تقودنا دراسة التشكيل السردي في كتب الأمثال إلى معاينة جانبها القصصي الذي يُسهم في منح نصوص الأمثال خصوصيتها بالنظر إلى أهمية موقعه بين جوانب نص المثل، ولا تكتفي دراسة تركيب قصة المثل واستكشاف طبيعتها بأن تضيء أمامنا حدود النص الداخلية ولا تنغلق على بيان نُظم الأحداث وأنساق ورودها، بل تتوجّه من خلالها لبيان عددٍ من العلاقات مع مرجع مؤثر مثلما تحدد موقعاً لصيغتها، فلا تكاد قصة المثل تنفصل عن مرجعها أسوة بالفن القصصي بالإضافة إلى سعيها لتحقيق نوع من الحضور للتجربة التي لا تنبثق صيغةُ المثل ولا يُؤَكد حضورُها في وعي مجموعة لغوية من دونها.إن نوعاً من التلازم بين التجربة وهي تُصاغ في منظومة خبريّة محددة وبين الصيغة، يظل واضح الأثر مع استخدام الصيغة في الممارسة اليوميّة: إن (المثل) بجملة أخرى لا يحقق مجاله التداولي مرتفعاً إلى ثقافة جماعة معيّنة من دون أَن تُحيط هذه الجماعة بتجربته وتأتلف واقعته، وتعيد إنتاجها بطريقة أو بأخرى، وهي تملك من الحساسية والتنظيم ما يدفعها على الدوام إلى الكشف عن جانب من الهاجس الفني للجماعة. ولعلّ من الغني عن البيان الإشارة إلى اختصاص هذا التصوّر بالأمثال المنبثقة عن تجربة معينة، تُصاغ في (قصة) لتنظيم مجال صيغتها وبيان أصلها، من دون أن يشمل الأمثال النصيّة التي إنما قامت لخصوصية أصلها وأهميته الثقافية كأمثال القرآن الكريم، وأمثال الحديث النبوي، وأمثال الشعر، وما نُقل على ألسنة الخطباء والحكماء من مشهور القول ومتداوله، وإن اعتمدت جميعها ((ما يكاد يكون فطرياً في أمثال الأمم جمعاء نعني: الاقتضاب وبعد الإشارة)). وإذا كانت (القصة) قد تجلّت فناً أدبياً مميزاً لأهداف عديدة وغايات، فإن غايات وأهدافاً محددةً تعمل على استحضار القصة وتأمين عمل منظومة أخبارها داخل نص المثل واعتمادها وحدةً مهمة من بين وحداته، إذ أنها فضلاً عن اشتراكها مع القصة عموماً بحكم مركزيتها للتجربة الإنسانية، وارتفاعها عن نوعية ومستوى الأدب الذي تتجلّى فيه، تعمل على إنجاز مجازها، وتأمين استعارتها بوصفها ((اللفظ المركب المستعمل فيما شبّه بمعناه الأصلي تشبيه التمثيل للمبالغة في التشبيه))، فالتشبيه في الاستعارة التمثيلية لا يقع لما يكون بين مشبّه ومشبه به من تقارب في (المعنى) فحسب، بل يتعدى ذلك لتأشير ما يُلتقط من أوجه الشبه بين تجربتين، تقوم إحداهما بدور المشبّه، في حين تقوم الثانية بدور المشبّه به، لتنتظم الاستعارة باستحضار التجربة الراهنة التي تقوم مقام (المشبّه) وتغييب أو تأجيل التجربة السابقة، تجربة المثل نفسها التي تقوم عندئذ مقام (المشبّه به)؛ إن مهمة الاستعارة القائمة على حذف المشبّه واستعارة التركيب الدال على المشبّه به، أي صيغة المثل للمشبه، تدعونا لتأمل أهمية تجربة المثل وملاحظة نُظم صياغتها القصصيّة في كتب الأمثال وهي تحدد بالإضافة إلى محتوى التجربة صيغة المثل التي ستشير لخبرة الجماعة ووعيها لتجاربها، فلا يُحدد استخدام المثل بزمان ومكان معيّنين، ولا يُعتمد لرغبة آنية عابرة، بل إن لـه من الخصوصية ما يؤكد حضوره في مختلف التجارب الإنسانية رصيدَ ثقافةٍ تنشؤه الجماعة وتحافظ علية بما يُقترح لـه من مجال تداولي في حياة أبنائها ((ذلك أن تركز البعد العملي فيها خصب وعميق وموح))، الأمر الذي يكشف أهمية قصة المثل في التركيب الاستعاري، ويُعيّن لها موقعاً مؤثراً بغض النظر عما تؤديه من إخبار أو ما تتوسل به من طرائق وأساليب.وإذا توجّهنا لتأمل قصة المثل ومعاينة وحداتها تبيّناً ما تتفق به هذه القصة مع ((أبسط شكل للقصص النثري هو قصة تحكي سلسلة من الأحداث))، فإن عناية المثل بالتجربة التي أنتجت الصيغة وأمّنت لها مجالاً سردياً مناسباً دفع القصة للانشغال بمفاد التجربة، بالنظر إلى خصوصية موقعها في حياة الجماعة وفي رصيد خبراتها، فالأحداث في مثل هذا الشكل من القصص لا تستجيب على نحو كلي لإيعاز فني أو بنائي تتقدم على أساسه باقي وحدات قصة المثل، بقدر ما تبدو استجابة لمنطق خارجي يوجّه القاص، معلوماً كان أو غير معلوم لـ ((يقدم لسامعيه الأحداث في خط متسلسل تسلسلاً زمنياً مضطرداً وبنفس ترتيب وقوعها))، إنه يمثل باستجابته تلك صورة لممارسة سرديّة وضعت نصب عنايتها الاهتمام بوقائع الجماعة التاريخية منها والمتخيّلة، ورصد صيغتها المنتجة بما يُقترح عندئذ من نمط هو عبارة عن ((سلسلة من الأحداث المترابطة زمنياً ومنطقياً)) بما يميّز دور الأحداث ويدفعها للإسهام إلى حد كبير بتوجيه القصة داخل نص المثل باعتمادها عدداً من الوقائع التي يجمع بينها رابط معيّن، الأمر الذي يزيد من دور الخبر وفاعليته في تأمين مادة مناسبة باستعمال ((السرد القصصي على مجموعات وطوائف من الأحداث والوقائع)) ويؤمِّن لتجليه في قصة المثل تنضيداً مناسباُ يمكن أن يُشير لمرحلة مهمة من مراحل تطوره، ويكشف وجهاً خاصاً من وجوه استخدامه قبل أن يستقل عن التاريخ ويكتسب ((قيمة أدبية خالصة)).إن الأحداث وهي تشكّل وحدة مؤثرة من وحدات نصوص الأمثال، وتُسهم في نمط من الصياغة يراعى فيه توجّه التأليف للواقعة التاريخية وهي تتداخل مع التخييل في نصوص المؤلفين العرب الأوائل، تضيء توجهاً عربياً قديماً اختصت به القصص ((منذ العصر الجاهلي ثم نمى [كذا] وازدهر في العصور الإسلامية. نما من داخله ووفقاً لمنطقه الخاص ولمنطق العصر والمجتمع اللذين كان يخاطبهما)) .