الاستهلال - سرد الامثال نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

سرد الامثال - نسخه متنی

لؤی حمزة عباس

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

الاستهلال

توجّهت العناية البلاغية والنقدية لدراسة الاستهلال بوصفه ((الطليعة الدالة على ما بعدها))، والاهتمام بما ينطوي عليه من خصائص أو سمات تفتح المجال باتجاه النص والقارئ فتعمل على إضاءة (غرض) النص مثلما تسعى لتنبيه وإيقاظ نفس القارئ؛ غير أن دراسة الاستهلال في كتب الأمثال يمكن أن توجّهنا جهة ثانيةً تكشفها الخصائص السرديّة التي تميزت بها بنيته، في ثباتها وحركيتها وهي تقوم بالأساس على ما يوفره السرد من إمكانيات تُسهم، على نحو غير محدد، بتشكيل نص المثل، وتأمين نُظم علاقاته ليكون الاستهلال عندئذٍ، ((فعلاً تأليفياً يتقدم النص ويؤطره ممهداً لجريان السرد في مسارات شتى تشكّل شبكةً عريضةً من العلاقات)).

إن الاكتفاء بموقع (حسن الابتداء) الذي عملت النظرة النقدية على تثبيته وإطالة معاينته في دراسة موضوع الاستهلال والوقوف على ما يحققه من ملاءمة لإضاءة النص الأدبي لا يُعين الدارسَ على تبيّن ما تنطوي عليه بنيته من علاقات ظلت بمنأى عن نظر النقاد والدارسين باكتفائهم بجهة واحدة من جهتي الاستهلال، إذ إن باستطاعتها أن تمدَّ أثرها بشكل مزدوج فتنفتح على ماقبلها مثلما انفتحت على ما بعدها، لتضيء سلسلة إسناد، وتكشف نظاماً، وتحدد موجهات، مثلما تُعيّن غرضاً، وتنبّه قارئاً، فإن الغرض والتنبيه لا يؤَدَيان من دون علاقة يقيمها نمط الاستهلال الحالي مع أنماط الاستهلال السابقة، بأساليبها وأشكالها المختلفة داخل جنس أدبي معيّن، بما يُعين على تأمين (أفق انتظار) يكون من بين سماته التنبيه والإيقاظ.

إن نوعاً من التلازم الضمني بين جهتي الاستهلال يدعونا لمعاينة بنيته بقدرتها على إضفاء مستوى من الفاعلية والانتظام على ما يقوم داخلها من علاقات، فالاستهلال كما تقدِّمه كتبُ الأمثال لا يكتفي بجهة واحدة من بين جهتي السرد، بل يُلمع إلى أهمية علاقته بما قبله، فالموقع البنيوي للاستهلال في كتاب معيّن من كتب الأمثال يملك أن يشير لموقع آخر هو موقع الاستهلال نفسه في سلسلة استهلالات هذه الكتب، من هنا، كانت أهمية معاينة جهتي الاستهلال في كتب الأمثال على النحو الآتي:

ما قبل: علاقة الاستهلال الحالي

بنية الاستهلال بما قبله من الاستهلالات

النص: غرض

بعد القارئ: تنبيه وإيقاظ

يحيلنا تأمل الاستهلال في كتب الأمثال العربيّة إلى خصوصية بنيته السردية التي لا تتوجّه في الغالب إلى كشف عناصرها وتهيئة المجال أمامها للتشكّل والانسجام كما في (ألف ليلة وليلة) على سبيل المثال، ولا تتكفل كما في (المقامة) بكشف المستويات الزمنيّة لبنية السرد وتنظيم مهمات الراوي، بل إنها تعتمد إلى الانفتاح على جهتي الإخبار، الـ(ما قبل) ممثلة بسلسلة رواة غائبين، والـ(ما بعد) ممثلة بمفاد الخبر، محموله، ونظام الإبلاغ فيه، فهو العتبة التي ((تفتح السبيل إلى ما يتلو)) وتشير أو تكشف في الوقت نفسه عن سابقي رواته. فالمثل العربي لا يُقدَّم بالنظر إلى نظام الاستهلال، بوصفه نتاجاً يرتبط ارتباطاً مباشراً بـ(مؤلف) أو يتمثل لرغبات (راو) معين، فالخبر يتجسد وهو يمرُّ عبر سلسلة مخبرين لا تتجرّد عن شعورها ولا تصرّح بشكل واضح بما تشعر أو تظن فتكتفي كما تُقدِّم إحدى حلقات السلسلة بالظن أو التلميح بعدم صدق ما يُروى، يقول ابن منظور ((وقال الليث: سمعت أهل العربية يقولون إذ قيل ذكر فلان كذا وكذا فإنما يُقال ذلك لأمر يُستقين أنه حق، وإذا شُك فيه فلم يُدْرَ لعلَّه كذب أو باطل قيل زعم فلان))، ويورد القرآن الكريم ما يؤكد ذلك زعم الذين كفروا أن لن يُبعثوا، فقالوا هذا لله بزعمهم، أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون، فـ(زعم) أي قال، وقيل -بجملة ابن منظور- هو القول يكون حقاً ويكون باطلاً.

إن هيمة صيغة (زعموا أن) على استهلال نصوص أمثال كتاب (المفضّل الضّبيّ)، وامتدادها من الاستهلال إلى المتن في نماذج كثيرة منها بما تتمتع به من قدرة على التنويع والتفصيل لإدامة السرد، تدعونا إلى ملاحظة علاقة هذه الصيغة من بين صيغ افتتاح أُخر بجنس الخبر، بتعدد أنواعه، وأشكاله، وما يدور حوله من قصص أو وقائع، تاريخية أو متخيلة، فالاستهلال السردي، على العموم، ((ما هو إلا نوع من الإسناد المركب الذي انحدر من تقاليد الإسناد في فن الخبر)) وقد بقيت الأمثال، على نحو خاص، أمينةً على تلك التقاليد وإن خضعت في بعض أوجهها لموجّهات عصريّة غيّرت من مستوى وشكل تعاملها مع محمولات نصوصها، في الوقت الذي عملت نماذج سرديّة أخرى على الانفصال عن صور استهلال الخبر بما يُسهم بتشكيل بناها السرديّة، وهي ملاحظة لن تقف داخل حدود النوع متأملةً علاقة الاستهلال، في ثباته أو تغيره، بالبنية السرديّة: سيرة، أو حكاية خرافية، أو مقامة، بقدر ما تؤشر مسافةً معنويةً يحددها مستوى التغيير الحاصل بين نوع من الأنواع وبين الخبر، إذ تعني هذه الملاحظة انشغالاً فنياً وفهماً مختلفاً لأدوار العناصر والوحدات في تشكيل العمل السردي.

إن التعامل مع تقاليد الإسناد، والافتتاح أولها، يدعونا للسؤال عن الإمكانية التي يحققها هذا التعامل في تنظيم العمل السردي لـ(ما بعد) الافتتاح، فاختلاف البنى السرديّة بين قصص الأمثال وبين الحكاية الخرافية، أو المقامة، أو السيرة يكشف عن مستوى من الثبات تتمتع به قصص الأمثال مقابل مستوى من التحوّل والتغيير للأنواع الأخرى، يختلف بين كل منها، بما تحدده فعالياتها الإخبارية، وما تنهض به من فاعليّة سرديّة تؤمِّن لمستوياتها مجالاً للتشكّل والمؤازرة، الأمر الذي بقي المثلُ محافظاً فيه على تقاليد الأداء الخبرية بما يشير إلى موقعه وانتظام حدوده في السرديّة العربيّة.

وإذا توجهنا للنظر إلى موقع صيغة الاستهلال (زعموا أن) كما وردت في كتاب (المفضّل الضّبيّ)، وكما انتظمت في سلسلة الأمثال العربية تبينا توسطها بين نوعين من أنواع الاستهلال، مما يمنحها أهمية يمكن تحديدها بالنقطتين الآتيتين:

1- الحفاظ على تقاليد قول سابق، مع ما تنطوي عليه من ظن أو تكذيب.

2- منح كتب الأمثال اللاحقة (التي توجهت منها توجهاً لغوياً) إمكانية الإفادة من متونها عبر الحذف والانتقاء.

تُشير النقطة الأولى إلى الأهمية التاريخية لصيغة (زعموا أن) فضلاً عن سماتها البنيوية ودورها واسطة بين حلقات، فلم تعمد كتب المفضل

(ت 170 هـ) وأبي فيد (ت 195 هـ) وأبي عبيد (ت 223 هـ) وأبي عكرمة (ت 250 هـ) إلى استعادة المثل بصورته الأولى، والاستهلال منه بخاصة، كما ورد في ما يتوفّر من نقل عن كتب الأمثال الأولى لصحار بن عياش العبدي (ت نحو 60هـ) وعلاقة الكلابي (كان حياً قبل سنة 64هـ) وعبيد بن شريه الجرهمي (ت نحو 67 هـ)، بل إنها عملت على الإفادة من محمولاتها السرديّة، من دون أن تهتم بعنصر المطابقة مع نصوص أمثالها، وقصصها، وصيغها، إذ يُلاحظ توزع الصياغات الأولى لنصوص الأمثال بين تنظيم جمل افتتاح اسمية، نكرة أو معرفة، تشير من دون تمهيدات أو صيغ استهلال متغيرة أو ثابتة إلى (فواعل) الحدث التي صيغت على أساس أفعالها الأمثال، وبين (أول من..) التي تُسهم على نحو واضح بإضاءة أدوار (الفواعل) ليستمر التركيز على أهمية التجربة بوصفها واقعةً تاريخيةً أسهمت ببلورة (صيغة المثل) جرياً على تقاليد شفاهية أسبق، فالصوغ والتشكيل لم يكونا ليبتعدا عن موقع (المثل) تدويناً وتاريخاً، ليتمكنا من ملاحظة قابلية الأداء السردي، وتفحّص إمكانياته، بل إن الانشغال بالخبر دفع بصياغات المرحلة الأولى للتماهي بالواقعة والاهتمام بالتجربة التي لولاها لما كان المثل. إننا بذلك نتأمل (موقعاً) لتشكيل الصياغة السرديّة لقصص الأمثال، لا تبدو فيه مسافةً فاصلةً بين (التجربة) وبين (إعادة إنتاجها).

مما نُقل عن كتابيّ علاقة الكلابي، وعبيد بن شريه الجرهمي، نقرأ مجموعة من الاستهلالات تؤكد سعي الصياغة لمواجهة قصة المثل على نحو مباشر، كأنها إذ تُكتب تستعيد الواقعة كما كانت أو كما رُويت أول مرَّة على أقل تقدير:

الكتاب

الاستهلال

صيغة المثل

ت

علاقة الكلابي

حذام هي بنت الريان..

القول ما قالت حذام

1

علاقة وعبيد الجرهمي

هذا المثل لرجل من العرب لـه فرس..

عرفتني نسأها الله

2

علاقة الكلابي

الرجل الذي مرَّ بعمرو بن حمران هو..

كلاهما وتمرا

3

علاقة الكلابي

أول من قال (خلا لك الجو..

خلالك الجوفبيضي واصفري

4

علاقة الكلابي

أول من قال ((التجريد لغير نكاح..

التجريد لغير نكاح مثله

5

علاقة الكلابي

إن عروساً لرجل من العرب..

لا مخبأ لعطر بعد عروس

6

عبيد بن شريه الجرهمي

أول من قال سبق السيف العذل..

سبق السيف العذل

7

عبيد بن شريه الجرهمي

كان عمرو بن تَقْن قد طلق امرأة..

إحدى حظيات لقمان

8

عبيد بن شريه الجرهمي

أتى النعمان بحمار وحش فدعا..

وابأبي وجوه اليتامى

9

عبيد بن شريه الجرهمي

كان أصل هذا المثل أنَّ فتاةً..

أمر مبكياتك لا أمر مضحكاتك

10

يُلاحظ مع انتقال الأمثال من كتاب (علاقة الكلابي) أو كتاب (عبيد بن شريه الجرهمي) إلى كتاب (المفضّل الضّبيّ) ما يُجرى عليها من تغير سردي، ما يقع منه على استهلال قصة المثل نحو خاص، ففي المثل رقم(5) يُلاحظ دور الصفة في كتاب علاقة في توجيه الاستهلال لبيان ترتيب، أو دور، أو أسبقية الفاعل، فـ(رقاش بنت عمرو بن تغلب) هي (أول من قال) بناءً على واقعة تتوجّه قصةُ المثل لسرد تفاصيلها. أما في كتاب (أمثال العرب) للمفضّل فلا يُستعاد المثل كما ورد في الكتاب السابق، بوحداته السرديّة وموجهاته بل إن وحدات جديدة تتشكل في ضوء موجهات من نوع آخر، إذ لم يَعد سرد القصة قائماً بغية تحديد دور أو ترتيب، وإن أصبح هذا الأمر من لوازم ورود القصة، فإن صيغة (زعموا أن) تملك أن تنظم مجالاً مختلفاً لاشتغال عناصر القصة يُلمس فيه، منذ البدء، دور راو غير معيّن، تتسع المسافة بينه وبين ما يروي، مما يسمح بحضور أصوات مجموعة من الرواة من بينهم (علاقة الكلابي)، وإذا كان المثل قد حافظ مع انتقاله من كتاب (علاقة) إلى (كتاب المفضّل الضّبيّ) على (حكايته) بأسماء أشخاصها، وأدوارهم، ومناسبة المثل، مع امتداد ملحوظ يُسهم به كتاب (المفضّل) بإضافة وحدة قصصية جديدة توسع من

حلقة الشخوص، والأدوار، وتنظم مناسبة لاحتواء مثل جديد، فإن انتقال المثل رقم(7) من كتاب (عبيد بن شريه الجرهمي) إلى كتاب (المفضّل الضّبيّ) يخضع لتغيّرات تشمل (الحكاية) والتشكيل السردي في وقت واحد، ولم يبق من نص المثل في كتاب (عبيد بن شريه) غير صيغة المثل، ويُلاحظ جريان التغيرات أنفسها التي جرت على استهلال المثل في كتاب (علاقة الكلابي) على استهلال مثل (عبيد بن شريه)، فاهتمام عبيد يتوجه نحو (أول من قال) أسوة بكتاب علاقة في الإفادة من الصفة لتحديد الأسبقية والترتيب، في الوقت الذي تُسهم (زعموا أن) في استهلال المثل في كتاب (المفضّل) بتنظيم سبل أداء مختلفة يقترحها موقع المفضّل في سلسلة مؤلفي كتب الأمثال، فاختلاف الحكاية بين الكتابين، وثبات صيغة المثل يكشف دور رواة آخرين غابت أسماؤهم وحضرت رواياتهم ليسهموا بوصول المثل إلى المفضّل الذي سيعمل بدوره على إيصاله إلى لواحق السلسلة من مؤلفي كتب الأمثال، مع الاهتمام بالموجّهات الذاتيّة منها والموضوعيّة التي تُسهم في توجيه نُظم الصياغة والتأليف.

إذا كان موقع صيغة (زعموا أن) في سلسلة الأمثال العربيّة يُعيّن مرحلةً وسطى من مراحل الاستهلال السردي فإن موجهّات جديدةً تحدد استهلالات من نوع آخر لكتب الأمثال اللاحقة بكتاب (المفضّل الضّبيّ)، مما يُشير إلى دور الصيغة في الحفاظ على بعض عناصر القصة ووحداتها ومن بينها العنصر اللغوي الذي توجّهت الكتب اللاحقة للإفادة منه تبعاً لتوجّه مؤلفيها وعنايتهم بالدرس اللغوي، فدور الصيغة يمكن أن يكشف أهميةً مزدوجةً في الحفاظ على تقاليد سابقة، وتهيئة الفرصة لإغناء توجّه لاحق، فلم تنفصل كتب (أبي فيد) و(أبي عبيد) و(أبي عكرمة) عن كتاب (المفضّل الضّبيّ) بما يمكّن الدارسَ من الإشارة إلى أسلوب جديد أو طريقة مضافة في التعامل مع نص المثل، كما إنها لم تكرر تجربة المفضّل نفسها في العناية بالمثل بوصفه نصاً أدبياً يُكتفى في أحيان كثيرة بتركيز النظر داخل حدوده الفنيّة من دون أن تُمنح جوانبه اللغوية أو التأريخية ما حظيت به من عناية واهتمام في الكتب اللاحقة، إذ أن مسافةً من الانفصال بين نموذجي كتب الأمثال ظلت مؤثرةً بما يتحرّك فيها من عناصر النموذجين متماثلةً مرَّة ومختلفةً أخرى، بما يُمكننا ملاحظته عبر النقاط الثلاث الآتية، متأملين أَثر كل منها على الاستهلال:

1-اعتماد صيغة المثل.

2-اعتماد معنى المثل ثم قصته كما وردت عن المفضّل.

3-اعتماد رواية المفضّل.

في النقطة الأولى تتوجّه كتب الأمثال اللاحقة للإفادة من كتب الأمثال السابقة، والمفضّل من ضمنها، في حدود صيغة المثل، من دون أن تمنح جانبها القصصي اهتماماً، إذ تُنقل صيغتا المثلين، (اليوم خمر وغداً أمر) و(أعزّ من كليب بن وائل) إلى كتاب (أبي فيد) وتُنقل صيغة المثل (إذا طلبت الباطل أَنجح بك) إلى كتاب (أبي عبيد) مجردةً عن قصصها، على الرغم من أهمية مرجعيّة تلك القصص وارتباطها بشخصية مهمة مثل صيغة مثل (أبي فيد) الأولى بإشارتها لـ(امرئ القيس بن حجر الكندي) والثانية بارتباطاتها بإحدى حوادث العرب الجسام ويوم مؤثر من أيامها مثل حرب البسوس التي يستخدم (المفضّل الضّبيّ) صيغة (أعزّ من كليب..) مستهلاً لنص مثلها في كتابه، فيما يتوجّه (أبو عبيد) لإضاءة معنى المثل في ست كلمات على النحو الآتي: (إذا طلبت الباطل أنجح بك، معناه: أن نُجح الدعوى يكون عليه لا له) وهو مفاد نص المثل كاملاً في (باب الظلم في ادعاء الباطل والحكم قبل أن تُعرف حجةُ الخصم).

وفي النقطة الثانية (اعتماد معنى المثل ثم قصته كما وردت عن المفضل) يُلاحظ الاهتمام بجانب اللغة والتفسير للإحاطة بمعنى المثل والتهيئة لاستحضار قصته، فالقصة تعتمد في سبيل تأكيد معنى أو إضاءة تفسير، بما يتطلب توجيهاً خاصاً للعناصر والوحدات السردية، والاستهلال من بينها، ففي المثل (أسرع من نكاح أمِّ خارجة) يعتمد (أبو فيد) صيغة المثل نفسها استهلالاً لنصه، مختزلاً القصة إلى أقصى حد ممكن باعتماده صيغة المثل، والفعل الماضي الناقص، مع نقل ما ينتظم من حوار ليخلص إلى العناية بالجانب اللغوي على النحو الآتي:

((أسرع من نكاح أمِّ خارجة)) كانت إذا أتاها الخاطب، قال: خطب، قالت: نُكح، فيقول: ارتحلي، فتقول: أَنخ.

حدَّثنا الحسن، قال: حدَّثنا إسماعيل، قال: أخبرني أبو فيد، قال: سمعت أبا هشام يرفع. وقد سمعت من يقول: خِطْبٌ نِكحٌ).

إن الاهتمام بموجّهات مختلفة يتطلّب تغيير نظام الارتباط بنص المثل وقصته في وقت واحد، فإذا عَمِلت النماذج الأولى لصحار وعلاقة وعبيد على الانشغال بالواقعة، وإذا ابتعدت صياغات المرحلة الثانية مسافةً مع صيغة (زعموا أن)، فإن موجّهات العناية اللغوية عملت على تجاوز النظر في المسافة أو الاهتمام بواقعة معيّنة، منشغلةً على نحو كامل بالبحث والاستقصاء اللغويين، الأمر الذي خلخل انتظام القصة وعاءً سردياً وغيّر من عمل عناصرها.

ويمكننا أن نلمس اهتماماً مزدوجاً بين (اللغة) و(القصة) كما في كتاب (أبي عكرمة الضّبيّ) وهو يورد المثل (لا أطلب أثراً بعد عين) من دون أن تفوتنا ملاحظة الأهمية التي تُعامَل بها اللغة من عدة أوجه مثل:

1-تقيم العناية اللغوية كالبحث في المعاني أو التفسير على العنصرين التاريخي والقصصي.

2-الاهتمام بالشواهد الشعريّة لتأكيد المعنى.

3-التعامل الخاص مع قصة المثل.

فلا يُمثّل الاهتمام اللغوي في كتاب (أبي عكرمة الضّبيّ) توجهاً ثانوياً، بل إنه كما في كتابي (أبي فيد) و(أبي عبيد) يأخذ موقعاً مركزياً لا يؤثر في نظام ورود القصة فحسب، بل يتعداه لفهم المثل نفسه، إذ أنهم وقفوا أمام غريب اللغة أو الشاذ فيها بغية تفسيره والتمثيل لـه بدلاً من الاهتمام الكامل بـ(الأمثال) نصوصاً وقصصاً؛ من هنا نتأمل استهلالاً جديداً لا للقصة بل لتنظيم سلسلة الأمثال في الكتاب، فلم تَعُد جملة (زعموا أن) باحتوائها الظن والتكذيب لتفيد في استقصاء تفاصيل الدرس اللغوي، بل إن هذا الدرس بحاجة إلى ما يؤكد اتجاهاً من اتجاهاته أو يؤَسس منحىً، فـ(وقولهم) التي اتُخذتْ فاتحةً لإيراد المثل تعتمد بالأساس صدق السابق وأحقيّة قوله بالأخذ والدرس والمعاينة، ولم تكن غزارة الشواهد الشعريّة غيرَ سعي عصرٍ لتأكيد أهمية الاشتغال اللغوي الذي دفع بعنصري التاريخ، المرجع القصصي، والقصة إلى مصاف ثانوي من الاهتمام. لذا لن يكون من الغريب أو تُقدَّم صورة جديدة لقصة المثل لا يُراعى فيها دور الانتظام السردي لصورته الأولى، مثلما وردت في الكتاب (المفضل الضبي)، إذ إننا نلمس دور الصفة (أول) في تغيير الاستهلال السردي واعتماد القصة بوصفها عنصراً تكميلياً لا يُطلب منه أكثر من تحديد أسبقية (مَنْ قال)، وهو ما يعززه موقع القصة في نظام إيراد المثل في كتاب (أبي عكرمة)، فليس لها غير موقع خاتمة (المثل) بعد أن تتم العناية اللغوية وتُستقصى الشواهد الشعريّة، فلا يقوم نظام الإيراد على أساس قدم، أو تجربة يُتوجَّه فيها للإفادة من المحمول الحكائي لإضاءة موعظة، أو الوقوف على قيمة معيّنة اجتماعية أو أخلاقية بقدر ما يُعتمد بوصفه إنموذجاً لغوياً يُسعى للإفادة منه بالحفاظ على الجانب اللغوي وصيانته، فنص المثل يُقيم شبكةً لغويةً قبل أن تؤدى قصته، أو يُنظر لتجربته نظرةً خاصةً، إذ أنه يُقدَّم عبر مجموعة من الوحدات يمكن ملاحظتها كما يأتي:

1-الاستهلال: وقولهم ((لا أطلب أثراً بعد عين)).

2-التمثيل اللغوي/ الاستشهاد بالنثر: ومنه قولهم ((لا آخذ ثوبي إلا بعينه)).

3-التمثيل اللغوي/ الاستشهاد بالشعر، وقال الشاعر يذكر رجلاً: وعينه كالكاليء الضِّمار.

4-التفسير/ الكاليء: النسيئة، وهو التأخير.

5-التمثيل اللغوي/ الاستشهاد بالنثر: ((إن الجواد عينه فِرارُهُ)).

6-التفسير/ عينه: نفسه.

7-التمثيل اللغوي/ الاستشهاد بالشعر: ومثله قول الأخطل: تُخبِرُ عن مجهولهِ مرآتُهُ.

8-التفسير/ أي إذا رأيته دلتك رؤيته على ما غاب عنه منه.

9-التمثيل اللغوي/ الاستشهاد بالشعر وقال: فلم يَبْقَ إلا كلُّ خوصاء تدَّعي..

10-التفسير/ تدَّعي: تُخبِر عن نفسها..

11-التمثيل اللغوي/ الاستشهاد بالشعر: وقال علقمةُ بن عبدة: ولا تزايلني في الروع سَلهبَةٌ..

12-التفسير/ أي يدلُّ عليها ذلك..

13-القصة/ وحكى ابن الإعرابي، عن المفضّل أن أول من قال ((لا أَطلب..). لا تُشير عمليةُ التشكيل السردي لنص المثل بوحداته السابقة، وبتأكيده على جانبي التمثيل والتفسير إلى اهتمام بالجانب اللغوي، وعناية بتقديم عدد من النصوص التي يؤتى بها لتأكد معنى معيّن يتطلّب بدوره نصوصاً أخرى ممثِلةً أو مفسِرةً بما يُقيم شبكة نصوص يُسهم النثر والشعر بحياكتها قبل الالتفات لقصة المثل فحسب بل إنها تكشف توجّه ثقافةٍ معيّنةٍ توجهاً خاصاً، فإذا كان تحوّل قول ما إلى (نص) يتم ((إذا انضاف إلى المدلول اللغوي مدلول آخر، مدلول ثقافي يكون قيمة داخل الثقافة المعينة))، فإن اعتماد (نص) ما، أو مجموعة لتأكيد (قول) أو لتفسير ما غَمُض منه، أو للتمثيل عليه، لن يكون إلا بتوجّه عكسي يرتفع فيه المدلول اللغوي داخل تلك الثقافة، وهو ما لا يقف عند موقع الوحدة القصصية بين وحدات نص المثل، بل ينسحب على طريقة التعامل مع هذه الوحدة ابتداءً من استهلالها، إذ إن أسلوب الإسناد الذي يتوجّه لتأكيد ما يُروى يوحِّد بين (القصة) وبين الوحدات السابقة ويوجهها اتجاهاً واحداً (وحكى ابن الأعرابي، عن المفضل أن أوّل من قال ((لا أطلب أثراً بعد عين)) أن بعض ملوك غسان أسر رجلين..) فلم يتوجّه المفضل في تقديم المثل، إلى العناية بـ(أول من قال) لانشغاله بمدلول ثقافي آخر يكشفه اهتمام كتابه بتفاصيل التجربة، واستقصاء قيمها، الأمر الذي يُغيّر من أسلوب التشكيل السردي لقصة المثل حال استقدامها في كتاب (أبي عكرمة)، أي حال امتثالها لموجَّهات ثقافية تختلف عن الموجّهات التي نظمت تشكيلها في كتاب المفضّل، فالاختزال، وتغيير مواقع الوحدات، والاكتفاء بالبيت الدال من بين النصوص الشعريّة التي تحتويها القصة، صياغات تقترحها مدلولات جديدة، أو ممثلات لقيم ثقافيّة متغيّرة.

وفي النقطة الثالثة (اعتماد رواية المفضّل) نُلاحظ المثلين (في كل واد بنو سعد) و(في النوى ما يكذب الصادق) وهما ينتقلان بما يجري على روايتهما من تغيير، ما يقع منه على الاستهلال بخاصة، من كتاب (المفضّل الضّبيّ) إلى كتابي (أبي فيد) و(أبي عبيد) على التوالي، ففي المثل الأول يقدَّم الاستهلال صورةً لتقاليد الإسناد واستجابةً لنظامه، فقصة المثل تتحرّك شفاهاً حتى تستقر في كتاب (أبي فيد)، وهي باعتمادها الفعل (حدَّث) وبأخذها عمَّن لم يُعرف عنه كتاب في الأمثال (الحسن بن عليل، إسماعيل، أبو الخنساء)، وبما يُجرى عليها من تغيير كأنما تؤدي مهمة المفضّل للمرة الأولى، فهي تلتقط المثل من بين أحاديث السلف، ليكون هذا السلف جزءاً من البنية السرديّة لنص المثل وصيغة استهلاله، بما يكشف عن جانب من جوانب تأليف كتاب (أبي فيد)، ويُعيّن استجابته لتقاليد عصره. لذا ليس من الغريب أن لا نجد من العناية بقصة المثل ما يعادل العناية بسلسلة سنده، فالقصة تُقدَّم، على ندرة القصص في الكتاب، مختزلة لا يُؤثّر منها غيرُ تحديد الفاعل، صاحب صيغة المثل (الأضبط بن قُريع بن عوف بن كعب) ومناسبته (الاغتراب عن القوم بعد رؤية ما يكره منهم، والعودة لهم بعد ما يلاقي من غيرهم ما لاقاه منهم)، في الوقت الذي يسعى المفضّل لإضاءة المناسبة، والاهتمام بتفصيلات حدثه القصصي، مثلما يمنح الشخصية في قصة مثله مساحة أوسع للتعبير عن نفسها.

وفي المثل الثاني يُلاحظ توجّه (أبي عبيد) لرواية (المفضّل الضّبيّ) على نحو مباشر بما ينظم استهلالاً مكوّناً من صيغة المثل زائداً مصدر روايته (عند النوى يكذبك الصادق، وكان المفضّل يخبر بحديثه أن رجلاً..)، مغيّراً تبعاً لنظامه من حدود تعامله مع ما يُروى، فصيغة الاستهلال في نص مثل (المفضّل الضّبيّ) تفتح مجالاً واسعاً، يكاد يكون غير منظور لقصته يُعمّق من زمن التجربة، ويمدُّ سلسلة رواتها (زعموا أن رجلاً مضى في الدهر الأول كان لـه عبد..) في الوقت الذي يحدد نظام استهلال (أبي عبيد) مجال روايته بـ(المفضّل) ويقصر من عمق تجربتها بحديثه، فالاستهلال، خلاصةً، يتحدد في استجابته لتقاليد الإسناد في الخبر بطريقتين، تعتمد الأولى نظاماً تقترحه صيغة (زعموا أن) وتحافظ عليه، بما يميّز بنيتيها النحويّة والدلاليّة من انفتاح، وتتشكل الثانية تبعاً لاستجابتها لموجّهات عصريّة تتمثل بالعناية بالدرس اللغوي، بما يتطلّب التركيز على بنية تصديق (قال، حدَّث، ذكر) أو عبر النقل المباشر باعتماد صيغة المثل نفسها استهلالاً للنص.

الفصل والوصل:

إذا كانت الدراسات البلاغيّة قد أوقفت مبحث (الفصل والوصل) على ما يكون بين الجمل من اتصال وانفصال، مجتهدةً في تعيين مواضعه، وتحديد أضربه بما يشير لاختصاصه بركن من أركان الجملة، فإن من العلماء مَنْ رفع منزلته ووسّع من اختصاصه لتكون البلاغة بسعة مباحثها وانفتاح آفاقها عبارةً عن ((معرفة الفصل من الوصل))، ولا شك في أن الجاحظ حينما أولى هذا المبحث أهمية كبيرة، معادلاً إياه بالبلاغة نفسها، أو معرِّفاً إياها به، لم يكن يعني حدود المبحث وتفصيلاته مثلما استقرت بين أيدي علماء البلاغة، بقدر ما يشير لقابليته على الانفتاح على طرائق التفكير وأساليبه التي يمثل الفصل والوصل جانباً مهماً من جوانب تشكّلها، وإذا كان الفصل والوصل قد دُرس بحسب تعريف الخطيب القزويني معتنياً بالوصل بوصفه عطفَ بعض الجمل على بعض والفصل ترك العطف، فإن للمبحث من الأهمية، من جانب آخر، ما يجعله (نظاماً) بلاغياً تترتب على أساسه أجزاء القول وتنتظم مفاصله، فالبلاغة كما يُشير أبو هلال العسكري ((إذا اعتزلتها المعرفة بمواضع الفصل والوصل كانت كالأليء بلا نظام))، وإذ نسعى لتأمل مواضع الفصل والوصل في كتب الأمثال، وندرس خصائصها، نتوجه لنبيّن جانب من نظامها السردي وانتظامها الجمالي، فالمثل بوحداته وتعدد صوره يعتمد بالأساس، وهو يُورَد في هذه الكتب، على قابلية الفصل والوصل التي تؤمِّن امتداد المقاطع وانتظامها مثلما تحكم ارتباطها مع غيرها منظمةً إجراءات التشكل السردي، ليكون بمقدور نسيج السرد الامتداد من المثل الواحد إلى مجموعة أمثال كما في كتب (المفضّل الضّبيّ) و(أبي فيد مؤرِّج السدوسي) و(أبي عبيد بن سلام) كل على طريقته، مقدماً شبكة أمثال موضوعيّة تعتمد في نظام علاقتها موضوعاً معيّناً تتوجّه فيه للعناية بواقعة، أو شخصيّة حقيقيّة أو متخيّلة، أو تعتمد مجموع أمثال في خلق أو صفة أو حال، مرتفعةً بالموضوع عبر استقصاء تفاصيله ليُصبح عندئذ هدفاً للحركة السرديّة.

إن نصوص الأمثال تقدِّم عبر شبكية موضوعاتها إنموذجاً سردياً لاتساع مهمات (الفصل والوصل) وانفتاح نظامه الجمالي وهو يمتد من الجملة إلى المقطع، ومن المقطع إلى المثل الواحد، ومن المثل الواحد إلى مجموع الأمثال، بما يتطلّب دراسة (الصيغة) التي تعمل أداة فصل أو وصل تمتد من خلالها مقاطع المثل، وتلتحم وحداته، وتتشكّل فروعه وأغصانه، من دون أن تغيب عن أنظار البحث الأهمية الخاصة لصيغة بعينها، والدور الذي تؤديه في انتقالها من الاستهلال إلى المتن لتقوم بأكثر من مهمة في وقت واحد، بمفردها وهي تتكرر من مقطع إلى آخر، أو بمشاركتها مع (صيغ) أُخر، باتصالها مع الاستهلال أو بانفصالها عنه، مما يمنح فكرة الانتظام السردي التي يعمل مبحث (الفصل والوصل) على تبيّنها فرصة التجسد عبر قنوات انتظام مختلفة نلمس من خلال تغيراتها أهمية الموجّهات التي يملك كل عصر بمؤثراته الخاصة واهتماماته واقتراحها، لتقترِح بدورها طريقةً أو تنشيء سبيلاً.

يمكن تقسيم صيغة الفصل والوصل بحسب ما تُقيمه من علاقات مع صيغة الاستهلال على النحو الآتي:

1-التطابق: كما تؤديه صيغة (زعموا أن) في حركتها من الاستهلال إلى المتن.

2-الاختلاف: باستخدام صيغٍ جديدة تنشغل بمفاد المقطع أو محموله شعراً كان أو نثراً، وتهيء المجال لوحداته باختلاف توجهاتها للانتظام داخل المثل الواحد.

يُقدِّم القسم الأول (التطابق) إنموذجاً سردياً تُراعى فيه العلاقات القائمة بين استهلال المثل وبين صيغة الفصل والوصل المعتمدة في الربط بين مقاطعه، مثلما تُراعى البنيتان النحوية والدلالية للصيغة في انتقالها من الاستهلال إلى المتن، فهي نحوياً تستعيد الموقع السابق باعتمادها في كل مرَّة ترد فيها تقديم تفصيل جديد تقصد به إضاءة جانب من جوانب المثل والتهيئة لاحتضان مثل جديد؛ إنها تفتح المجال لاتساع النسيج السردي وامتداده، فتكشف عبر الحفاظ على البنية الدلالية لصيغة الاستهلال مع انتقالها إلى موقع الفصل والوصل أهمية استجابتها لمعيار الظن أو التكذيب، وهي تمتد لإضافة تفصيل أو لتقديم مَثل؛ إن الصيغة بحفاظها على بنيتي النحو والدلالة لا تعمل بوصفها أداةَ ربط مجرّدة لا يُطلب منها أكثر من تحقيق وظيفة عطف بل إنها تسعى للإفادة من قيمة الاستهلال وموقعه لتجسيد نظام ينطوي على إمكانية كشف المناسبة بين مثلين أو أكثر، مثلما يكون بمستطاعه الإلماع لما بين هذه الأمثال من صلة.

تدعونا حركيّة هذه الصيغة لملاحظة نظام ورودها وهي تُقيم أوضح اتصال لها مع صيغة الاستهلال في كتاب (المفضّل الضّبيّ)، فـ(زعموا أن) تحقق حضوراً تتسع على أساسه الأمثال، وتُضاء التفاصيل، إنها تستجيب لنظام صياغة محدد في سبيل تقديم تشكيل سردي خاضع لعناية وترتيب، فلم يكن سرد المثل القائم في بنية استهلاله على مستوى من الاتصال بين سلسلة رواة لم تُؤخَذ متونها بتسليم كامل أو تُترك برفض كامل، ليهشم بصيغة داخلية تعتمد الصدق في نقل أو قول، إن الصيغة تُستعاد كما وردت في الاستهلال، وإن خضعت لتغيير جزئي، ليظل مجرى الرواية قائماً، مثلما يظل حكمها سارياً بين التصديق والتكذيب، الأمر الذي يكشف عنايةً سرديةً خاصة تنظم (أمثال العرب) وتضيء مفاصله كما في الجدول الآتي:

عدد مرات ورودها

صيغة الفصل والوصل

صيغة الاستهلال

رقم المثل

ت

مرة واحدة

وزعموا أن

زعموا أن

10

1

مرة واحدة

وزعموا أن

زعموا أن

13

2

مرة واحدة

وزعموا أن

زعموا أن

21

3

مرة واحدة

فزعم بعضهم أن

وكان

27

4

مرة واحدة

ويزعم بعضهم أن

ثلاث مرات

فزعموا أن

مرة واحدة

وزعم بعضهم أنه

مرة واحدة

ويزعم بعض الناس

مرة واحدة

ويزعم بعض بني

مرة واحدة

وزعموا أنه

مرة واحدة

زعموا أن

أما قول الناس

51

5

أربع مرات

وزعموا أن

وزعموا أن

62

6

مرة واحدة

زعموا أن

زعموا أنه

64

7

مرة واحدة

فزعموا أن

زعموا أن

68

8

مرتان

زعموا أن

زعموا أن

83

9

مرة واحدة

زعموا أن

زعموا أن

87

10

يهيء المثل عبر اعتماده صيغة معينة المجال لتنظيم حركته السردية، فالمثل رقم (62) على سبيل الدراسة يحتوي على عادة أمثال الضّبيّ، موضوعاً محدداً يؤدي دوراً مركزياً في تشكيل مقاطعه السرديّة أولاً، وإقامة ما يُمكن من علاقات فيما بينها ثانياً، ليكون ممكناً جمعها في إطار واحد، إذ تمثّل شخصية (لقمان) بصفتها وعاداتها، وبمن دار في فلكها من شخصيات، مركزاً موضوعياً، فالمثل لدى المفضّل لا يجمع أشتاتاً متفرقة من حكايات مختلفة، بل يعمل عبر الانشغال بموضوع معيّن على تنضيد مجموعة من صيغ الأمثال في مجال سردي واحد، ساعياً لخلق المناسبة التي يُصبح بالإمكان معها ربط عدد منها بنسيج سردي تنظم فيه صيغة (زعموا أن) موقعاً مناسباً لكل منها.

يحتوي المثل رقم (62) عدداً من صيغ الأمثال تنتظم على النحو الآتي:

الاستهلال: وزعموا أن: على أهلها تجني براقش.

وزعموا أن: هذا حِرٌ معروف وكنت البارحة في حِر منكر.

وزعموا أن: ذنب صحر أنها أتحفته وأكرمته وصدقته فلطمها.

وزعموا أن: كأن برحل باتت.

وبرحلها باتت لقم.

أشبه شرج شرجاً لو أن أسيمرا.

في نظم سيفك ما ترى يالقم.

الغادرة والمتغادرة والأفيل النادرة.

وزعموا أن: سدَّ ابن بيض الطريق.

تؤمِّن (زعموا أن) انتظام النسيج السردي للأمثال، مثلما تؤمِّن موقعاً في تسلسلها الموضوعي لصيغة كل مثل على حدة، ويمكن لها بانتقالها من الاستهلال إلى المتن الوصل بين مقطع وآخر لا يتأديتها وظيفة عطف مجرّدة كما سبق، بل بما يُمكنِّها من إقامة الصلة بين مقطعين أو أكثر يكمّل أحدهما الآخر، فالمقطع الأول بتركيزه على (براقش ابنة تقن) امرأة لقمان يهيء مجالاً للشخصية المركزية (لقمان)، وإن بطريقة غير مباشرة، فصيغة المثل الأول (على أهلها تجني..) تتوجه بالأساس لشخصية (براقش)، لكنه مع (زعموا أن) الثانية يرفع (لقمان بن عاد) إلى مصاف اهتمامه، مركزاً موضوعياً تُنسج على أساس تجاربه مقاطع المثل، وتتحرّك الشخصيات بما يقوم بينها وبينه من علاقات، فنرى أخته مع المقطع الثاني قد اتفقت مع زوجته لتنام معه ليلة، فحملت منه، وولدت غلاماً أسمته لقيماً، لتنتظم المقاطع الآتية بما يكون بين لقمان ولقيم من حوادث تُصاغ على أساسها الأمثال.

نلمس تغيراً يطرأ على عمل صيغة (زعموا أن) مع انتقالها من الاستهلال إلى المتن، واعتمادها صيغةَ وصلٍ بين مقاطع متحدة موضوعياً، إذ إنها تعمل في مجال أكثر تحديداً من المجال الذي عملت به أول مرة، بما يغيّر من وظيفتها بين موقعي الاستهلال والمتن، فصيغة (الاستهلال) يمكن أن تقترح بدءاً، عدداً لا نهائياً من الموضوعات، يُنتقى من بينها موضوع واحد ليكون مركزاً سردياً تُصاغ على أساس تجربته الأمثال، لكن صيغة (الوصل) لا تعمل إلا بما يعيّنه موضوع المثل، إذ تنتمي (براقش) و(القيم) و(ابن بيض التاجر) لمركز موضوعي واحد هو (لقمان بن عاد)، فمهما امتدت وحدات المثل، أو تكرر عمل (زعموا أن) فإنها لا تشتغل، بوصفها صيغةَ وصل، خارج المركز الموضوعي، بل إنها تعمل بما يمكن أن تضيفه من تجارب أو تكشفه من خصائص أو عادات تميّز مركز المثل.

وتؤدي صيغة (زعموا أن)، فضلاً عن الإضافة، دوراً في التنويع على موضوع معيّن إذ يكون موضوع المثل محدداً في شجاعةٍ، أو بخلٍ أو حكمةٍ شخصيةٍ معينةٍ، مثلما يقدم المثل رقم(83) بعض تفاصيل حمق (دغة بنت مغنج) الذي تؤكد زيادته باسم التفصيل (أحمق من دغة) لتدخل عبره مع مجموعة من حمقى العرب.

تهيء (زعموا أن) مجالاً لاستحضار بعض وقائع هذا الحمق، بعد أن عُيِّن صفةً من صفات شخصية المثل في مقطعه الأول، لتشكل وقائعه مناسبة لامتداد النسيج السردي محتوياً في كل مقطع صيغة مثل أو أكثر على النحو الآتي:

الاستهلال: زعموا أن: نعم ويدعو أباه.

أحمق من دغة.

وزعموا أن: هَيْنٌ لين وأودتِ العين

زعموا أن: القوم ما طبّون.

عبر انتقال (زعموا أن) من الاستهلال إلى المتن، وبتغير عملها بين الموقعين يحدد (المفضّل الضّبيّ) نظاماً يسري بين مفاصل كتابه جميعها، فـ(زعموا أن) باقتراحها سمات سرديّة تختلف بين موقعي الاستهلال والمتن، وبتكملة إحداهما عمل الأخرى يُقيم (المفضّل) نظام إيراد المثل في كتابه، والطريقة التي تجمع وحداته بعضها إلى بعض وتصل بين قصصه بما يقتضي توجّه النظر إلى معالجة النقد العربي الحديث، وهو يُعيد قراءة النص التراثي، لـ(زعموا أن) من جهة موقعها التاريخي بين نماذج السرد بوصفها ((أول طريقة من طرائق السرد العربي المكتوب فـ((زعموا)) هذه كأنها أم الأشكال السرديّة، وأصلها، وأعرقها في الأدب العربي))، أو من جهة عملها وهي ((تعلن للمتلقي أن السرد قد بدأ))، لكن هذا النقد يكتفي في معالجته لكل من الموقع والعمل بقراءة (زعموا أن) وفحص أهميتها داخل كتاب (كليلة ودمنة)، فإذا كانت أهمية استخدام (ابن المقفع) (ت حوالي 142 هـ) لها تتأسس على ابتكاره ((عبارة تميّز بين ما ينقله هو إلى الأدب العربي من الفارسيّة القديمة، أو ما يفترض أن يكونه، وإنه لم يكن يندرج ضمن الرواية التاريخيّة الموثوقة المتصفة بالتحري الدقيق ما أمكن ذلك)) فإن استخدام (زعموا أن) داخل شبكة نصوص تعود للغةٍ واحدة من ناحية، وعملها بين موقعي (الاستهلال) و(الفصل والوصل) من ناحية أخرى يتطلب نظراً خاصاً يُخرجها، إجرائياً، عن حدود استخدام (كليلة ودمنة) بما يوسع من فعاليتها السردية وهي تشكل، كما تقدم، مظهراً سردياً مهماً من مظاهر سرد نصوص كتاب (المفضّل الضّبيّ) في انحرافه من التدوين المجرَّد للنصوص إلى محاولة إنتاجها، بما يُضفي عليها من نظام، إنتاجاً أدبياً، الأمر الذي لا نجد لـه مثيلاً في كتب دراستنا عدا كتاب (أبي عبيد القاسم بن سلام) الذي يقدم وجهاً آخر من أوجه (الفصل والوصل) لا يقف داخل حدود المثل الواحد، أو يعتمد في باب محدد من أبواب الكتاب، بقدر ما يمثل نظاماً يمتد من المثل إلى الباب ومنها إلى جماع الأبواب، مكوّناً سلسلة من المعاني والموضوعات ميّزت كتاب (أبي عبيد) ومنحته موقعاً خاصاً بين كتب الأمثال، فهو لم يكتف بنقل جُلّ ما كُتب في كتب الأمثال السابقة أو الاستعانة في تفسير الأمثال بأقوال المشاهير من علماء العربية، بل أخضع ذلك لنظام خاص من التبويب والتأليف عوملت فيه الأمثال المثقفة في موضوعها كما لو كانت مثلاً واحداُ يُكمل بعضه بعضاً بغير توقف أو انفصال، فموضع الكتاب الأول، مثلاً، يهتم بـ(جماع أبواب الأمثال في صنوف المنطق) ويمتد لسبعة وعشرين باباً يحتوي كل منها جانباً من جوانب الموضوع ويضيء ركناً من أركانه، من دون أن يكون بين المثل ومجاوره وبين الباب وما بعده شيء من نفور أو تعارض أو انفصال، فهو يستخدم كما في الباب الأول (باب المثل في حفظ اللسان وما يؤمر به منه للتقوى وسلامة الدين مع الموعظة فيه) الفعل (قال أبو عبيد..) مفتتحاً ليتضمن قول أبي عبيد بعده إشارة لما (وجد) من الأمثال في هذا الباب (وجدنا من الأمثال في حفظ اللسان..) مستخدماً فعلاً يشير لأحد مصطلحات الحديث، بما يُهيء المجال للنظر لما بين كتب الأمثال وكتب الحديث وأساليب روايته من أسباب يحكمها العصر وينظمها عمل العلماء في الحقلين معاً. نلاحظ بعدها استمرار (أبي عبيد) في إيراد أمثاله بروابط مثل (ومنها قول..، ويقال في نحو من هذا.. كذلك قولهم..) بما يؤمِّن اتصالاً بيّنا بين المثل وما بعده.

وفي كتابيَ (أبي فيد) و(أبي عكرمة) يلاحظ عدم الاهتمام بتحديد نظام سردي خاص يورد على أساسه المثل ويوصل بين نصوصه، على الرغم من اعتماد موضوع معين لكل مثل واستحضار عدد من قصصه كما في كتاب (أبي فيد)، إذ إنه يقدم في المثال رقم(12) سلسلة قصص تتخذ من (حمق الضبع) موضوعاً، إلا أن انشغاله بالموضوعة اللغوية، وعمله على تفسير غريب اللفظ ثم الاستشهاد بالشعر لتأكيد المعنى، يُسهم بإضعاف النسيج السردي ونفي سمة (النظام) عنه، إذ يظل الموحِّد الموضوعي ثانوياً في عدد كبير من أمثال الكتاب أمام رغبة مؤلفه، واهتمام عصره، بالبحث والمعاينة اللغويين. يُدرج (أبو فيد) المثلين (12) و(13) على أساس موضوعي على النحو الآتي:

ما أضيف من صيغ الأمثال

المقطع

الفصل والوصل

صيغة المثل

ت

لغة

وإنما قيل

خامري حضاجر

12

استشهاد

وقال الراجز

قص

وإنما قيل

قص

ومما قالت العرب

قص

وزعموا

قص

وذكروا

قص

وهي التي

في بيته يؤتى الحكم حر انتصر حدث حديثين إمراه..

قص

ووجدت الضبع تمرة

إن الضبع تأكل الطعام

ويقال فيها

تعليل

استشهاد

استشهاد

يقال ذلك

عيثي جعار

13

قص

وسال

مثلما يقدِّم الجدول، لا يعتمد كتاب (أبي فيد) أسوة بكتب الأمثال التي توجهت توجهاً لغوياً صيغةً معيّنةً في استهلاك أمثاله أو متونها، ولا يُقيم بين صيغتي الاستهلال والفصل والوصل أية سمة للمماثلة أو المطابقة، إذ أن صيغ الاستهلال لديه لا تعتمد إنموذجاً معيناً فهي تكاد تتعدد تعدد الأمثال في الكتاب، مثلما تتعدد صيغ الفصل والوصل لديه تعدد مفاد مقاطعها وتتغير بتغير محمولاتها. إن إيراد صيغة المثل نفسها مفتتحاً العمل على تفسيرها، ثم الاستشهاد على التفسير بالشعر يخلق مقاطع تؤثِر الصياغة التعليمية، وتنحو منحى الدرس اللغوي أكثر من جهدها في تقديم أنموذج يعتمد في صياغته السرديّة نظاماً محدداً يمكن ملاحظته على أمثال الكتاب في تقديم استهلالها أو متونها.

يُلاحظ تغير صيغة الوصل في كتاب (أبي فيد) بتغير المقاطع، فهي تعتمد كما في المثلين(12) و(13) (إنما) الكافة والمكفوفة في حالتي فتح المجال للمعلومة اللغوية وللمقطع الحكائي على السواء، مثلما يُلاحظ اعتماد صيغ مثل (مما قالت العرب، وزعموا، وذكروا) في مجال واحد، من دون النظر إلى ما بينها من فروق نحويّة أو دلاليّة بما يمكن أن يشير إلى اعتماد أسلوب شفاهي (تروى) فيه مادة الكتاب أو (تملى) على مجموعة من السامعين، فتغيّر الصيغة يُضفي مستوى من التنويع على الرواية، والإملاء يجدد انتباه السامع ويحفّز الصلة بينه وبين راوي الكتاب، فالنظر لم يعد محدداً-في كتب الأمثال التي نحت منحىً لغوياً-بأفق الكتاب، بما يكون بين وحداته من علاقة وما يؤسس من نظام، بقدر ما سعى لتنظيم علاقة بين (راو) وبين (مستمع) تظل بحاجة إلى ما يجدها ويؤكد الانتباه فيها.

ومع كتاب (أبي عكرمة الضّبيّ) نلمس تغيراً في الموقف من محمول الكتاب وطريقة تأليفه، تمليه موجهات عصريّة لم يكن أثرها حاضراً بالأهمية ذاتها في كتاب (المفضّل)، إذ يُشير (أبو عكرمة) في أَول كتابه إلى الدور الذي يُتطلب منه؛ والغاية من تأليفه، فهو يتوجّه لمعاني الكلام مما يحتاج إلى تفسير والتبيين بالشواهد الشعريّة فضلاً عن نسبة كل قول لصاحبه: ((هذا كتاب ألفناه من معاني كلام العرب السائر، مما يُحتاج إلى تفسيره؛ لكثرة استعماله، وبينّاه بشواهد من الشعر واللغة، وفسرنا ذلك، ونسبنا إلى كل عالم قوله)) مما يبين اهتمام كتابه بالتفسير والتبيين والتعليم أكثر من اهتمامه بـ(المثل) تاريخاً وروايةً، أو إفادةً مما ورد في كتب الأمثال السابقة، فهو بناءً على هذا التصور لا يُقيم لانتظام المثل في كتابه أهميةً تعادل أهمية الاستقصاء والمعاينة اللغوية مما يقترح أسلوباً لا يكاد يستجيب في معظم خصائصه لعنوان الكتاب، فهو يستفيض في البحث عن مذاهب (القول) ومعانيه واستقصاء ما يناسبه من شواهد كما في: (حياك الله وبياك)، و(ما ساءه وناءه)، و(لبيك وسعديك)، و(نادم سادم)، و(الأصل والفصل)، و(بيضة العقر)، و(مرحباً وأهلاً وسهلاً).. إلخ، وقد يكتفي بذكر ما يقع من اختلاف في أقوال العلماء في تفسير قول واحد مثل (ما يَعْرِف هِراً من برٍّ) فهو يجمع أقوال (خالد بن كلثوم) و(أبي عبيدة) و(جهم بن مَسْعَدة الفزاري) في تفسير القول السابق على ما بين الأقوال من تباين واختلاف، أو يعتمد حديثاً للرسول محمد مثل (نِيَّةُ المؤمن خير من عمله) أو (اطلبوا الخيرَ من حسان الوجوه) بتفسيره والتمثيل لمعانيه.

يشير توجه (أبي عكرمة الضبي) ومن قبله (أبي فِيد مؤرِّج السدوسي) إلى تغير في مفهوم كتب الأمثال يؤثر على نحو مباشر على نُظم التأليف فيها، مثلما يكشف تصور مرحلة معينة لصيغة المثل نفسها، فاعتماد ما يدور على ألسنة الناس وتفسيره، والوقوف على أصله، لا يوجه النظر، في معظم الأحوال، إلى (المثال) الذي أُخذ (المثلُ) عنه، أو التجربة التي تم خلالها صوغ المثل وإنتاجه، بل إنه في أحيان كثيرة يهمل ما يقع من شبه بين اثنين ((يشبه لـه حال الثاني بالأول)) ولن يكون المثل من دونه، فهو بوقوفه على الجانب اللغوي يسعى لبيان واستقصاء ما قالته العرب أكثر من سعيه للوقوف على ما (خبرته) ونتج من تجاربها، بما يشابه تجربة راهنة أو مثالاً حالياً يكون معه إيراد المثل أمراً متطلباً يقيم الموعظة ويحقق الاعتبار.

إن التوسع في مفهوم المثل يشير إلى مجموعة من التحولات، يكشفها التشكيل السردي للكتب نفسها وهي توسع دائرة انشغالها من المثل ومناسبته إلى ما يجري على ألسنة الناس مع حفاظها على وحدة عنواناتها واتفاقها، على الرغم من تباين توجهاتها في (المثل) العربي. وقد يُؤتى في كتبنا، بالمثل نفسه شاهداً على معنى لغوي معيّن فتتراجع أهميته سواء ذُكرت قصته أو لم تُذكر، كما في مجيء (أعيينني بأشر فمالك بدردر) شاهداً على معنى (الدردر) في كتاب (أبي فيد)، أو الاكتفاء بإيراد معنى لفظ ما من دون صيغة مثل معتمدة: (("المنجود": المغلوب)) قال أبو زبيد:




  • ولقد كان عُصَرةَ المنجودِ
    صادياً يستغيثُ غيرَ مغاثٍ



  • صادياً يستغيثُ غيرَ مغاثٍ
    صادياً يستغيثُ غيرَ مغاثٍ



وقال آخر:

(لا يأكل التَّمرَةَ حتى يُنْجدا

ولا رخيف الزبدِ حتى يُزغدا)

أو: ((هذا حبقر كما ترى))، أنشد أبو الدقيش:

كأن فاها حبقر بارد..

فقلت له: ما الحبقر؟ فقال: البَرَد).

إن تأملنا لصيغ الفصل والوصل المعتمدة والوصل المعتمدة في كتب أمثال دراستنا، خلاصةً، يقودنا لملاحظة قدرتها على تقديم نظام سردي تأتلف من خلاله وحدات نص المثل وتتآخى مقاطعه، بما يُهيء لبنيته السرديّة مجالاً لتنظيم ما يمكن من علاقات بين عناصر النص، بما تقدمه بنيتا صيغة الفصل والوصل النحوية والدلالية من مناسبة لترتيب المقاطع والوحدات، استجابة لموجهات إنجاز الكتاب، الفنية منها، كما تمثلت في كتاب (المفضّل الضّبيّ) وهو يقدم إنموذجاً سردياً مميزاً تلتحم فيه مقاطع نص المثل عبر تواصل عمل الصيغة من موضع الاستهلال إلى موضع الفصل والوصل. أو بتباينها بين الموضعين كما في غيره من كتب دراستنا، ليكون التوجه لاستخدام أكثر من صيغة في موضع الفصل والوصل سمةً يحددها الهدف اللغوي لهذه الكتب، وعنايتها بتجديد سبل اتصالها مع مستمع يُملى عليه محتوى الكتاب بوصفه ركناً من أركان العملية التعليمية، مما يُفرّط، بالضرورة، بخصائصه الفنيّة مقترحاً خصائص وسمات يكون بمقدورها الاستجابة لموجهات عناية لغويّة تستعين معها بمصطلحاتها، مغيّرةً من فهمها لمفاد النصوص واشتراطات انتظامها في كتب (الأمثال).

/ 89