تغيّرات النصوص حركة السياق الثقافي وأثرها في بناء الأحداث
مثلما أثرت موجّهات الثقافة ومتغيراتها في الحياة العربية بمختلف أنشطتها الأدبية والفكرية، أثرت في نص المثل، وهو جانب مهم من جوانب الحياة، وغيّرت من نُظم التأليف فيه مع دخول كتبه مرحلة شهدت تغيراً في سياق التلقي واستجابة لنوع من الموجّهات اقتضته طبيعة المرحلة وخصوصية عملها، لا بما خضعت لـه نصوص الأمثال من نظر في سياق (التلقي التاريخي) بوصفها مرويات جاهلية عوملت معاملة مرويات سردية ونثرية أخرى كالقصص والخطابة ونثر الكهان، بل بما سحب هذا الضرب من التأليف إلى جهة الدرس اللغوي وإخضاعه لعناية تفسيرية وضعت نصب اهتمامها مقتضيات عصرها وحاجاته اللغوية أكثر من اهتمامها بالنصوص نفسها. الأمر الذي يمكن أن يُجيب عن سؤال التغير النوعي في مفهوم (المثل) نفسه بين كتاب (المفضّل الضّبّي) والكتب اللاحقة، باعتماد الأول نمطاً محدداً من صيغ المثل المعروفة، وتوخي إضاءة ما علُق بها من أخبار، إنما قامت في سبيل إحياء التجربة بالدرجة الأساس والتقاط تفاصيلها، وبتوجه الكتب اللاحقة لتطويع نصوص الأمثال لغايةٍ هي الاستقصاء والاستزادة اللغويين بما يجيب ضمناً عن تحول بعض كتب الأمثال إلى مختارات شعرية أو نوع من المعاجم اللغوية. إن تغير السياقات وتباعد أهدافها يؤثر، بالضرورة، في النصوص وهي تستجيب في كل مرة لإيقاع مختلف يشمل بآثاره نُظم التأليف وأساليبه مثلما يشمل عناصره ووحداته، والحدث واحد من العناصر التي خضعت لتغيرات كمية ونوعية، انسحبت معها عن أداء دورها الأساس كما تمثَّل في كتاب (المفضّل الضّبّي) لتشغل موقعاً ثانوياً لا يتعدى عُشر نصوص أمثال الكتاب أو أدنى من ذلك تاركاً مكانه لحضور تفسيري يصبغ الكتب بصبغته ويخلخل مركزها القصصي، إذ إن الحدث، فضلاً عن محدودية وجوده، لا يتشكل إلا من خلال تعليق مؤلف الكتاب نفسه وهو يهشّم الوحدات ويجزئها بما يحد من فاعلية حضورها السابق، فالحدث لم يعد يُطلب، في كتاب أبي فيد وأبي عكرمة على نحو خاص، لذاته أو لإضاءة تجربة المثل على أبعد تقدير بل بما يمكن أن يعزز من حضور الملفوظ الذي أصبح تبعاً لاختلاف الموجّهات مركزاً من مراكز هذا النوع من الكتب بما يحقق لصاحب الكتاب بوصفه عالم لغة بالدرجة الأساس، موقعاً يتحكم من خلاله ((تحكماً كلياً في شكل القص ولغته، أو بمعنى آخر، يتحكم في طريقة السرد وفي أبعاده اللغوية والدلالية والإشارية)) فيقدِّم جانباً من جوانب النص ويؤخر آخر، مشكِّلاً أكثر من مظهر لنص المثل وموجّهاً النصوص جميعها نحو الهدف الأساس للتأليف وغايته الأولى بما يمكن معه تحديد أنواع ثلاثة لصياغة النصوص هي:1.النصوص اللغوية.2.نصوص الحديث النبوي الشريف.3.نصوص الأحداث، أو تجارب المثل.يشكّل القسم الأول جانباً مركزياً من جوانب كتاب أبي فيد وأبي عكرمة على نحو خاص، وهو يمكن أن يمتدّ ليشمل القسمين الأخيرين وإن توجه كل منهما وجهة مختلفة، يعتمد النص فيه على نحو كامل على ما يُقدَّم من تفسير للفظ مفرد أو جملة تقوم بوصفها مثلاً، أو ما يعادل المثل تُلتقط على أثر حركة جديدة قامت بها فئة معلمي اللغة ورواتها منذ أواخر القرن الثاني بوصفها شواهد لغوية، وتتطلب من العناية والاهتمام ما يتطلبه المثل، فألفاظ مثل (المبسل)، (الفنع)، (الرعلاء)، (التعتة)، (العرص)، (الوقبة)، وجمل مثل (ما به قلبه)، (لبيك وسعديك)، (نادم سادم)، تقوم في الكتابين مقام المثل وتعامل معاملته، وهي تعتمد من جانب آخر العناية اللغوية وجهاً من وجوه تقديم الأمثال وإنتاج نصوصها، فلا يُضاء من المثل في هذا الجانب إلا وجهه اللغوي بحثاً عن معنى أو تفسير واستشهاداً بما يناسب من الشعر لتقريب الصيغة وتأمين عملها مثل:((بدت جنادعُهُ)) قال أبو فيد: سمعت أبا الدقيش يقول:
قد خرجت جنادعُهْ
والشَّرُّ ليسَ وادعُهْ
والشَّرُّ ليسَ وادعُهْ
والشَّرُّ ليسَ وادعُهْ