تؤمِّن صيغة المثل، بدءاً، علاقةً صريحةً مع الفضاء بقسميه: الزمان والمكان، فهي، قبل أي شيء آخر، أنموذج الخبرة البشريّة في قالب لغوي، وبيان التجربة في أفق ثقافي، والمثل يتميز بقدرته على التعبير المختزل عن المحتوى الزماني للتجربة الإنسانية، وقابليته على التقاط أثر المكان فيها، وهو يُعلن علاقته بالفضاء عبر التركيب اللغوي لصيغِه على نحو مباشر مستفيداً مما توفّره الخبرةُ البشريّةُ لإدامتها وتأكيد حضورها في ما ينتج من صيغ، فإن الشعور بالفضاء في حده الأدنى ((يفترض نمطاً من النضج الفكري والقدرة على التأمل))، ليرتفع هذا الافتراض عبر تنويعات النصوص وتجلياتها اللسانية بما يوفره عنصرا الزمان والمكان من إمكانية تسمح ((بالبحث في فضاءات تتعدى المحدود والمجسد، لمعانقة التخييلي، والذهني، ومختلف الصور التي تتسع لها مقولة الفضاء))، فالبنية الزمانية التي تقترحها صيغة المثل (وتُقترح من خلالها) تضم داخل حدودها نسيجَ علاقاتٍ يؤمِّنها عدد من العناصر التي تؤدي وظيفةً جزئيةً في كشف (زمنية) المثل بحسب أفق إنتاجها، وصيرورتها وهي تتحرّك بما يمنح ((الزمان بعده الحقيقي باعتباره، وفي آنٍ معاً، إطاراً للفعل وموضوعاً للتجربة)) مثلما يُحقّق للمكان حضورٌ ينمُّ داخل صيغة المثل عن نمط الخبرة وهي ترتفع بتماسِّها بما حولها، موسعةً من إدراكها لمجال حياتها، لتقيم ما يمكن من الصلة بين محمول تجاربها وصيغها، خلاصات وعيها لعالمها، فالتجربة تُقدَّم في صيغة المثل بوصفها ناتجاً لفاعلية تماس الإنسان بما حوله من أُناس وموجودات، وصورةً لجدل العلاقة بين الإنسان ومحيطه، مهما اختلفت درجة التعبير عن الوقائع، أو تباين مستوى تجليّها في النصوص، في الوقت الذي تقوم الصيغ بوصفها نصوصاً صغرى تحتكم إلى أداء لساني خاص وتنطوي على قيم جُمليّة مميزة، على تأمين نوع من الصلة الدلالية مع نصوص الأمثال تتعدى دور عنوان أو مناسبة النص إلى إضاءة مجال عمل النصوص وتنظيم معانيها.إن اشتغال النصوص بمجال الإخبار والتفسير أدى بها إلى ضرورة الارتباط بـ/ أو البناء على صيغ معيّنة فهي بمجملها تمثيل كنائي يتوسل السرد لكشف دلالة وإضاءة معنى، الأمر الذي يُلاحظ معه أحياناً تعدد القصص بوصفها تفسيرات لصيغة واحدة، فقد يتغيّر المحمول بتغيّر كتب الأمثال وتَحوّل سياقات إنتاجها مع الثبات النسبي للحامل، كما يُلاحظ أحياناً التغيّر النسبي للصيغ بين الكتب في زيادة أو نقصان مساحتها اللغوية، أو تغيير وجهتها النحويّة مع الحفاظ على وضوح أفقها الدلالي في كل صورة من صورها.تواجهنا، في مرحلة دراستنا، مجموعتان من الصيغ تستفيدان على نحو مباشر من (الفضاء) في التجربة، فهما تقومان بالأساس على ناتج الخبرة والملاحظة لتحدد الإنسان المثل موقعاً في (التاريخ) يكشفه موقعه في (الصيغة) ويستند إليه، إذ تبدو الصيغةُ خلاصةً لحدث تقع في المركز منه موضوعةُ الزمان، في المجموعة الأولى، بشمولها واتساع نمط الخبرة الذي تقوم عليه، وتقوم المجموعة الثانية على ما يتجلى فيها من سمات مكانية مباشرة أو غير مباشرة تُضيء عبر فاعلية صيغها وعي إنسان المثل لعالمه، محيط علاقاته المتسع اتساع الخبرة نفسها.نُلاحظ في المجموعة الأولى اشتغال الزمان (أو أحد لوازمه) مركزاً دلالياً ينظم عمل الصيغ ويوجّه أثرها كما في الجدول رقم (1):الصفحة والسطرصيغة المثلالكتاب123/14أصبح ليل(أمثال العرب)159/10أضرطاً آخر الليل وقد زال الظهرللمفضّل الضبّي126/1أعن صبوح ترقق62/7إن الليل طويل وأنت مقمر124/5إن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر75/13حتى يجتمع معزى الفزر111/4دعوني فكفى بالليل خفيراً138/7رب عجلة تهب ريثاً..48/2سبق السيف العذل51/8الصيف ضيعت اللبن117/6عرفتني نسأها الله140/4عش رجباً تر عجباً75/4قد لا يقاد بي الجمل75/9لا أسرح فيها ألوة الفتى هبيرة75/7والله لا أرعاها سن الحسل154/1وبرحلها باتت لقم127/8اليوم خمر وغداً أمر65/5أبقى من حجر(كتاب الأمثال)79/5إذا طلع سهيل، رفع كيلأبو فيد السدوسي79/15إذا طلع سهيل على أثباجها65/9أسرع من نكاح أم خارجة44/1أمر قضي بليل55/7أوشم البرق89/2قد تبيّن الصبحُ لذي عينين58/1كريت ليلتي هذه كلها58/13كرينا الليلة74/1لا أفعل ذاك ما سمر ابنا سمير74/5لا أفعله حتى تجز الظباء74/4لا أفعله ما حنَّ بعير45/4مشترى سهر بنوم51/10اليوم ظلم80/10يوم عماس128/1أخذ الدنيا بحذافيرها(كتاب الأمثال28/1إني لآتيه بالعشايا والغداياأبو عكرمة الضبي116/11ذات يوم120/3ماله طارف ولا تليديوجهّنا الجدول لتحديد صورة أولى للتعامل مع (الزمان) في صيغة المثل العربي، تقوم على ما تعتمده الصيغة من نمط التجربة، والملاحظة، والخبرة، لتنظم، بعدئذ وعي الصيغة نفسها في انفتاحها على مختلف التجارب الإنسانية، مع وجوب شرط المشابهة، محققةً نوعاً من العلاقة التي تكشف على نحو أولي فاعلية الأثر الزمني للأمثال وهي تتحرّك بين مجموعة من الدوائر الدلالية التي توسع بالضرورة من مجال اللفظة بانتقالها من حقل فينومينولوجي يقوم على معاينة الظاهرة لحقل لغوي تنتظم فيه ضمن فاعلية خاصة تُسهم بكشف مستوى من وعي (الفضاء) عبر منظومة التجارب والعلاقات التي تشف عنها الصيغ وهي ترتفع بصفة (الإيجاز) محققةً واحدةً من غاياتها البلاغية، ممتدةً بأقل ما يمكن من الكلمات إلى أغراضها، فتبدو في اتساع دلالتها واختزال ألفاظها أقرب إلى (الإشارة) في إحاطتها بموضوعها.إن الصيغ السابقة تحقق حضوراً للزمان ما يقوم على ما توفره خبرة لغوية معينة من رصيد دلالي فـ ((اللغة هي التي تُعبّر عن كون الزمن يُشكل، بحضوره المستمر، خلفية التجربة)) مثلما يكون محط اهتمامها في النظر إلى موضوعاتها بما يُضيء اتجاه الصيغة وينمّط حركتها وهي تؤدي وظائفها على مستوى الكلمة أو الجملة فيما يخص الصيغة، أو يتعدى ذلك إلى نص المثل نفسه، هذه الوظائف التي تسهم أولاً بتعيين نوعية الأثر اللغوي بوصفه (صيغة مثل)، وتقوم ثانياً على ربط هذه الصيغة برباط زمني موضوعي بما يماثلها من التجارب. نختار، على سبيل الملاحظة، من بين صيغ الجدول الصيغ الثلاث الآتية:1.أمرٌ قُضي بليل.2.اليوم خمرٌ وغداً أمرُ.3.إن يبغِ عليك قومك لا يبغِ عليك القمر.تنقسم الصيغ الثلاث بحسب بنائها اللغوي إلى مركّبات ثلاثةٍ: اسميّة، وظرفيّة، وشرطيّة وهي تتوجّه جميعها لتنميط الموضوعة الزمنية للإشارة إلى تجارب أمثالها وتحديد عمل صيغها مستثمرة المنحى الدلالي للكلمة في حال كونها دالاً (عبر قيمة خلافية صوتية وتركيبية تميّزها عن غيرها) وفي حال كونها مدلولاً (عبر الوظائف التي تؤديها على مستوى الكلمة، أو الجملة، أو النص)، ففي الصيغة الأولى (أمرٌ قُضي بليل) يتشكّل المركّب الأسمي من مكوّن + (فعل ماض (م. م) + حرف جر + مفردة مجرورة) ليتجلى الزمان بمعانيه الدالة على الظلمة والخفاء التي تفتح للصيغة أفق عملها، فشبه الجملة المتكونة من (حرف الجر + ليل) تؤسس دلالتها على معنى الظرفية في الحرف - ببينة أن يَحسُن في موضعه حرفُ الجر في- ليعيّن معنى الظرفية، بذلك، صفةَ الأمر المقصود فهو (أمرٌ ليلي) يُتوخى فيه السترُ وعدمُ المكاشفة، مستفيدةً قبل ذلك من مجهولية الفاعل، وقد تنفتح الصيغة في إفادتها من دلالة الزمان كما تكشف الصورة التي وردت عليها في (مجمع الأمثال) (أمرُ نهارٍ قُضي ليلاً) بما يفيد وضوح الغاية وغموض التنفيذ وسريّته فهو ((يُضرب لما جاءَ القومَ على غرةٍ منهم ممن لم يكونوا تأهبوا له))، نُلاحظ كيف يكون بمقدور الصيغة الخروج على حدود تفسيرات كتب الأمثال لتحقق حضوراً أوسع وانفتاحاً أشمل لدلالة الصيغ. إن الصيغة تُضيء مجال استخدامها مرتفعةً من الجزئي والمحدود (الظرفي) في التجربة، إلى منح هذا المجال صفةً تكون ملازمةً لـه وكاشفةً لنوعه، فالليل، كما هو معروف، واحد بمعنى الجمع، أي أن (الأمر) يستقي معناه وصفته من معنى الليل جميعه، فهو يستبعد على نحو صريح نقيضه كما استبعدت الصيغة الواردة في كتاب (أبي فيد) لفظة (نهار) بما تسحب من مكاشفة ووضوح بتمام معنى الصيغة ووضوح مفادها معتمدةً (أمراً) نكرةً لإمكانية استيعابه ما لا ينتهي من (أمور) تتطلب (الليل) فضاءً لوقوعها:أمرٌ قضي بليلأمرٌ ليليأمرُ ليلٍ: (خلسة، غموض، ظلمة..)وفي الصيغة الثانية يتشكّل مركّب العطف من: مكّون + حرف عطف + مكوّن، يعمل رباط العطف على (المقابلة) بين المكونين (اليوم خمر غداً أمر) التي تفيد دلالة التسويف والتأجيل بين (اليوم) و (غداً) الظرفين المعلومين، الأول بتحققه ووقوعه، والثاني بمجهوليته واحتمال ما يحدث فيه، من هنا كان (الخمرُ) بمعلوميته ودلالته على اللهو ونفض اليد مقابلاً لـ (أمر) غير المعلوم والذي لا تتضمن الصيغة رغبة مساءلته أو كشف مخبوئه وهي تنظم نوعين من العلاقات يعملان في أفق دلالي واحد، الأولى ظرفيه والثانية اسمية يمكن بيانهما كما في المخطط الآتي:اليوم خمر و غداً أمر الصيغةظرفية اسمية(معلوم مجهول) (معلوم مجهول) الدلالةوفي الصيغة الثالثة (إن يبغِ قومك لا يبغِ عليك القمر) يتشكّل المركب الشرطي من أداة الشرط + فعل الشرط+ جوابه، ويتجلى الزمان عبر أحد لوازمه (القمر) وهو بحضوره في جواب الشرط يُبطل عمل الليل الذي يعني هنا (البغي) كما عنى في الصيغة الأولى الستر وعدم الوضوح، فالقمر، كما تكشف حياةُ الصحراء، هو دليلها ونور ظلمائها، وهو في الوقت نفسه علامة العدل والحَكَم المنصف بين أبنائها، فإذا احتمل الحُكم بين البشر شيئاً من اختلال الميزان، فإن حكم (الزمان) المُدَرك عن طريق الخبرة، لا بغي فيه ولا اختلال:(إن) يبغِ عليك قومك لا يبغِ عليك (القمر)