بل كان هذا أولى من تلك المعارضة، لأنّ الفتنة الّتي تقوم بدعوى على النص أشدّ ممّا كان يترقبه عمر من اضطراب فيما إذا كان النبيّ صلى الله عليه و آله قد خلف نصّاً تحريريّاً بإمامة عليّ عليه السلام يعلمه الجميع.
و إذا كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قد ترك التصريح بخلافة عليّ عليه السلام في ساعته الأخيرة لقول قاله عمر، فإنّ المفهوم أن يترك الوصيّ الإحتجاج بالنصوص خوفاً من قول قد يقوله.
و نتيجة هذا البحث؛ أنّ سكوت أميرالمؤمنين عليه السلام عن النصّ إلى حين كان يفرضه عليه:
1- إنّه لم يكن يجد في رجالات تلك الساعة من يطمئن إلى شهادته بذلك.
2- أنّ الإعتراض بالنصوص كان من الحري به أن يلفت أنظار الحاكمين إلى قيمتها الماديّة، فيستعملون شتّى الأساليب لخنقها.
3- إنّ معنى الإعتراض بها التهيؤ للثورة بأوسع معانيها، و هذا ما لم يكن يريده الإمام.
4- إنّ اتّهام عمر للنبيّ صلى الله عليه و آله في آخر ساعاته، عرف عليّاً عليه السلام بمقدار تفاني الحاكمين في سبيل مراكزهم، و مدى استعدادهم لتأييدها، والمدافعة عنها، و جعله يخاف من تكرّر شي ء من ذلك فيما إذا أعلن عن نصوص إمامته.
إنتهى الإمام إلى قرار حاسم، و هو ترك الثورة و عدم التسلح بالنصوص في وجه الحاكمين جهاراً و علانية إلّا إذا اطمأنّ إلى قدرته على تجنيد الرأي العام ضدّ أبي بكر و صاحبيه.
و هذا ما أخذ يحاوله عليّ عليه السلام في محنته آنذاك، فبدأ يطوف سرّاً على زعماء المسلمين، و رجالات المدينة يعظهم و يذكرهم ببراهين الحقّ و آياته، و إلى جانبه قرينته تعزز موقفه و تشاركه في جهاده السرّي، و لم يكن يقصد بذلك التطواف إنشاء حزب تهيّأ له القتال به.
لأنّنا نعرف أنّ عليّاً عليه السلام كان له حزب من الأنصار هتف باسمه، و حاول الإلتفات حوله، و إنّما أراد أن يمهّد بتلك المقابلات لإجماع الناس عليه.
و هنا تجي ء مسألة فدك لتحتل الصدارة في السياسة العلويّة الجديدة، فإنّ الدور الفاطمي الّذي رسم هارون النبوّة خطوطه بإتقان كان متّفقاً مع ذلك التطواف الليلي في فلسفته، و جديراً بأن يقلب الموقف على الخليفة، و ينهى خلافة الصدّيق، كما ينتهي القصّة التمثيلية، لا كما يقوض حكم مركز على القوّة والعدة.
و كان الدور الفاطمي يتلخص في أن تطالب الصدّيقة عليهاالسلام الصدّيق!!! بما انتزعه منها من أموال، و تجعل هذه المطالبة وسيلة للمناقشة في المسألة الأساسية، و أعني بها مسألة الخلافة، و إفهام الناس بأنّ اللحظة الّتي عدلوا فيها عن عليّ عليه السلام إلى أبي بكر كانت لحظة هوس وشذوذ، و أنّهم بذلك أخطأوا، و خالفوا كتاب ربّهم، و وردوا غير شربهم.
و لمّا اختمرت الفكرة في ذهن فاطمة عليهاالسلام اندفعت لتصحح أوضاع الساعة، و تمسح عن الحكم الإسلامي الّذي وضعت قاعدة الاُولى في السقيفة الوحل الّذي تلطخ به عن طريق اتّهام الخليفة الحاكم بالخيانة السافرة والعبث بكرامة القانون، و اتّهام نتائج المعركة الإنتخابيّة الّتي خرج منها أبوبكر خليفة بمخالفة الكتاب والصواب.
و قد توفّرت في المقابلة الفاطميّة ناحيتان لا تتهيآن للإمام فيما لو وقف موقف قرينته:
إحداهما: أنّ الزهراء عليهاالسلام أقدر منه بظروف فجيعتها الخاصّة و مكانتها من أبيها على استثارة العواطف، و إيصال المسلمين بسلك من كهرباء الروح بأبيها العظيم صلوات اللَّه عليه و أيّامه الغراء و تجنيد مشاعرهم لقضايا أهل البيت عليهم السلام.
و الاُخرى: أنّها مهما تتّخذ لمنازعتها من أشكال فلن تكتسب لون الحرب المسلحة الّتي تتطلب زعيماً يهيمن عليها ما دامت امرأة، و ما دام هارون النبوّة في بيته محتفظاً بالهدنة الّتي أعلنها حتّى تجتمع الناس عليه، و مراقباً للموقف ليتدخل فيه متى شاء متزعماً للثورة إذا بلغت حدّها الأعلى، أو مهدئاً للفتنة إذا لم يتهيّأ له الظرف الّذي يريده.
فالحوراء بمقاومتها إمّا أن تحقّق انتقاضاً إجماعيّاً على الخليفة، و إمّا أن لا تخرج عن دائرة الجدال والنزاع ولا تجرّ إلى فتنة وانشقاق.
و إذن فقد أراد الإمام صلوات اللَّه عليه أن يسمع الناس يومئذ صوته من فم الزهراء عليهاالسلام و يبقى هو بعيداً عن ميدان المعركة ينتظر اللحظة المناسبة للإستفادة منها، و الفرصة الّتي تجعل منه رجل الموقف.
و أراد أيضاً أن يقدم لاُمّة القرآن كلّها في المقابلة الفاطميّة برهاناً على بطلان الخلافة القائمة.
و قد تمّ للإمام عليه السلام ما أراد حيث عبرت الزهراء صلوات اللَّه عليها عن الحقّ العلوي تعبيراً واضحاً فيه ألوان من الجمال والنضال.
و تتلخص المعارضة الفاطميّة في عدّة مظاهر:
الأول: إرسالها لرسول ينازع أبابكر في مسائل الميراث، ويطالب بحقوقها.
و هذه هي الخطوة الاُولى الّتي انتهجتها الزهراء صلوات اللَّه عليها تمهيداً لمباشرتها للعمل بنفسها.
الثاني: مواجهتها بنفسها له في اجتماع خاصّ.
و قد أرادت بتلك المقابلة أن تشتدّ في طلب حقوقها من الخمس و فدك و غيرهما، لتعرف مدى استعداد الخليفة للمقاومة.
و لا ضرورة في ترتيب خطوات المطالبة على أسلوب تتقدم فيه دعوى النحلة على دعوى الميراث- كما ذهب إلى ذلك أصحابنا- بل قد يغلب على ظنّي تقدّم المطالبة بالإرث، لأنّ الرواية تصرح بأنّ رسول الزهراء عليهاالسلام إنّما كان يطالب بالميراث.
و الأقرب في شأن هذه الرسالة أن تكون أولى الخطوات، كما يقضي به التدرج الطبيعي للمنازعة.
و أيضاً فإنّ دعوى الإرث أقرب الطريقين إلى استخلاص الحقّ، لثبوت التوارث في التشريع الإسلامي بالضرورة، فلا جناح على الزهراء عليهاالسلام في أن تطلب ابتداء ميراثها من أبيها الّذي يشمل فدكاً في معتقد الخليفة، لعدم اطّلاعه على النحلة، و ليس في هذه المطالبة مناقضة لدعوى نحلة فدك إطلاقاً، لأنّ المطالبة بالميراث لم تتجه إلى فدك خاصّة، و إنّما تعلقت بتركة النبيّ صلى الله عليه و آله عامّة.
الثالث: خطبتها في المسجد بعد عشرة أيّام من وفاة النبيّ صلى الله عليه و آله،كما في «شرح النهج» لابن أبي الحديد.
الرابع: حديثها مع أبي بكر و عمر حينما زاراها بقصد الإعتذار منها، و إعلانها غضبها عليهما، و أنّهما أغضبا اللَّه و رسوله صلى الله عليه و آله بذلك. [ راجع الإمامة والسياسة وأعلام النساء.]
الخامس: خطابها الّذي ألقته على نساء المهاجرين و الأنصار حين اجتماعهنّ عندها.
السادس: وصيّتها بأن لا يحضر تجهيزها و دفنها أحد من خصومها. [ راجع حلية الأولياء: 2/ 43، و مستدرك الحاكم: 3/ 163، واُسد الغابة: 5/ 524.]
و كانت هذه الوصيّة الإعلان الأخير من الزهراء عليهاالسلام عن نقمتها على الخلافة القائمة.
و قد فشلت الحركة الفاطميّة بمعنى، و نجحت بمعنى آخر.
فشلت؛ لأنّها لم تطوح بحكومة الخليفة في زحفها الأخير الخطير الّذي قامت به في اليوم العاشر من وفاة النبيّ صلى الله عليه و آله.
و لا نستطيع أن نتبيّن الاُمور الّتي جعلت الزهراء عليهاالسلام تخسر المعركة، غير أنّ الأمر الّذي لا ريب فيه أنّ شخصيّة الخليفة من أهم الأسباب الّتي أدّت إلى فشلها، لأنّه من أصحاب المواهب السياسية.
و قد عالج الموقف بلباقة ملحوظة نجد لها مثالاً فيما أجاب به الزهراء عليهاالسلام من كلام وجهة إلى الأنصار من خطاب بعد انتهائها من خطبتها في المسجد، فبينما هو يذوب رقة في جوابه للزهراء عليهاالسلام و إذا به يطوي نفسه على نار متأجّجة تندلع بعد خروج فاطمة عليهاالسلام من المسجد- في أكبر الظن- فيقول: ما هذه الرعة إلى كلّ قالة، إنّما هو ثعالة شهيده ذنبه- و قد نقلنا الخطاب كاملاً فيما سبق-.
فإنّ هذا الإنقلاب من اللين والهدوء إلى الغضب الفائر يدلّنا على مقدار ما أُوتي من سيطرة على مشاعره، و قدرته على مسايرة الظرف، و تمثيل الدور المناسب في كلّ حين.
و نجحت معارضة الزهراء عليهاالسلام؛ لأنّها جهزت الحقّ بقوّة قاهرة، و أضافت إلى طاقته على الخلود في ميدان النضال المذهبي طاقة جديدة.
و قد سجلت هذا النجاح في حركتها كلّها، و في محاورتها مع الصدّيق و الفاروق عند زيارتهما لها بصورة خاصّة، إذ قالت لهما:
أرأيتكما إن حدّثتكما حديثاً عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله تعرفانه و تفعلان به؟
فقالا: نعم.
فقالت: نشدتكما اللَّه؛ ألم تسمعا من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: رضا فاطمة من رضاي، و سخط فاطمة من سخطي، فمن أحبّ فاطمة فقد أحبّني، و من أرضى فاطمة فقد أرضاني، و من أسخط فاطمة فقد أسخطني؟ [ صحّت عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عبائر متعّددة بهذا المعنى، فقد جاء عنه في الصحيح: أنّه قال لفاطمة عليهاالسلام: إنّ اللَّه يغضب لغضبك، و يرضى لرضاك.
و قال: فاطمة بضعة مني، يريبني ما رابها، و يؤذيني ما آذاها.
راجع صحيح البخاري: 5/ 274، و صحيح مسلم: 4/ 261، و مستدرك الحاكم: 3/ 154، و ذخائر العقبى: 39، والصواعق المحرقة: 105، و مسند أحمد: 4/ 328، و جامع الترمذي: 2/ 219، و ابن ماجة: 1/ 216.]
قالا: نعم؛ سمعناه من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.
قالت: فإنّي أشهد اللَّه و ملائكته أنّكما أسخطتماني و ما أرضيتماني، و لئن لقيت النبيّ صلى الله عليه و آله لأشكونّكما عنده. [ تجد حديث غضب فاطمة عليهاالسلام على أبي بكر في صحيح البخاري: 5/ 5 و 6/ 196، و صحيح مسلم:2/ 72، و مسند أحمد: 1/ 6، و تأريخ الطبري: 3/ 202، و كفاية الطالب: 226، و سنن البيهقي: 6/ 300.]
و يصوّر لنا هذا الحديث مدى اهتمامها بتركيز الإعتراض على خصمها، و مجاهرتها بغضبها، و نقمتها لتخرج من المنازعة بنتيجة لا نريد درسها و الإنتهاء فيها إلى رأي معيّن، لأنّ ذلك خارج عن دائرة عنوان هذا البحث، و لأنّنا نجلّ الخليفة عن أن ندخل معه في مثل هذه المناقشات.
و إنّما نسجّلها لتوضيح أفكار الزهراء صلوات اللَّه عليها و وجهة نظرها فقط، فإنّها كانت تعتقد أنّ النتيجة الّتي حصلت عليها هي الفوز المؤكّد في حساب العقيدة والدين، و أعني بها أنّ الصدّيق قد استحقّ غضب اللَّه و رسوله صلى الله عليه و آله بإغضابها، و آذاهما بأذاها، لأنّهما يغضبان لغضبها، و يسخطان لسخطها بنصّ الحديث النبوي الصحيح.
فلا يجوز أن يكون خليفة للَّه و رسوله، و قد قال اللَّه تبارك و تعالى: «وَ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤذوا رَسُولَ اللَّهِ وَ لا تَنْكِحوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِه أَبَدً إِنَّ ذلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّه عظيماً» [ الأحزاب: 53.] إِنَّ الَّذينَ يُؤذونَ اللَّه وَرَسوله لَعَنَهُمُ اللَّه في الدُنيا وَالآخِرَة وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهيناً» [ الأحزاب: 57.] وَالَّذينَ يُؤذونَ رَسولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَليمٌ» [ التوبة: 61.] يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا لَا تَتَوَلَّوا قَوْماً غَضِبَ اللَّه عَلَيْهِمْ» [ الممتحنة: 13.] وَ مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبي فَقَدْ هَوى». [ طه: 81.]
محكمة الكتاب
محكمة الكتاب إذا أردنا أن نرتفع بمستوى دراستنا إلى مصاف الدراسات الدقيقة فلا بدّ أن نأخذ أنفسنا بمناهج البحث العلمي في درس ناحيتين:
الناحية الاُولى: موقف الخليفة تجاه ميراث الزهراء عليهاالسلام الّذي كان يستند فيه إلى ما رواه عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في موضوع الميراث بأساليب متعدّدة، وصور مختلفة، لتعّدد مواجهات الخصمين.
فجاءت الأحاديث الّتي تنقل روايته، و هي لا تتّفق على حدّ تعبير واحد، و لاتجمع على لفظ معيّن، لاختلاف المشاهد الّتي ترويها، و اختصاص كلّ منها بصيغة خاصّة للحديث على حسب ما كان يحضر الخليفة من عبائر أو تعدّد الروايات الّتي رواها في المسألة.
1- و قبل كلّ شي ء نريد أن نلاحظ مقدار تأكّد الخليفة من صحّة الحديث الّذي رآه دالّاً على نفي توريث التركة النبويّة واطمئنانه إلى سماع ذلك من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و ثباته عليه.
و يمكننا فهم ذلك ممّا تحدثنا به الروايات [ ذكره سبط ابن الجوزي، كما في السيرة الحلبيّة: 3/ 391.] من أنّ الخليفة سلّم فدكاً للحوراء عليهاالسلام، و كاد الأمر أن يتمّ لولا أن دخل عمر، و قال له: ما هذا؟
فقال له: كتاب كتبته لفاطمة عليهاالسلام بميراثها من أبيها؟
فقال: ممّاذا تنفق على المسلمين، و قد حاربتك العرب، كما ترى؟ ثمّ أخذ الكتاب فشقّه!!!
و نحن ننقل هذه الرواية في تحفظ، و إن كنّا نستقرب صحّتها، لأنّ كلّ شي ء
كان يشجع على عدم حكاية هذه القصّة لو لم يكن لها نصيب من الواقع.
و إذا صحّت فهي تدلّ على أنّ أمر التسليم وقع بعد الخطبة الفاطميّة الخالدة، و نقل الخليفة لحديث نفي الإرث عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، لأنّ حروب الردّة الّتي أشار إليها عمر في كلامه ابتدأت بعد يوم السقيفة بعشرة أيّام [ راجع مروج الذهب: 2/ 193.] و خطبة الزهراء عليهاالسلام قد كانت في اليوم العاشر أيضاً، كما سبق. [ و لعلّ هذا يضعف من شأن الرواية، لأنّ الخليفة لو كان مستعدّاً للتراجع لأجاب الزهراء عليهاالسلام إلى ما تطلب في المسجد حينما خطبت و أسمعته من التأنيب و التقريع الشي ء الكثير.]
2- و قد أظهر الخليفة الندم في ساعة وفاته على عدم تسليم فدك لفاطمة عليهاالسلام، و قد بلغ به التأثر حينا أن قال للناس- و قد اجتمعوا حوله-: أقيلوني بيعتي. [ رواه الطبري- كما في 18- من سمو المعنى في سمو الذات للاُستاذ الكبير الشيخ عبداللَّه العلائلي.]
و ندرك من هذا أنّ الخليفة كان يطوي نفسه على قلق عظيم مرده إلى الشعور بنقص مادّي في حكمه على فاطمة عليهاالسلام، وضعف في المدرك الّذي استند إليه، ويثور به ضميره أحياناً، فلا يجد في مستنداته ما يهدى ء نفسه المضطربة، و قد ضاق بهذه الحالة المريرة، فطفحت نفسه في الساعة الأخيرة بكلام يندم فيه على موقفه من الزهراء عليهاالسلام تلك الساعة الحرجة الّتي يتمثّل فيها للإنسان ما مثله على مسرح الحياة من فصول أوشك الستار أن يسدل عليها، و تجتمع في ذاكرته خيوط حياته بألوانها المختلفة الّتي آن لها أن تنقطع، فلا يبقى منها إلّا التبعات.
3- و لا ننسى أنّ أبابكر أوصى أن يدفن إلى جوار رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، و لا يصحّ ذلك إلّا إذا كان قد عدل عن اعتبار روايته مدركاً قانونيّاً في الموضوع.
و استأذن ابنته في أن يدفن فيما ورثته من أرض الحجرة- إذا كان للزوجة نصيب في الأرض، و كان نصيب عائشة يسع ذلك- و لو كان يرى أنّ تركة
النبيّ صلى الله عليه و آله صدقة مشتركة بين المسلمين عامّة للزمه الإستئذان منهم. وهب أنّ البالغين أجازوا ذلك فكيف بالأطفال والقاصرين ممّن كانوا في ذلك الحين؟
4- و نحن نعلم أيضاً أنّ الخليفة لم ينتزع من نساء النبيّ صلى الله عليه و آله بيوتهنّ و مساكنهنّ الّتي كنّ يسكنّ فيها في حياة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فما عساه أن يكون سبب التفريق الّذي انتج انتزاع فدك من الزهراء عليهاالسلام،و تخصيص حاصلاتها للمصالح العامّة و إبقاء بيوت نساء النبيّ صلى الله عليه و آله لهنّ يتصرفن فيها كما يتصرّف المالك في ماله.
حتّى تستأذن عائشة في الدفن في حجرتها أكان الحكم بعدم التوريث مختصّاً ببضعة النبيّ صلى الله عليه و آله، أو أنّ بيوت الزوجات كانت نحلة لهنّ؟
فلنا أن نستفهم عمّا أثبت ذلك عند الخليفة، و لم تقم بيّنة عليه، و لا ادّعته واحدة منهنّ، و ليست حيازتهنّ للبيوت في زمان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله شاهداً على ملكيتهنّ لها، لأنّها ليست حيازة استقلاليّة، بل من شؤون حيازة النبيّ صلى الله عليه و آله، ككلّ زوجة بالنسبة إلى زوجها.
كما أنّ نسبة البيوت إليهنّ في الآية الكريمة «وَ قَرْنَ في بُيوتِكُنّ» لا يدلّ على ذلك، لأنّ الإضافة يكفي في صحّتها أدنى ملابسة و قد نسبت إلى النبيّ صلى الله عليه و آله في القرآن الكريم بعد تلك الآية بمقدار قليل، إذ قال اللَّه تبارك و تعالى: «يَا أَيُهَا الَّذينَ آمَنوا لَا تَدْخُلوا بُيُوتَ النَبِيّ إِلّا أَنْ يُؤذَنَ لَكُمْ».
فإذا كان الترتيب القرآني حجّة لزم الأخذ بما تدلّ عليه هذه الآية.
و ورد في صحاح الستّة عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إسناد البيت إليه في قوله: «إنّ ما بين بيتي و منبري روضة من رياض الجنّة».
5- و لنتساءل عمّا إذا كان الحكم بعد توريث الأنبياء الّذي ذهب إليه الخليفة ممّا اختزنه الوحي لخاتم المرسلين صلى الله عليه و آله، واقتضت المصلحة تأخيره عن وقت الحاجة وإجراءه على الصديقة عليهاالسلام دون سائر ورثة الأنبياء.