4. الوحي في غار حراء
والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان موَمناً موحّداً عابداً للّه ساجداً قائماًبالفرائض العقلية والشرعية، مجتنباً عن المحرمات، عالماً بالكتاب وموَمناً به
إجمالاً،وراجياً لنزوله إليه، إلى أن بعثه اللّه لاِنقاذ البشرية عن الجهل وسوقها إلى
الكمال.فكان (صلى الله عليه وآله وسلم) أفضل الخلق وأكملهم خلقاً وخُلقاً وعقلاً،
وأنّه كان يعمل حسب ما يُلهَم سواء كان مطابقاً لشرع ماقبله أم مخالفاً، وأنّ هاديه
وقائده، منذ صباه إلى أن بُعِث هو نفس هاديه بعد البعثة.(1)4. الوحي في غار حراءويقع جبل حراء في شمال مكّة، ويستغرق الصعود إليه مدّة نصف ساعة،
ويتكوّن من قطع صخرية لا أثر للحياة فيها. أمّا الغار فيقع في شمال الجبل، وهو
يحكي ذكريات رجل طالما تردّد عليه وقضى الساعات والاَيّام والاَشهر في
رحابه، يتعبد اللّه ويتأمّل في الكون وفي آثار قدرة اللّه وعظمته. إذ أنّ النبي ص
كان يفكّر في أمرين، قبل أن يبلغ مقام النبوة:1. ملكوت السماوات والاَرض، فيرى في ملامح كلّ من الكائنات نور
الخالق العظيم وقدرته وعظمته، فتفتح عليه نوافذ من الغيب تحمل إلى قلبه وعقله
النور الاِلهي المقدّس.2.المسوَولية الثقيلة التي ستوضع على كاهله، فكان يفكر في فساد حياة
المجتمع المكي، وكيفية رفع كلّذلك وإصلاحه.وأمّا الرسالة الاِلهية إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد أمر اللّه تعالى
1 . للتوسع في ذلك يراجع مفاهيم القرآن للموَلف:5|135.جبرائيل (عليه السلام) بأن ينزل على أمين قريش في الغار ويتلو على مسامعه
بضع آيات كبداية لكتاب الهداية والسعادة، معلناً بذلك تتويجه بالنبوة ونصبه
لمقام الرسالة، وطلب منه أن يقرأ، أو قال: يا محمّد اقرأ، قال: وما أقرأ؟ قال يا
محمّد(اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الّذي خَلَق* خَلَقَ الاِِنْسانَ مِنْ عَلَق*اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاََكْرَم* الَّذِي
عَلَّمَ بِالقَلَم* عَلَّمَ الاِِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَم) (1) ثمّ أوحى إليه ربّه عزّ وجلّ ما أمره به ثمّصعد
إلى العلوّونزل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) من الجبل، وقد غشيه من تعظيم
جلال اللّه وورد عليه من كبير شأنه ما ركبه الحمى والنافض.وقد أوضحت هذه الآيات برنامج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبيّنت
بشكل واضح أنّ أساس الدين يقوم على القراءة والكتابة والعلم والمعرفة
باستخدام القلم. ثمّ خاطبه الملك: «يا محمّد، أنت رسول اللّه، وأنا جبرائيل».و قد اضطرب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لهذين الحدثين، لعظمة
المسوَولية التي أُلقيت على كاهله، فترك غار حراء متوجّهاً إلى بيت السيدة
خديجة(عليها السلام) ، التي لاحظت الاضطراب و التعب على ملامحه فسألت
عنه، فأجابها وحدّثها بكلّ ما سمع وجرى، فعظمت خديجة(عليها السلام) أمره
ودعت له وقالت: «أبشر، فواللّه لا يخزيك اللّه أبداً». ثمّدثرته فنام بعض الشيء. ثمّ
انطلقت إلى بيت ورقة تخبره بما سمعته من زوجها الكريم، فأجابها: إنّابن عمّك
لصادق وإنّ هذا لبدء النبوة، وإنّه ليأتيه الناموس الاَكبر ـ أي الرسالة والنبوة ـ .(2)وقد اختلقت قصص كثيرة عن تخوّف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
1 . العلق:1ـ5.2 . طبقات ابن سعد:1|195.واضطرابه ممّا حدث له في الغار، ودسّت تلك الروايات في التاريخ والتفسير عن
قصد وهدف أو دخلت فيها عن غير ذلك. فالنبي الكريم «صلى الله عليه وآله
وسلم» كانت روحه مهيّأة من جميع الجهات وبصورة كاملة لتلقّي السرّ الاِلهي ـ
النبوة ـ وما لم تكن نفسيته كذلك، فإنّ اللّه تعالى لم يكن ليمن عليه بمنصب النبوة
ويختاره لمقام الرسالة، لاَنّ الهدف الجوهري من انبعاث الرسل و الاَنبياء هو
هداية الناس وإرشادهم. وتدل تلك القصص على أنّ ثمة يداً إسرائيلية وراءها
فصاغتها، ولهذا فإنّ أئمّة الشيعة حاربوا هذه الاَساطير بكلّقوّة وأبطلوها برمّتها.
فقد قال الاِمام الصادق (عليه السلام) : «إنّ اللّه إذااتّخذ عبداً رسولاً، أنزل عليه
السكينة والوقار، فكان يأتيه من قِبَل اللّه عزّوجلّ مثل الذي يراه بعينه».(1)وفسر العلاّمة الكبير الطبرسي ذلك، بأنّ اللّه لا يوحي إلى رسوله
إلاّبالبراهين النيّرة والآيات البيّنة الدالة على أنّ ما يوحى إليه إنّما هو من اللّه تعالى
فلا يحتاج إلى شيء سواها ولا يفزع ولا يفرق.(2)أمّا بالنسبة إلى يوم مبعثه، فإنّ هناك اختلافاً فيه مثلما اختلف في يوم
ولادته، فاتّفق علماء الشيعة على أنّه بُعث بالرسالة يوم 27 من شهر رجب،
وأنّنزول الوحي بدأ من هذا اليوم، بينما اشتهر عند السنّة أنّه حدث في شهر
رمضان. فهناك فرق في نزول القرآن جميعه على الرسول «صلى الله عليه وآله
وسلم» ونزول الآيات الاَُولى عليه يوم المبعث. فالآيات التي تصرح بنزول القرآن
في شهر رمضان في ليلة القدر المباركة، لا تدل على أنّ يوم المبعث ـ الذي نزلت
فيه بضع آيات ـ، كان ذلك في الشهر نفسه، لاَنّ الآيات المذكورة الدالّة على
1 . بحار الاَنوار:18|262؛ الكافي:1|271.2 . مجمع البيان:10|384.