تُعدُّ الشخصية ركناً مهماً من أركان العمل السردي، وواحداً من عناصره الأساسية، تتجلى عبر أفعالها الأحداث وتتضح الأفكار وتتخلق من خلال شبكة علاقاتها حياة خاصة تكون مادة هذا العمل، فهي تمثّل ((العنصر الوحيد الذي تتقاطع عنده كافة العناصر الشكلية الأخرى بما فيها الإحداثيات الزمنية والمكانية الضرورية)) التي لا يستطيع العمل التعبير عن مفهوماته عن مصير الإنسان وتحولات تجاربه إلا من خلالها، وهي تضطلع بأدوار مؤثرة مؤدية ((مختلف الأفعال التي تترابط وتتكامل في مجرى الحكي))، إن تشكّل نسيج السرد واتصال حلقاته معقود إلى درجة كبيرة بما يميّز شخصياته من نشاط وما ينمُّ عنها من أفعال وحوارات تتباين بتباين محمولاتها واختلاف مواقعها ومستوياتها، معبرة بذلك عن تباين عالم العمل السردي وتعدُّد مستوياته وعدم خضوعه لمقولات أو حقائق تعجز معها الشخصية إن تنمي حدثاً أو تدير صراعاً أو تنشئ حواراً وهي تقيم جدل علاقاتها مع سواها من الشخصيات، ومع عناصر العمل السردي الأخرى.وبالنظر لأهمية الشخصية وخصوصية دورها فقد استقطبت الكثير من العناية النقدية على اختلاف مراحل واتجاهات العمل السردي، والروائي منه بخاصة، إلى الدرجة التي يمكن معها تعيين سمات كل مرحلة تبعاً لما تقيمه من صلة مع الشخصية وما تعبّر عنه من فهم لها وهي تشكّل علاقاتها مع الواقع، التي بقيت- هذه العلاقة- مركز الوعي النقدي في استيعاب فاعلية الشخصية وتحديد ما تتميز به من ملامح وسمات في استجابتها لـ(ازدواجية السياق) وهي ((تقدم عالماً متخيلاً في شيء من العلاقة المكتشفة مع عالمنا التجريبي)) من دون أن تؤسس فهماً ثابتاً لعلاقتها مع الواقع أو تستجيب بصورة محددة منه، إذ أننا نكون بمواجهة نوعين من التصورات النقدية تشكلهما حساسية هذه العلاقة وفاعلية حركتها داخل النص الأدبي وخارجه، ويقتضيها نوعان من الوعي يتوجه الأول منهما لفحص النص الأدبي في ضوء ما هو خارجي، تاريخياً كان، أو نفسياً أو اجتماعياً، فيما يتوجه الثاني لفحص النص بوصفه كلاً متكاملاً يستمد حياته ويشكّل حضوره مما تمنحه اللغة من فاعلية، إنهما التصور (ما قبل البنيوي) و(البنيوي)، يخلط الأول بين مفهومي (الشخص) و(الشخصية) ويحدد الثاني فهماً خاصاً لـ(الشخصية)، فقد سعى الأول طويلاً لتجسيد الإنسان كما هو موجود في الواقع، وبالطريقة التي يكون بها نتاج ظاهرة اجتماعية تسهم بتشكيلها مكونات متعددة وتتأسس على تصور ثقافي أو أيديولوجي فيما عمل الثاني على النظر إلى الشخصية بوصفها معطى من معطيات العمل الأدبي وواحداً من أهم عناصره وأكثرها تميزاً ((مما جعل مفهومها تخيلياً لسانياً، فهو تخيلي لأن الشخصية تُخلق بواسطة الخيال الإبداعي الروائي وهو لساني لأن اللغة هي تجسد الشخصية المبدعة))، وقد حافظ المجتمع على أهمية دوره في إنتاج (الشخص/ الشخصية) وهي تستمد مقومات وجودها وسماتها من واقع خارجي يُعدُّ العمل السردي معه تاريخاً لتحولاتها أو توثيقاً لصراعها مع قوى مختلفة، فيما مثّلت اللغة المادة الأساس لتكوّن (الشخصية) وهي تُدير صراعاً ضمن واقع نصي تتجلى فيه سماتها وتنتظم مقوماتها التي تميزها عن سواها من الشخصيات.وقد شكّلت الشخصية في نصوص الأمثال ركناً من أركان العلاقة بين هذه النصوص ومراجعها الواقعية لما تنهض به من مهام بين حدي (الإخبار) و(التمثيل)، ففي الوقت الذي تعبّر فيه عن تاريخ تجربة زمنية تسعى لتمثيلها بما تقوم عليه النصوص من أنظمة وآليات، وهي مع تقديمها لتجربة الصيغة وإيحائها بفضاء وقوعها لا تستغني عن دور الشخصية بوصفها العنصر الذي يتجسد ((في العمل السردي ضمن عطاءات اللغة التي يغذوها الخيال للنهوض بالحدث وللتكفل بدور الصراع داخل هذه اللعبة السردية العجيبة))، وإذا كانت الشخصية في النصوص السردية عموماً وفي نصوص الأدب الواقعي بشكل خاص قد وُجِّهت لفحص هذه العلاقة من خلال معاينة تجسدها ضمن سياق اجتماعي مُعيّن ورصد مختلف تغيراتها خلال تغير مجرى الأحداث، فإنها تولد في نصوص الأمثال وتنمو وتنفعل وتتفاعل لترتفع بأهداف النصوص وتُنجز مهماتها في كشف تجربة صيغة المثل والتمثيل لها. وإذا كانت (الأمثال) قد عُدَّت صورَ معرفة تحمل، بين أهم ما تحمل، أطياف التجربة الإنسانية وهي تنعكس أبنية وأنساقاً على مرآة العقل، فإن الشخصية تُعدُّ في مثل هذا التصور واحداً من أهم ملامح التجربة وأوضح أطيافها، إنها العنصر الذي تُناط به مهمة الحركة بين مجالي (المرجع) و(النص) من دون أن يفقد خلال حركته وانتقاله صورته الأولى أو يغادر ملمحاً من ملامحه، فهو يحافظ على حراجة العلاقة التي تقام بين النص ومرجعه فتتكون لـه حينئذ صورتان: صورة تأريخية وأخرى أدبية، تعملان في إهاب واحد وتُنتِجان في امتزاجهما وتضافرهما مرتكزاً أساسياً من مرتكزات نصوص الأمثال، وهو ما دفع بعض الباحثين إلى عدم التسليم بتاريخية ما ترويه هذه النصوص من قصص وما يتخللها من وقائع وأحداث، وإن لم يتخلوا بشكل كامل عن النظر إلى ما تُنمّ عنه من تاريخ فسميت لذلك بالقصص (شبه التأريخية) لتشير التسمية لما يمتزج فيها من حوادث التأريخ والخيال، مثلما هي الحال في معظم نصوص الأدب الشعبي الذي يتوجه في مختلف أشكاله لتأمين صلة حية مع واقع معلوم، وإن تعامل مع هذا الواقع في كثير من الأحيان تعاملاً حراً ينفلت فيه من إرادة التاريخ أو حدود الجغرافيا ولا يحافظ على اشتراطاتهما إلا بمقدار.إن حضور الشخصية التاريخية في نصوص الأمثال باسمها ولقبها وكنيتها، وبسماتها الجسدية وما عُرف عنها من نزوع واهتمامات يُعين على تأمين هذه الصلة والارتفاع برصيد كتب الأمثال على التقاط جانب من التجربة الإنسانية لإضاءة صيغها وبيان وقائعها للاقتراب من (حقيقة) ما تروي وتوثيق تأريخيته بحضور الشخصية نفسها التي تُعدُّ بما تُعزز به من معلومات وثيقة إنسانية تستحضرها النصوص للارتفاع بمصداقية روايتها، وإن خضعت الشخصية نفسها لأسطورية الحضور واستجابت في أداء تجاربه لهيمنة الخيالي وقوة تشكّله.وإذا كان الاسم يُطلق على الشخصية على سبيل التعيين من دون أن يُسهم بإعطائها صفة لازبة، أو يؤكد شريّتها أو خيريتها، لأن أية علامة يمكن أن تحل محله، كما أن أي ضمير من الضمائر يمكن أن ينهض بهذه المؤونة فإن المهمة تأخذ بعداً آخر في نصوص الأمثال يؤدي خلاله اسم الشخصيّة دوراً أساسياً في بيان شخصيته، مثلما يعمل على تحديد المحور الإنساني لتجربة المثل وهو يُنمّي صلتها مع مرجعها الواقعي، إن الشخصيّة وتجربتها تُوثَّقان بما يُحدد للأولى من اسم وما يُكشف عنها من معلومات تُسهم عبر كمّها ونوعيتها بتحقيق فاعليتها داخل النص مثلما تُسهم عبر الطريقة التي تَرِدُ بها بإضاءة جانب أساسي من جوانب بنائه. بيد أن ذلك لا يمنع وجود نوع ثان من الشخصيات تكتفي النصوص في استحضاره، ومتابعة أفعاله بالجنس (رجل، امرأة) أو بالضمير، وقد يشترك هذا النوع من شخصيات النوع الأول فيؤدي عندئذ أدواراً ثانويّة تدور في فلك الشخصيات الأساسية وتُكمل أفعالها، فينطوي النص عندئذ على تنويع في الشخصيات يُسهّل انفتاحه على مراجعه ويؤمّن لـه صلة مع واقع تجربته، مثلما تتعدّد داخله مستويات الشخصيات وتتباين أهميتها. وقد يقوم هذا النوع من الشخصيات المغفلة بالمهمة كاملةً فتبدو تجربة المثل عندئذ عامةً لا ترتبط بشخصية معلومة ولا تنتمي ولو على سبيل التسمية إلى زمن مُعيّن، بما يعيد إلى الذهن الهدف الأساس للنصوص: التمثيل للوقائع المنتجة لصيغ الأمثال أكبر من تدوين وقائع تاريخية مجّردة ، فالشخصية في الاتجاهين كليهما تُقدَّم من خلال منطق الأحداث سواء استثمرت رصيداً واقعياً يبلور أفعالها ويُسهم بإنتاج نصوصها عبر منظومة أخبار يسحب كل خبر منها صيغة مثل أو أكثر بما يشير إلى أهمية حضور الشخصيّة وانفتاح تجاربها مثل (ضبّة، امرئ القيس، النعمان بن المنذر، طرفة بن العبد..)، أو عُدَّت نتاجاً نصياً يُكتفى في سبيل تعيينه بالضمير، وينغلق على نص محدد لا يمتد إلى سواه، فهي تستمد حضورها من حضور الصيغة نفسها وتتعدّد صورها تَعدُّد الصيغ وامتداد شبكة الأحداث. تبدو من المهم هنا الإشارة إلى هيمنة البعد الخارجي على بناء الشخصيّة، فإذا كانت الشخصيّة في النص الأدبي لا تكتمل إلا بتضافر بعديها الداخلي والخارجي، أو الذاتي والموضوعي بما يمنحها صوتاً خاصاً تُعِلن من خلاله عن خفي رغباتها وكوامن أحاسيسها، فإن شخصية نصوص الأمثال تظل مهما قُدّم عنها من معلومات أحادية البعد لا تتكشف أهم سماتها إلا من خلال (الفعل) أو (الحوار)، وهي تتحرّك داخل فضاء النص، أو وهي تُعلن حضورها لسواها من الشخصيات ويمكننا تأسيساً على هذه الملاحظة الإشارة إلى نوعية تجربة صيغة المثل، وأثرها في حياة الشخصيّة، إذ تقوم واقعة الصيغة في معظم أحوالها على حادثة جزئيّة لا تحرف سلوك الشخصيّة ولا تغير من مجرى حياتها بعد انتهاء نص المثل، بل تعود لسابق سيرتها مع إضافة تجربة معلنة إلى رصيد تجربتها، مع وجود نصوص معدودة تتعلّق في معظمها بحوادث جلية أهمها موت شخصية أو عجزها، ومن أجل اكتمال تجربة المثل ودوران دائرته فإن الشخصية التي تموت أو يصيبها العجز هي شخصية (ثانويّة) نلمس آثار ميتتها أو عجزها على سلوك الشخصيّة (الرئيسة) التي تحدُث تفاصيل واقعة المثل على مرأى ومسمع منها كما في شخصيتي (ضبّة بن أد بن طابخة، والأخ) في نصي مثلي المفضّل الضبّي رقم (1) ورقم (88) إذ يموت كلٌ من سُعَيد، بن ضبّة في المثل رقم (1)، وأحد الأخوين في المثل رقم (88) ليفسحا بموتها المجال لتطوّر الحدث وتشعبه بما تقوم به الشخصيّة الرئيسة من أفعال.ويمكننا مواصلة النظر في نوعيّة الشخصيّة ومستوى حضورها للوقوف على جانب من جوانب نصوص أمثال المفضّل الضبّي وتبيّن حيويتها وفاعلية تعاملها مع عناصرها السرديّة التي تنظم وتتواشج في سبيل تعيين أدبيّة كتب الأمثال، فإن النصوص التي تنطوي على شخصيات متعينة ومسماة تنقسم بدورها قسمين تُستحضر الشخصية في القسم الأول من خلال نص واحد فهي وليدة تجربة مفردة، فيما تمتد شخصيات القسم الثاني على مدى أوسع من التجارب والخبرات فهي تنتقل عبر عدد من النصوص بما يمنحها من خلال سعة مساحتها السرديّة وامتداد علاقاتها مع الشخصيات فرصة لكشف سماتها على نحو واضح وتأمين صلة أقوى من الصيغ بما يمكن تسميتها بـ (صيغ أمثال الشخصيّة) قبل أن تكون عامةً لما تشمل عليه من صفات أو ما تنتج منه من مواقف ترتبط على نحو مباشر بشخصياتها كما في صيغ أمثال (لقمان) على سبيل المثال.يكشف المدخل السابق أن نصوص الأمثال أسوةً بنصوص الأدب السردي لا تنطوي في جانبها القصصي على صورة واحدة للشخصية تنتقل بين مختلف وقائع صيغتها وتتجسد على الرغم من تباين تجاربها، بل إنها تقدم في سمة سرديّة مهمة في سماتها صوراً مُتعددة تقتضيها نوعية التجربة وخصوصية أدائها، يمكن إجمال تلك الصور بالنقاط الثلاث الآتية:
1-شخصيات نصوص الأمثال العامة:
إنها الشخصيات التي تُعدُّ تمثيلاً إنسانياً، أو إجراءً تعتمده النصوص في تقديم وقائعها من دون أن تُميّزه أسماء أو ألقاب أو صفات سوى اشتراكه في تجسيد واقعة صيغة المثل. إنها شخصيات مبتكرة، وليدة نصوص لا تنطوي على خبرةٍ شخصيةٍ بذاتها فهي تستجيب في حركتها لمنطق الحدث ونمط التجربة.
2-شخصيات نصوص الأمثال الخاصة:
إنها الشخصيات التي تَرِد داخل نص المثل بالاعتماد على صورها التأريخيّة، فالنصوص تقوم على صيغها ووقائعها على تجربة مُعينة وخبرة تميّز الشخصيّة وتُعرف بها، لذا فهي تُقدَّم بإسمها وما عُرف من صفاتها، وفي أحيان أخرى يمتدّ النص إلى ما يقوّي حضورها ويوثّق تاريخيتها شعراً أو نثراً. وهي تختلف عن شخصيات النقطة اللاحقة في كونها تُستحضر خلال نص واحد لا يمتد إلى سواه.
3-نصوص أخبار الشخصيّة وصيغ أمثالها:
وهي نصوص تقوم بالأساس على شخصية مُعيّنة تتوفر على حصيلة من الخبرة وتنوّع التجربة مما يهيئ لها إنتاج مجموعة من الصيغ تُعرف على نحو مباشر بها: أمثال لقمان، أمثال الزبّاء، أمثال امرئ القيس..يُمكن عبر تأمل الصور الثلاث للشخصية ملاحظة قدرة نصوص الأمثال على تنويع علاقتها بمرجعها وتأمين حيّز سردي مناسب لإنتاج نوع من الشخصيات يحتكم إلى فضاء الصيغة ومجال تجربتها بما يحقق لها نوعاً من (التعريف) عبر الصيغة نفسها، فالشخصيّة التي تملك إسماً ولا تتميّز بسمات خاصة تفيد، ضمن الفضاء العام للنصوص، مما تنطوي عليه الصيغة من خصائص إنسانية: نفسية أو جسدية تمنح الشخصية حضوراً يختلف عن حضورها في النوعين الأخيرين، فالشخصيّة هنا تمثل على نحو شبه كلي إجراءً نصياً تمثل فيه واقعة صيغة المثل تمثيلاً خيالياً، لا يُعنى النص معه بكشف اسم الشخصيّة أو إضاءة ما تتمتع به من سمات. إن الشخصيّة تضيء عبر تنوعها وتباين حضورها جانباً من أدبية هذه النصوص وهي تسعى للارتفاع بتجارب صيغ أمثالها إلى مستوى معلوم من الوقائع، تتشكّل عبر الصورة الأولى بوصفها وقائع نصية تستعين بالمتخيل لتأصيل ما هو واقعي، وتتعامل في الصورتين الأخيرتين مع الواقع تعاملاً مختلفاً يتغير معه نوع (المعلومات) المقدَّمة وكمّيتها تبعاً لامتداد المساحة التي تشغلها الشخصيّة وتعدّد صيغ أمثالها، فمهما بَعُد الزمان بصيغة المثل وانفصلت عن وقائع تجاربها تظل محافظة على السمة الواقعية لإنتاجها سواء بما يُقيض لها من صلة مشابهة مع تجربة راهنة أو بما تكتنزه من خبرة ماضية تمثل شرطاً من شروط تداولها.