أما اليمانية، فترى "تقدمة
الشعر لليمن: في الجاهلية بامرئ القيس،
وفي الإسلام بحسان بن ثابت". "وقال آخرون:
بل رجع الشعر إلى ربيعة فختم بها كما بدئ
بها". وهو رأي لليمانية، فقد صعب على
القحطانية المناهضة للعدنانية، الاعتراف
بالتفوق عليها حتى في الشعر، فزعمت أن
الشعر بدأ بها، وأنه كان من مكارمها
القديمة، وكل مكرمة إنما بدأت بقحطان، وما
عدنان إلا مستعربة أخذت عربيتها من "يعرب
قحطان"، وهي دون القحطانية في كل شئ.وحكم مثل هذا لا يمكن إصداره بالطبع إلا
بسند علمي، وليس في يد أحد حتى يومنا هذا
سند جاهلي، يؤيد رأي هذا أو ذاك، وقد لا
يأتي يوم يمكن اعطاء رأي علمي فيه. أما ما
ذكرته، فهو نقل لآراء أهل الأخبار، ورأينا
في آرائهم في هذه الأمور معروف، فنحن لا
نأخذ آرائهم مأخذ الجدّ، و لا نثق بها،
وكلها في نظرنا حاصل عصبية، وقد لعبت
العاطفة القبلية دوراً خطيراً في ظهورها،
ونحن لا نستطيع تقديم ربيعة على مضر في
الشعر، و لا تقديم مضر على ربيعة فيه، لعدم
وجود دليل لدينا نتخذه سنداً ومستمسكاً في
أيدينا لإثبات أي رأي من هذين الرأيين. أما
أن يكون قد بدأ باليمن، فالمسند، يعارضه
ويناقضه، إلا إذا اعتبرنا اليمن، القبائل
الساكنة في الشمال، أي خارج العربية
الجنوبية، والتي يرجع النسّابون نسبها
عادة إلى اليمن، وهي قبائل كانت تتكلم
بلهجات عربية شمالية، فذلك أمر آخر،
وأمرها عندنا حينئذ مثل أمر ربيعة ومضر،
للسبب المتقدم، وهو عدم وجود أدلة لدينا
تعيننا في الحكم بتقديم فريق على فريق،
واعطائه الأولوية في قول الشعر.والشعر في نظرنا موهبة انسانية عامة، لم
تختص بقوم دون قوم، و لا بأمة دون أمة، وهي
على هذه السجية بين العرب، لم تختص
بربيعة، حتى نقول ان الشعر بدأ بها، و لا
بمضر حتى نقول أنه ظهر أول ما ظهر عندها و
لا باليمن، حتى نقول انه بدأ بها وختم بها.
وانما هو نتاج قرائح كل موهوب وذي حس شاعري
من كل القبائل والعشائر. والشعر كما قلت
مراراً شعور وتعبير عن عواطف تخالج النفس،
فكل انسان يكون عنده حس مرهف، واستعداد
طبيعي، وذوق موسيقي، يمكن أن يكون شاعراً
من أي حي كان، ولهذا كان الشعراء من قيائل
مختلفة، واذا تقدمت قبيلة على أخرى في
كثرة عدد شعرائها، فليس مرّد ذلك ان تلك
القبيلة كانت ذات خس مرهف، واستعداد فطري
لقول الشعر، وان بقية القبائل كانت قبائل
غبية بليدة الخس والعواطف، فلم ينبغ بينها
مثل ذلك العدد من الشعراء، فقد تكون هنالك
أسباب أخرى نجهلها في هذا اليوم، جعلتنا
نتصور انها كانت متخلفة في الشعر، كأن
تكون منازل تلك القبائل بعيدة منعزلة، لم
يتصل بها أحد من جمّاع الشعر ورواته. وهم
بين كوفي وبصري، فلم يصل شعرها اليهم،
فانقطع نتيجة لذلك عنّا، أو ان تلك
القبائل كانت قبائل صغيرة، لم يكن لها شأن
يذكر، فانحصر شعرها في حدودها ولم يخرج
عنها، فخمل ذكره، ولم ينتشر خبره بين
القبائل الأخرى، فلما ظهر الإسلام كان قد
خفى ومات.ودليلنا اننا إذا دققنا في هذا الشعر
الجاهلي الواصل الينا في الكتب، نجد انه
شعر قبائل كبيرة، لعبت في الغالب دوراً
خطيراً في مجتمع ذلك اليوم، مثل: كندة
وبكر، وأسد، وتميم، وتغلب، ثم هو شعر
شعراء كان لهم اتصال وثيق بالعراق في
الدرجة الأولى، أي بملوك الحيرة، الذين
كان نفوذهم يشمل أرضين واسعة، مثل البحرين
ونجد واليمامة في بعض الأحيان، فكان
لقبائل هذه الأرضين اتصال بحكام الخيرة،
ولها مواقف معهم: حسنة أحياناً وسيئة
أحياناً أخرى، وفي مثل هذه المواقف، يكون
للشعراء دور خطير فيها، فهم بين مادح، أو
ذام قادح، أو رسول قوم جاء إلى الملوك في
وفادة لفك أسير، أو لاصلاح ذات بين، أو جاء
لنيل عطاء، ونخن لا نكاد نجد شاعراً من
الفحول أو من الشعراء المشهورين، الا وله
صلة بملك أو أكثر من هؤلاء الملوك، حتى
لايكاد يفلت منهم شاعر.