5. غزوة الطائف
هذه المعركة، أن قتلوا الرجال وذرّيتهم، فلمّا بلغ ذلك النبي «صلى الله عليه وآلهوسلم» قال: «ألا لا تُقتَل الذرية». وعندما قيل له: إنّما هم أولاد مشركين. قال «صلى
الله عليه وآله وسلم» : «أو ليس خياركم أولاد المشركين؟ كلّ نسمة تولد على
الفطرة حتى يعرب عنها لسانها، وأبواها يهوّدانها أو ينصّرانها».(1)5. غزوة الطائفسكنت قبيلة ثقيف، واشتركوا مع هوازن في قتال المسلمين، وهربوا بعد
المعركة السابقة إلى الطائف متحصنين في قلاعها وحصونها، فأمر النبي «صلى الله
عليه وآله وسلم» بالاِعداد لمطاردتهم وملاحقتهم حتى ديارهم. فأرسل فريقاً
عسكرياً بقيادة أبي موسى الاَشعري لملاحقتهم في أوطاس، فأحرز انتصاراً كبيراً
على العدو. وأمّا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد توجه بجيشه إلى الطائف،
حيث هدم حصن مالك بن عوف في طريقه، وسواه بالاَرض، حتى لا يستغله
العدو فيما بعد.واشتهرت حصون الطائف وقلاعها بالمنعة وارتفاع الجدران، فتمكنوا من
ردّ المسلمين عن طريق حذفهم ورميهم، الذي أدّى إلى تراجعهم. فاقترح سلمان
الفارسي أن يرمى الحصن بالمنجنيق ـ الّذي يأخذ دور الدبابة في الحروب
الحديثة ـ فبدأوا برمي الحصون وأبراجها بالحجارة طوال عشرين يوماً، ممّا أصاب
عدداً من المسلمين في هذه الاَعمال.(2)وممّا يذكر أنّ سلمان الفارسي هو الذي صنع جهاز المنجنيق، وعلّم
المسلمين كيفية استخدامه، بينما يرى آخرون أنّ المسلمين حصلوا على هذا
1 . إمتاع الاسماع:1|409.2 . السيرة النبوية:4|126 ويرى ابن هشام أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو أوّل من
استخدم المنجنيق في الجزيرة العربية. السلاح من يهود خيبر، وأنّ سلمان ربما أدخل عليه تحسينات إضافة أنّه علم
المسلمين أسلوب استعماله.كما أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان قد حصل على بعض
الآليات الحربية من خلال ما ترك في حروبه لقبيلة دوس التي استخدمتها في
معاركها ضدّالمسلمين، فاستفاد منها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في غزو
الطائف.إلاّ أنّ نتائج تلك العمليات والآليات لم تأت بنتيجة حاسمة، فاتجه النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى جانب آخر قد يكون أكبر قوّة وأثراً من الجانب
العسكري، وهو الناحية النفسية والاقتصادية. إذ أنّ أرض الطائف كانت زراعية،
ذات نخل وأعناب، ممّا فكر به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لتهديدهم
وتخويفهم لاَنّه سيعمد إلى قطع الاَعناب وإفناء المزارع، إذ استمر المعتصمون
بالحصون في المقاومة. وعندما لم يرضخوا للتهديد، نفذ المسلمون عملياً أوامر
النبي ص بالقطع والحرق والاِتلاف، ممّا أزعج الاَهالي وطلبوا من النبي «صلى الله
عليه وآله وسلم» أن يأمر رجاله بالكف عن ذلك، فتركوا العمل بهذا التكتيك. وقام
بمحاولة أخيرة للتخلص منهم، فنادى: أي عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو
حر. فنزل عدد منهم ملتحقاً بالمسلمين، وعرف منهم الرسول «صلى الله عليه وآله
وسلم» بعض الاَخبار المرتبطة بالحصن، وأنّه لا نية لهم للاستسلام، و لديهم
الاستعداد للمقاومة حتى لو طال الحصار عاماً واحداً، فلن يقعوا في أزمة أو ضيق
بسبب طول الحصار. ولذا فإنّ الجيش الاِسلامي رأى أنّه من الاَصلح الرجوع عن
ساحة القتال، وذلك للاَسباب التالية:1.مقتل عدد من المسلمين، من قريش والاَنصار، كما أنّ شهر شوال كان قد
انتهى وبدأ شهر ذي القعدة وهو من الاَشهر الحرم، وللحفاظ على هذه السُّنّة، فقد
رأى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن ينهي الحصار في أقرب وقت.2. كما أنّ موسم الحجّ كان قد اقترب، وخاصة أنّ إدارة الموسم ومناسكه
أصبحت في يد المسلمين الآن، وليس بيد المشركين كما في السابق.ولكلّ ذلك ترك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الطائف متوجهاً إلى
الجعرانة حيث حفظت الغنائم والاَسرى، فاستقر فيها 13 يوماً وزع فيها الغنائم
بأسلوب جدير بالدراسة والتأمل: فقد أخلى سبيل بعض الاَسرى، وخطط
لاِخضاع وإسلام مالك بن عوف قائد المعارك ضدّ المسلمين، وكان من بين
المشركين مع هوازن، قبيلة بني سعد التي أرضعت إحدى نسائها ـ حليمة السعدية
ـ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكبر بينهم وعاش معهم خمس سنوات، ولذا
فإنّ جماعة مسلمة منهم قدمت إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يطلبون
سراح الاَسرى من هذه القبيلة، وذكّروه بكلّ حياته بينهم في تلك السنوات. فردّ
عليهم النبيص محسناً إليهم بأكثر ممّا قدموا، وتنازل عن نصيبه في الاَسرى،
فتبعه المهاجرون والاَنصار و الآخرون، فارجعوهم إلى ذويهم. كما أنّ النبي «صلى
الله عليه وآله وسلم» دعا أُخته شيماء وبسط لها رداءه ورحب بها، ودمعت عيناه،
وسألها عن أُمّه وأبيه من الرضاعة، فأخبرته بموتهما، فقال: إن أحببت فأقيمي عندنا
محببة مكرمة، وإن أحببت أن أُمتعك وترجعي إلى قومك فعلت. فاختارت
الرجوع إلى أهلها بعد أن أسلمت طوعاً ورغبة، ومنحها ثلاثة عبيد وجارية.(1)وقد أدّت معاملات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه، وإطلاق الاَسرى
إلى رغبة هوازن في الاِسلام، فأسلموا من قلوبهم، ففقدت الطائف آخر حليف
لها.أمّا بالنسبة لمالك بن عوف فقد رأى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
فرصة طيبة للسيطرة عليه، وهو رئيس المتمردين، فقال لوفد بني سعد: أخبروا
1 . البداية والنهاية:2|363؛ الاِمتاع:1|413.مالكاً إنّه إن أتاني مسلماً رددت عليه أهله وماله وأعطيته مائة من الاِبل. وعندما
بلغه ذلك، وعلم بقوّة الاِسلام وأخلاق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعظمته،
قرر الالتحاق بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فخرج من الطائف لاِدراك النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) في مكة أو الجعرانة، حين ردّ عليه ماله وأهله وأعطاه
الاِبل، فأسلم وحسن إسلامه، وجعله قائداً على من أسلم من قومه حارب بهم
ثقيف.وأمّا الغنائم، فقد قسمها بين المسلمين، ووزع الخمس الّذي هو حقّه
الخاص، بين أشراف قريش حديثي العهد بالاِسلام ليتألّفهم، مثل: أبي سفيان
ومعاوية ابنه، وحكيم بن حزام، والحارث بن هشام و سهيل بن عمرو، وحويطب
ابن عبد العزى، والعلاء بن جارية، وصفوان بن أمية، وغيرهم ممّن كانوا أعداءه
بالاَمس القريب، لكلّ واحد منهم مائة بعير.(1) وهذا الفريق يصطلح عليه في الفقه
الاِسلامي: الموَلّفة قلوبهم. وهم يشكّلون إحدى مصارف الزكاة بنص القرآن
الكريم.إلاّ أنّ بعضهم لم يستحسن أسلوب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في
التوزيع، ورأى أنّه لم يعدل حين وزع خمس الغنيمة على أبناء قبيلته، ومن
أشهرهم:ـ ذو الخويصرة التميمي، الذي رفض أُسلوب النبي «صلى الله عليه وآله
وسلم» ممّا دعا عمر بن الخطاب أن يستأذن النبي ص لقتله. ولكن النبي «صلى الله
عليه وآله وسلم» قال: دعه فإنّه سيكون له شيعة (أي تَبع) يتعمّقون في الدين حتى
يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية.(2) وقد أصبح فعلاًً زعيماً لفرقة الخوارج
في عهد الاِمام علي (صلى الله عليه وآله وسلم) .كما اشتكى عدد من جانب الاَنصار، حول كيفية توزيع الخمس، فخطب
1 . المحبّر: 473؛مغازي الواقدي: 3|944؛ السيرة النبوية:3|493.2 . وجاء في السيرة الحلبية أنّه أصل الخوارج.فيهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) موضحاً موقفه من هذا التوزيع في تأليف
القلوب:«أفلا ترضون يا معشر الاَنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا
برسول اللّه إلى رحالكم. والذي نفس محمّد بيده، لولا الهجرة لكنت إمرىًًَ من
الاَنصار، ولو سلك الناس شعباً وسلكت الاَنصار شعباً، لسلكت شعب الاَنصار».(1)ثمّ ترحم عليهم قائلاً: «اللّهمّ ارحم الاَنصار وأبناء الاَنصار وأبناء أبناء الاَنصار».فأثار بهذه الكلمات مشاعرهم فبكوا بشدّة وقالوا: رضينا يا رسول اللّه حظاً
وقسماً. ويكشف ذلك عن عمق حكمة النبي ص وحنكته السياسية، وأُسلوب
معالجته للمشكلات بروح الصدق واللطف.وبعد ذلك خرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) معتمراً من الجعرانة، ثمّ
انصرف راجعاً إلى المدينة فوصلها في أواخر ذي القعدة أو أوائل شهر ذي الحجّة،
مستخلفاً على مكّة: عتاب بن أسيد، الذي بلغ من العمر عشرين عاماً، و قُدّر له
راتبٌ يوميٌّ، درهم واحد، ولما احتجّ بعضهم على هذا التعيين، قال: «لا يحتج
منكم في مخالفته بصغر سنه، فليس الاَكبر هو الاَفضل، بل الاَفضل هو الاَكبر، وهو
الاَكبر في موالاتنا وموالاة أوليائنا، ومعاداة أعدائنا، فلذلك جعلناه الاَمير عليكم
والرئيس عليكم، فمن أطاعه فمرحباً به، ومن خالفه فلا يبعدُُ اللّه غيره».(2)وأكد بذلك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) معيار الاَهلية والجدارة
والكفاءة في حيازة المناصب الاجتماعية والاَُمور الاجتماعية الاَُخرى.ومن أحداث هذه السنة أيضاً:
1 . السيرة النبوية:2|498؛ مغازي الواقدي: 3|957.2 . بحار الاَنوار: 21|122؛ إمتاع الاَسماع:1|432.وفاة زينب بنت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي التي كان زوجها
ابن خالتها أبي العاص الذي بقي على شركه بعد أن آمنت هي بأبيها، ولكنّه آمن في
الفترةالاَخيرة وأعاد النبي ص إليه زوجته.كما أنّالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رزق في أواخر هذا العام ولداً سمّاه
إبراهيم من زوجته مارية القبطية، فأهدى المولدة هدية ثمينة، وعق له في اليوم
السابع وحلق شعره وتصدق بوزنه فضة في سبيل اللّه.(1)
1 . تاريخ الخميس:2|131.