مفصل فی تاریخ العرب قبل الإسلام جلد 4
لطفا منتظر باشید ...
أما ملوك
الغساسنة، فلهم بعد أولئك الملوك صلة
بالشعراء، بل هم دونهم اتصالاً بالشعراء
ومرجع ذلك في نظري ان حكم الغساسنة لم
يتجاوز بادية الشام وحدود مملكة
البيزنطيين، فلم يكن لهم لذلك اتصال
بقبائل البادية البعيدة عن منطقة نفوذهم،
ولا بقبائل الحجاز ونجد واليمامة
والبحرين، فتقلص مجال اتصالهم بالشعراء،
ولم يصل اليهم الا الشعراء من أصحاب
الحاجات، الذين كانو يطوفون البلاد،
ويقصدون الموسرين الكرماء أينما كانوا
لنيل صلاتهم ثمناً لمدحهم لهم، والا
الشعراء الذين غضب ملوك الحيرة عليهم، أو
لم ينالوا منهم تحقيق مطمع وحل مشكل، أو فك
أسير، فجاءوا لذلك إلى الغساسنة خصومهم
نكاية بهم، والا بالشعراء الذين أغار
قومهم على أرض الغساسنة، فوقع نفر منهم في
أسرهم، فأرسلهم أهلهم وسطاء ورسلاًعنهم،
للتوسل اليهم بفك أسرهم.ونحن لو ثبّتنا أسماء مواطن شعراء
الجاهلية على صورة جزيرة العرب نرى أنها
كانت في الحجاز ونجد واليمامة، والبحرين
والعراق. أما بلاد الشام فقد كانت فقيرة
جداً بهم، بل لا نكاد نجد فيها شاعراً لامع
الاسم، ترك أثراً في الشعر. ويّلفت هذا
الجدب في الشعر النظر اليه حقاً، فقد عاشت
ببلاد الشام قبائل كبيرة كان لها شأن كبير
في تلك البلاد قبل الإسلام وفي الإسلام،
مثل غسان، وبهراء، وكلب، وقضاعة، وتنوخ،
وتغلب، وقبائل أخرى لعبت دوراً خطيراً في
الحروب مع عرب الحيرة، وفي مساعدة الروم،
كما لعبت دوراً خطيراً في الفتوحات
الاسلامية، فقد ساعدت الروم أولاً، ثم
انضمت إلى المسلمين في قتالهم مع
البيزنطيين، وقبائل هذا شأنها لا يعقل الا
يكون لها شعر وألاّ ينبع من بينها شعراء
لكثرة عددها ولمنافستها لعرب العراق،
ولكون لسانها هذا اللسان العربي الشمالي.
فهل كان عند تلك القبائل شعراء، لم يصل
اسمهم إلى علماء الشعر، فلم يذكروهم
لجهلهم بهم في عداد شعراء الجاهلية ؟ فصرنا
لذلك لا نعرف من أمرهم شيئاً! أو أنها كانت
مجدية حقاً لأنها كانت بمنأى عن الشعر
والشعراء، لتحضرها وتأثرها بالنصرانية
وبثقافة بني ارم، فلم توائم تربتها الشعر،
لذلك أجدبت فيه، ولم ينبت فيها شاعر لامع
الاسم ! يقول علماء اللغة: "والذين عنهم
نقلت العربية وبهم اقتدي، وعنهم أخذ
اللسان العربي من بين قبائل العرب هم: قيس،
وتميم، وأسد، فان هؤلاء هم الذين عنهم أكثر
ما أخذ ومعظمه، وعليهم اتكل في الغريب وفي
الاعراب والتصريف، ثم هذيل، وبعض كنانة،
وبعض الطائيين، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر
قبائلهم.وبالجملة، فانه لم يؤخذ عن حضري قط، ولا
عن سكان البراري ممن كان يسكن أطراف
بلادهم المجاورة لسائر الأمم الذين حولهم
؛ فانه لم يؤخذ من لحم ولا من جذام،
لمجاورتهم أهل مصر والقبط، ولا من قضاعة
وغسان، واياد، لمجاورتهم أهل الشام،
وأكثرهم نصارى يقرأون بالعبرانية، ولا من
تغلب. فالقبائل المذكورة، وان كانت من
القبائل العربية الكبيرة المرموقة، إلا
أن اقامتها ببلاد الشام اقامة طويلة
ومجاورتها أهل الشام، وتأثرها بلسانهم،
واعتناقها النصرانية، وأخذها ديانتها
بالسريانية التي سماها أهل الأخبار خطأ
العبرانية، وتحضرها وقرارها والتهائها
بالزرع والرعي، صيرت كل هذه الأمور
وأمثالها لسانها عربياً مشوباً برطانة،
ولهذا ؟عرفت ب "العرب المستعربة" وب
"مستعربة الشام"، عند المسلمين، حتى صارت
تلك الرطانة سبباً لاعراض علماء اللغة عن
الاحتجاج بلغتها في شواهد القرآن والشعر
على نحو ما رأيت.وقد يكون لتلك القبائل شعر، غير ان علماء
اللغة قاطعوه للسبب المذكور، ولكني لا
أستطيع الجزم بذلك، لعدم ورود اشارة إلى
هذه الناحية في كتب أولئك العلماء ولا في
كتب أهل الأخبار.ثم اني لاحظت ان أخبار فتوح الشام لا تذكر
شيئاً من شعر القبائل المستعربة التي
حاربت مع الروم المسلمين، أو التي حاربت
مع المسلمين الروم، وحيث اننا نعرف ان من
عادة العرب الاستعانة بالشعر والرجز
أثناء غزوها وقتالها، لذلك تلفت هذه
الملاحظة الأنظار، وتحمل المرء على البحث
في سبب وجود هذا الفقر في شعر القتال في
فتوح الشام، بينما نجد شعراً غزيراً
وافراً أنتجته قرائح المقاتلين في حروب
العراق نظمه المحاربون المسلمون، ومحاربو
القبائل العراقية الوثنية والمتنصرة التي
حاربت مع الفرس، أو التي حاربت مع
المسلمين أو تلك التي انضمت إلى المسلمين
فيما بعد.