عالجنا في القسم السابق من الفصل موضوعة (الزمان) في صيغ الأمثال ونصوصها في محاولة للنظر إلى قابلية هذه النصوص على تنظيم عناصرها وهي تستعيد عبر منظومتها الخبريّة تماسَ صيغها مع تجارب معيّنة، مدركين أهمية (الزمان) وخصوصية إسهامه في وعي النصوص لعوالم تجاربها من جهة، وفي إسهامه، عنصراً مؤثراً، بتشكيل نسائجها السردية من جهة أخرى. وإذا كانت معالجتنا لموضوعة (الزمان) في نصوص الأمثال قد انطوت على رغبةٍ مفادها إضاءة دوره في تجلية العملية المنتجة للنصوص، فإن هذه المعالجة تظل قاصرةً عن الإحاطة بدور عنصر معيّن في حال توجهها لعزل هذا العنصر عن سائر العناصر التي تَنتُج بتواشجها نسائجَ النصوص، لا سيما العناصر التي تُحقق عبر تلاحمها بعناصر مجاورة مجالاً واضح الأثر في تأمين الخصوصية السرديّة لنصوص الأمثال، والزمان من بين هذه العناصر بما يُقيمه مع المكان من صلةٍ تبدو بأشد صورها تقارباً في نصوص الأمثال وهما يحققان حضوراً مؤثراً (للفضاء) الذي يمثل فاعليةَ اتصال بين العنصرين. إن المعاينة المنفصلة لكل منهما إجراء تقترحه الدراسة في سبيل استكناه إمكانية كل عنصر على حدة ومقدار استجابته لفاعلية الترابط والاتصال بينهما بما يدفع الفضاء للانفتاح عبر وعي هذين العنصرين و((تبعاً لعوامل عدة تتصل بالرؤيا الفلسفية وبنوعية الجنس الأدبي وبحساسية الكاتب.. ليشمل أشياءً متباينةً ومتعددةً)) تكون عماد عالم الأمثال ومظهر تجليه. وإذا كانت دراسة المكان قد اتسعت في ميدان النقد وتحليل النصوص منذ زمن ليس بالبعيد محاولةً رصد شعريته وبيان مدى إسهامه في تشكيل نصوص الأدب، مستفيدةً من مشارب واتجاهات مختلفة، فإن دراستنا للمكان في نصوص الأمثال تتأسس على النقطتين الآتيتين:الأولى: نظراً لما تمثله مرحلةُ إنجاز نصوص الأمثال بين مراحل السرد العربي من أوليّة فنية لم تخضع خلالها لتعقيد نسائجها عبر بلورة مختلف عناصر العملية السردية، فإن المكان فيها لا يتطلب، في الغالب، حضوراً خاصاً، قائماً بذاته أو متصلاً بعناصر أخرى، ولا يؤدي مهماتٍ تزيينيةً أو تفسيريةً تُقيمها أنشطة وصفية في مقاطع مستقلة إلا في مواقع محددة تعتمدها نصوص (أمثال الشخصيات) على نحو خاص، إذ يُكتفى في سبيل تجليته بإشارات وتلميحات تدخل في لُحمة النص وتُسهم على نحو مباشر بخلق فضاء أحداثه.الثانية: تُسهم الفاعليةُ الاستعاريةُ للأمثال عبر خصوصية علاقتها بأوساط أحداثها/ مراجعها الواقعية، بتوجيه إشاراتها المكانية، على الرغم من عدم اختصاصها في غالب الأحيان بمقاطع مستقلة، توجيهاً قادراً على كشف ((الطابع الثقافي العام الغالب)) في عصر وقوع أحداثها، بما تسميه (جوليا كرستيفا) (إديولوجيم) العصر (idiologéme) ليقوم التعبيرُ عن المكان، عندئذ، على ممارسة سيميائية ((تستوعبها أو تُحيل عليها، في فضاء ممارسة سيميائية خارجية).لم يكن المكان، على الرغم من إشارية حضوره، خالياً من التضاريس، لا يُشير لآثار الوقائع وظلال الدهر والإنسان، بل إن للنصوص من القدرة على تنويع فضاءاتها ما يدفعها للانتقال بأحداثها بين أماكن مختلفة: صحراوات وحواضر وأودية وجزائر، وإقامة ما يمكن من الصلة بين المكان وتغيّرات الأحداث وتحولاتها، وهي في سبيل ذلك لا تقف عند حدود المواقع العامة مكتفيةً بسماتها الجغرافية بل تسعى لشمول تفاصيلها المكانية بإشاراتها بما يتوافق وفاعلية الحدث نفسه ويُسهم بكشف جدل العلاقة بين إنسان المثل ومحيط حياته بمختلف مكوناته: السرحات والثنيات والعيون والأنفاق والأنهار والجبال والحصون، إننا في أحيان كثيرة نكون إزاء (إشارة مكانية) تُلبّي حاجةَ النص وتُشير بدرجة أو بأخرى لخصائص عالمه، وهي تعتمد في سبيل ذلك تنويعاً سردياً في التعامل مع المكان مضفيةً على إشاراته أكثر ما يمكن من الخصوصية والحياة، فلا تتعامل نصوص الأمثال جميعها مع موضوعة المكان بطريقة واحدة وأسلوب متشابه بل تغير بين مجموعة من النصوص وأخرى أساليب احتضانها للمفردة المكانية تبعاً لعلاقتها بالأحداث ومستوى تعبيرها عن محيطها، وهي تخضع لطريقتين أساسيتين تتمايزان تبعاً لدرجة حضور المكان في كل منهما بين التعبير المباشر والتعبير غير المباشر عنه ويُلاحظ على الطريقة الأخيرة انقسام نصوصها في تعيين محيط أحداثها بين نصوص محددةٍ مكانياً وأخرى يكون المكان فيها عاماً لا يخضع لتشخيص أو تحديد.