عندما يتزعزع ركن الإخلاص يتناقص تلقائيّاً تأثير التبليغ في حياة الآخرين ، حتّى يصل أحياناً إلى حدّ الصفر ، بل قد تنعكس عنه أحياناً نتائج سلبيّة ؛ وذلك لأنّ الناس يحقّ لهم عندئذٍ النظر بعين التهمة إلى كلّ من يتّخذ دين الله كوسيلة لضمان حياته المادّيّة ، وألا يعتبروه ناصحاً مخلصاً لهم ، كما قال عيسى عليه السّلام في هذا المعنى : «الدّينارُ داءُ الدّينِ ، وَالعالِمُ طَبيبُ الدّينِ ؛ فَإِذا رَأَيتُمُ الطَّبيبَ يَجُرُّ الدّاءَ إلى نَفسِهِ فَاتَّهِموهُ ، وَاعلَموا أنَّهُ غَيرُ ناصِحٍ غَيرَهُ» .[138]
3 . تحريف القيم الدينيّة
إنّ أجسم الأضرار التي تنجم عن تبليغ الدين لقاء الأجر هو تحريف القيم الدينيّة . فعندما ينزَّل التبليغ على شكل سلعة ، يميل المبلّغ إلى أخذ رغبة المخاطب بنظر الاعتبار بدلاً من النظر إلى حاجته .ومن هنا يجد نفسه مضطرّاً إلى عرض سلعته وفقاً لرغبة المخاطب ، وهكذا فقد يرى من الضرورة أحياناً تحريف القيم الدينيّة في سبيل نيل أغراضه الدنيويّة .ويعزو القرآن الكريم تحريفَ الكتب السماويّة السابقة إلى هذه الظاهرة الخطيرة ؛ وذلك لأنّ جماعة من المبلّغين وقادة الأديان حرّفوا الحقائق الدينيّة نزولاً عند رغبة أصحاب السلطة والمال لقاء ثمن بخسٍ .[139]
ب . أخذ الأجر على التبليغ من دون طلبه
إنّ الانعكاسات السلبيّة ـ التي سبقت الإشارة إليها ـ تظهر في الوقت الذي يتصرّف المبلّغ تصرّفاً يعاكس تماماً ما كان يتصرّفه الأنبياء ؛ وذلك أنّ الأنبياء كانوا يقولون : إنّنا لا نريد أجراً على التبليغ ، أمّا هو فيقول : اُريد أجراً عليه ، ويتعامل بدين الله كسلعة . لكن في صورة ما إذا لم يطلب المبلّغ أجراً وبادر الناس إلى تقديم الأجر له من تلقاء أنفسهم لأجل تأمين شؤونه المعاشيّة ، فلا مانع عندئذٍ من قبوله . وقد روي في هذا المجال عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّه قال : «المُعَلِّمُ لا يُعَلِّمُ بِالأَجرِ ، وَيَقبَلُ الهَدِيَّةَ إذا اُهدِيَ إلَيهِ» .[140]وروى حمزة بن حمران أيضاً ، قال : سمعت الإمام الصادق عليه السّلام يقول : «مَنِ استَأكَلَ بِعِلمِهِ افتَقَرَ» .فَقُلتُ لَهُ : جُعِلتُ فِداكَ ! إنَّ في شيعَتِكَ ومَواليكَ قَوماً يَتَحَمَّلونَ عُلومَكُم ويَبُثّونَها في شيعَتِكُم ، فَلا يَعدَمونَ عَلى ذلِكَ مِنهُمُ البِرَّ والصِّلَةَ وَالإِكرامَ .فقال : «لَيسَ اُولئِكَ بِمُستَأكِلينَ» .[141]الملاحظة الجديرة بالاهتمام في هذا المجال هي أنّ أخذ الأجر على التبليغ من غير طلبه وإن لم يكن فيه بأس ، ولايتعارض مع بعض مراتب الإخلاص ، بيد أنّ تركه أولى ؛ إذ أنّ الأنبياء والأولياء الكمّل كانوا يتجنّبون استلام أي نوع من الأجر ، ولم يكونوا يقبلون أخذ أيّ أجر ، ليس في مقابل التبليغ فحسب ، بل في مقابل أيّ عمل اُخروي آخر كانوا يؤدّونه لله ، حتّى في أشدّ الظروف المعيشيّة قسوةً . وقد رويت في هذا المجال قصّة شائقة جدّاً عن النبيّ موسى عليه السّلام ، نوردها في ما يأتي .
قصّة تعكس إخلاص موسى عليه السّلام
قبل أن يُبعث موسى عليه السّلام نبيّاً ، فرَّ من الفراعنة ، وبعد مصاعب جمّة وصل إلى «مدين» ، وهي مدينة النبيّ شعيب عليه السّلام . وكان على مقربة من تلك المدينة بئر اجتمع عنده الرعاة ليسقوا أغنامهم من الماء . وكان بجانب هؤلاء الرعاة بنتان جاء تا تستسقيان الماء لأغنامهما ، إلا أنّ شدّة