كان ارتثاثا عند أبى يوسف خلافا لمحمد و قيل لا خلاف بينهما في الحقيقة فجواب أبى يوسف خرج فيما إذا أوصى بشيء من أمور الدنيا و ذلك يوجب الارتثاث بالاجماع لان الوصية بأمور الدنيا من أحكام الدنيا و مصالحها فينقض ذلك معنى الشهادة و جواب محمد محمول على ما إذا أوصى بشيء من أمور الآخرة و ذلك لا يوجب الارتثاث بالاجماع كوصية سعد بن الربيع و هو ما روى انه لما أصيب المسلمون يوم أحد و وضعت الحرب أوزارها قال رسول الله صلى الله عليه و سلم هل من رجل ينظر ما فعل سعد بن الربيع فنظر عبد الله ابن عبد الرحمن من بني النجار رضى الله تعالى عنهم فوجده جريحا في القتلى و به رمق فقال له ان رسول الله صلى الله عليه و سلم أمرني ان أنظر في الاحياء أنت أم في الاموات فقال أنا في الاموات فأبلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم عني السلام و قل له ان سعد بن الربيع يقول جزاك الله عنا خير ما يجزى نبى عن أمته و أبلغ قومك عني السلام و قل لهم ان سعدا يقول لا عذر لكم عند الله تعالى أن يخلص إلى نبيكم و فيكم عين تطرف قال ثم لم أبرح حتى مات فلم يغسل وصلى عليه و ذكر في الزيادات انه ان أوصى بمثل وصية سعد بن معاذ فليس بارتثاث و الصلاة ارتثاث لانها من أحكام الدنيا و لو جر برجله من بين الصفين حتى تطؤه الخيول فمات لم يكن مرتثا لانه ما نال شيأ من راحة الدنيا بخلاف ما إذا مرض في خيمته أو في بيته لانه قد نال الراحة بسبب ما مرض فصار مرتثا ثم المرتث و ان لم يكن شهيدا في حكم الدنيا فهو شهيد في حق الثواب حتى انه ينال ثواب الشهداء كالغريق و الحريق و المبطون و الغريب انهم شهداء بشهادة الرسول صلى الله عليه و سلم لهم بالشهادة و ان لم يظهر حكم شهادتهم في الدنيا و منها كون المقتول مسلما فان كان كافرا كالذمي إذا خرج مع المسلمين للقتال فقتل يغسل لان سقوط الغسل عن المسلم انما ثبت كرامة له و الكافر لا يستحق الكرامة و منها كون المقتول مكلفا هو شرط صحة الشهادة في قول أبى حنيفة فلا يكون الصبي و المجنون شهيدين عنده و عند أبى يوسف و محمد ليس بشرط و يلحقهما حكم الشهادة وجه قولهما انه مقتول ظلما و لم يخلف بدلا هو مال فكان شهيدا كالبالغ العاقل و لان القتل ظلما لما أوجب تطهير من ليس بطاهر لارتكابه المعاصي و الذنوب فلان يوجب تطهير من هو طاهر أولى و لابي حنيفة ان النص ورد بسقوط الغسل في حقهم كرامة لهم فلا يجعل واردا فيمن لا يساويهم في استحقاق الكرامة و ما ذكروا من معنى الطهارة سديد لان سقوط الغسل مبنى على الطهارة بدليل ان الانبياء صلوات الله عليهم غسلوا و رسولنا سيد البشر صلى الله عليه و سلم غسل و الانبياء عليهم الصلاة و السلام أطهر خلق الله تعالى فلا وجه لتعليق ذلك بالتطهير مع انه لا ذنب للصبي يطهره السيف فكان القتل في حقه و الموت حتف أنفه سواء و منها الطهارة عن الجنابة شرط في قول أبى حنيفة و عندهما ليس بشرط حتى لو قتل جنبا لم يكن شهيدا عنده خلافا لهما وجه قولهما ان القتل على طريق الشهادة أقيم مقام الغسل كالذكاة أقيمت مقام غسل العروق بدليل انه يرفع الحدث و لابي حنيفة ما روى ان حنظلة استشهد جنبا فغسلته الملائكة حتى قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ان صاحبكم لتغسله الملائكة فاسألوا أهله ما باله فسئلت صاحبته فقالت خرج و هو جنب حين سمع الهيعة فقال صلى الله عليه و سلم لذلك غسلته الملائكة أشار إلى أن الجنابة علة الغسل و المعنى فيه ان الشهادة عرفت مانعة من نجاسة الموت لا رافعة لنجاسة كانت كالذكاة فانها تمنع من حلول نجاسة الموت فيما كان حلالا اما لا ترفع حرمة كانت ثابتة و هذا لانها عرفت مانعة بخلاف القياس فلا تكون رافعة لان المنع أدون من الرفع فاما الحدث فانما ترفعه ضرورة المنع لان الموت لا يخلو عن الحدث اذ لابد من زوال العقل سابقا على الموت فيثبت الحدث لا محالة و الشهادة مانعة من نجاسة الموت فلو لم يرتفع الحدث بالشهادة لاحتيج إلى غسل أعضاء الطهارة فلم يظهر أثر منع الشهادة حلول النجاسة فقلنا ان الشهادة ترفع ذلك الحدث لهذه الضرورة و لا ضرورة في الجنابة لانها لا توجد لا محالة لينعدم أثر الشهادة بل توجد في الندرة فلم يرفع و اما الحائض و النفساء إذا استشهدتا فان كان ذلك بعد انقطاع الدم و طهارتهما قبل الاغتسال فالكلام فيهما و فى الجنب سواء و ان كان قبل انقطاع الدم فعن أبى حنيفة فيه روايتان في رواية يغسلان كالجنب
(323)
لوجود شرط الاغتسال و هو الحيض و النفاس و فى رواية لا يغسلان لانه لم يكن وجب بعد قبل الموت قبل انقطاع الدم فلو وجب وجب بالموت و الاغتسال الذي يجب بالموت يسقط بالشهادة و لا يشترط الذكورة لصحة الشهادة بلاجماع لان النساء مخاطبات يخاصمن يوم القيامة من قتلهن فيبقى عليهن أثر الشهادة ليكون شاهدا لهن كالرجال و الله أعلم و إذا عرف شرائط الشهادة فنقول إذا قتل الرجل في المعركة أو غيرها و هو يقاتل أهل الحرب أو قتل مدافعا عن نفسه أو ماله أو أهله أو واحد من المسلمين أو أهل الذمة فهو شهيد سواء قتل بسلاح أو غيره لاستجماع شرائط الشهادة في حقه فالتحق بشهداء أحد و كذلك إذا صار مقتولا من جهة قطاع الطريق لانه قتل ظلما لم يخلف بدلا هو مال دل عليه قوله عليه الصلاة و السلام من مقتل دون ماله فهو شهيد و هذا قتل دون ماله فيكون شهيدا بشهادة النبي صلى الله عليه و سلم و كذا إذا قتل في محاربة أهل البغى و عند الشافعي يغسل في أحد قوليه لان على أحد قوليه يجب القصاص على الباغى فهذا قتيل أخلف بدلا و هو القصاص و هذا يمنع الشهادة عنده على ما مر و لنا ما روى عن عمار انه لما استشهد بصفين تحت راية على رضى الله عنه فقال لا تغسلوا عني دما و لا تنزعوا عني ثوبا فانى التقي و معاوية بالجادة و كان قتيل أهل البغى على ما قال النبي صلى الله عليه و سلم تقتلك الفئة الباغية و روى ان زيد بن صوحان لما استشهد يوم الجمل فقال لا تغسلوا عني دما و لا تنزعوا عني ثوبا فانى رجل محاج أحاج يوم القيامة من قتلنى و عن على رضى الله عنه انه كان لا يغسل من قتل من أصحابه و لانه في معنى شهداء أحد لانه قتل قتلا تمحض ظلما و لم يخلف بدلا هو مال و وجوب القصاص في قتل الباغى ممنوع و عليه إجماع الصحابة ان كل دم أريق بتأويل القرآن فهو باطل و قتيل الباغى و ان وجب عليه القصاص لكن ذلك إمارة تغلظ الجنابة على ما مر فلا يوجب قدحا في الشهادة بخلاف وجوب الدية و لو وجد في المعركة فان لم يكن به أثر القتل من جراحة أخنق أو ضرب أو خروج الدم لم يكن شهيدا لان المقتول انما يفارق الميت حتف أنفه بالاثر فإذا لم يكن به أثر فالظاهر انه لم يكن بفعل مضاف إلى العدو بل لما التقي الصفان انخلع قناع قلبه من شدة الفزع و قد يبتلى الجبان بهذا فان كان به أثر القتل كان شهيدا لان الظاهر ان موته كان بذلك السبب و انه كان من العدو و الاصل ان الحكم متى ظهر عقيب سبب يحال عليه و ان كان الدم يخرج من محارقه ينظر ان كان موضعا يخرج الدم منه من آفة في الباطن كالانف و الذكر و الدبر لم يكن شهيدا لان المرأ قد يبتلى بالرعاف و قد يبول دما لشدة الفزع و قد يخرج الدم من الدبر من جرح في الباطن فوقع الشك في سقوط الغسل فلا يسقط بالشك و ان كان الدم يخرج من أذنه أو عينه كان شهيدا لان الدم لا يخرج من هذين الموضعين عادة الا لآفة في الباطن فالظاهر انه ضرب على رأسه حتى خرج الدم من أذنه أو عينه و ان كان الدم يخرج من فمه فان كان ينزل من رأسه لم يكن شهيدا لان ما ينزل من الرأس فنزوله من جانب الفم أو من جانب الانف سواء و ان كان يعلو من جوفه كان شهيدا لان الدم لا يصعد من الجرف الا لجرح في الباطن و انما نميز بينهما بلون الدم و الله أعلم و لو وجد في عسكر المسلمين فان كانوا لقوا العدو فهو شهيد و ليس فيه قسامة و لا دية لانه قتيل العدو ظاهرا كما لو وجد قتيلا في المعركة و ان كانوا لم يلقوا العدو لم يكن شهيدا لانه ليس قتيل العدو الا ترى ان فيه القسامة والدية و لو وطئته دابة العدو و هم راكبوها أو سائقوها أو قائدوها فمات أو نفر العدو دابته أو نخسها فألقته فمات أو رماه العدو بالنار فاحترق أو كان المسلمون في سفينة فرماهم العدو بالنار فاحترقوا أو تعدى هذا الحريق إلى سفينة أخرى فيها مسلمون فاحترقوا أو سيلوا عليهم الماء حتى غرقوا أو القوهم في الخندق أو من السؤر بالطعن بالرمح و الدفع حتى ماتوا أو ألقوا عليهم الجدار كانوا شهداء لان موتهم حصل بفعل مضاف إلى العدو فيلحقهم حكم الشهادة و لو نفرت دابة مسلم من دابة العدو أو من سوادهم من تنفير منهم فألقته فمات أو انهزم المسلمون فالقوا أنفسهم في الخندق أو من السؤر حتى ماتوا لم يكونوا شهداء لان موتهم مضاف إلى فعل العدو و كذلك إذا حمل على العدو فسقط عن فرسه أو كان المسلمون ينقبون عليهم الحائط فسقط عليهم فماتوا لم يكونوا شهداء عند محمد خلافا لابى يوسف وأصل محمد في الزيادات في
(324)
هذه المسائل أصلا فقال إذا صار مقتولا بفعل ينسب إلى العدو كان شهيدا و الا فلا و الاصل عند أبى يوسف انه إذا صار مقتولا بعمل الحراب و القتال كان شهيدا و الا فلا سواء كان منسوبا إلى العدو أولا و الاصل عند الحسن بن زياد انه إذا صار مقتولا بمباشرة العدو بحيث لو وجد ذلك القتل فيما بين المسلمين في دار الاسلام لا يخلو عن وجوب قصاص أو كفارة كان شهيدا و إذا صار مقتولا بالتسبب لم يكن شهيدا و جنس هذه المسائل في الزيادات ( فصل )و أما حكم الشهادة في الدنيا فنقول ان الشهيد كسائر الموتى في أحكام الدنيا و انما يخالفهم في حكمين أحدهما انه لا يغسل عند عامة العلماء و قال الحسن البصري يغسل لان الغسل كرامة لبني آدم و الشهيد يستحق الكرامة حسبما يستحقه غيره بل أشد فكان الغسل في حقه أوجب و لهذا يغسل المرتث و من قتل بحق فكذا الشهيد و لان غسل الميت وجب تطهيرا له الا ترى انه انما تجوز الصلاة عليه بعد غسله لا قبله و الشهيد يصلى عليه فيغسل أيضا تطهيرا له و انما لم تغسل شهداء أحد تخفيفا على الاحياء لكون أكثر الناس كان مجروحا لما ان ذلك اليوم كان يوم بلاء و تمحيص فلم يقدروا على غسلهم ( و لنا )ما روى عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال في شهداء أحد زملوهم بكلومهم و دمائهم فانهم يبعثون يوم القيامة و أوداجهم تشخب دما اللون لون الدم و الريح ريح المسك و فى بعض الروايات زملوهم بدمائهم و لا تغسلوهم فانه ما من جريح بجرح في سبيل الله الا و هو يأتى يوم القيامة و أوداجه تشخب دما اللون لون الدم و الريح ريح المسك و هذه الرواية أعم فالنبي صلى الله عليه و سلم لم يأمر بالغسل و بين المعنى و هو أنهم يبعثون يوم القيامة و أوداجهم تشخب دما فلا يزال عنهم الدم بالغسل ليكون شاهدا لهم يوم القيامة و به تبين ان ترك غسل الشهيد من باب الكرامة له و ان الشهادة جعلت مانعة عن حلول نجاسة الموت كما فى شهداء أحد و ما ذكر من تعذر الغسل سديد لما بينا ان النبي صلى الله عليه و سلم أمر بأن يزملوهم بدمائهم و بين المعنى و لان الجراحات التي أصابتهم لما لم تكن مانعة لهم من الحفر و الدفن كيف صارت مانعة من الغسل و هو أيسر من الحفر و الدفن و لان ترك الغسل لو كان للتعذر لامر أن ييمموا كما لو تعذر غسل الميت في زماننا لعدم الماء و الدليل عليه انه كما لم تغسل شهداء أحد لم تغسل شهداء بدر و الخندق و خيبر و ما ذكر من التعذر لم يكن يومئذ و لذا لم يغسل عثمان و عمار و كان بالمسلمين قوة فدل انهم فهموا من ترك الغسل على قتلى أحد ما فهم الحسن و الثاني أنه يكفن في ثيابه لقول النبي صلى الله عليه و سلم زملوهم بدمائهم و قد روى في ثيابهم و روينا عن عمار و زيد بن صوحان انهما قالا لا تنزعوا عني ثوبا الحديث أنه ينزع عنه الجلد و السلاح و الفرو و الحشو و الخلف و المنطقة و القلنسوة و عند الشافعي لا ينزع عنه شيء مما ذكرنا لقوله عليه الصلاة و السلام زملوهم بثيابهم و لنا ما روى عن على رضى الله عنه انه قال تنزع عنه العمامة و الخفين و القلنسوة و هذا لان ما يترك ليكون كفنا و الكفن ما يلبس للستر و هذه الاشياء تلبس اما للتجمل و الزينة أو لدفع البرد أو لدفع معرة السلاح و لا حاجة للميت إلى شيء من ذلك فلم يكن شيء من ذلك كفنا و به تبين أن المراد من قوله صلى الله عليه و سلم زملوهم بثيابهم الثياب التي يكفن بها و تلبس للستر و لان هذا عادة أهل الجاهلية فانهم كانوا يدفنون ابطالهم بما عليهم من الاسلحة و قد نهينا عن التشبه بهم و يزيدون في أكفانهم ماشاؤ أو ينقصون ما شاؤوا لما روى أن حمزة رضى الله عنه كان عليه نمرة لو غطى رأسه بها بدت رجلاه و لو غطيت بها رجلاه بدا رأسه فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يغطى بها رأسه و يوضع على رجليه شيء من الاذخر و ذاك زيادة في الكفن و لان الزيادة على ما عليه حتى يبلغ عدد السنة من باب الكمال فكان لهم ذلك و النقصان من باب دفع الضرر عن الورثة لجواز أن يكون عليه من الثياب ما يضر تركه بالورثة فاما فيما سوى ذلك فهو كغيره من الموتى و قال الشافعي انه لا يصلى عليه كما لا يغسل و احتج بما روى عن جابر أن النبي صلى الله عليه و سلم ما صلى على أحد من شهداء أحد و لان الصلاة على الميت شفاعة له و دعاء لتمحيص ذنوبه و الشهيد قد تطهر بصفة الشهادة عن دنس الذنوب على ما قال النبي صلى الله عليه و سلم السيف محاء للذنوب فاستغني عن ذلك كما استغنى عن الغسل و لان الله تعالى وصف