مقدمة المؤلّف
1. الاَحوال في جزيرة العربلم تكن القبائل العربية الجاهلية المتناحرة، تعيش أيّة حضارة، ولم تكنتمتلك أيّة تعاليم وقوانين وأنظمة وآداب قبل مجيء الاِسلام، فقد كانت محرومةً
من جميع المقوّمات الاجتماعية التي توجب التقدّمَ والرقي، ولذا فلم يكن من
المتوقع أن تصل إلى تلك الذرى الرفيعة من المجد والعظمة، ولا أن تنتقل من
نمط الحياة القبلية الضيقة إلى عالم الاِنسانية الواسع و أُفق الحضارة الرحيب، بمثل
هذه السرعة التي وصلت إليه، والزمن القصير الذي انتقلت فيه.ويمكننا أن نقف على وصف دقيق لحالة العرب قبل الاِسلام، من خلال
مصدرين إسلاميين أساسيّين، وهما:1. القرآن الكريم، وهو خير مرآة تعكس أحوال العرب وأوضاعهم بالدقّة
والشمولية.2. ما صدر عن الاِمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة في وصف الحالة
قبل الاِسلام.فقد ورد فيهما تصريحاتٌ ونصوصٌ صريحة تكشف عمّا كان عليه العرب
في الجاهلية من سوء أحوال، وأوضاع، وأخلاق في جميع الاَبعاد والاَصعدة.
وبالرغم من أنّ العرب من ولد عدنان قد اتّصفوا بصفات حسنة، إذ كانوا يكرمون
الضيف، وقلّما يخونون الاَمانة، ويضحّون في سبيل المعتقد، ويتحلّون بالصراحة
الكاملة، إضافة إلى براعتهم في فن الشعر والخطابة، وكونهم يضربُ بهم المثل في
الشجاعة والجرأة، إلاّ أنّهم إلى جانب كلّذلك، كانوا يعانون من مفاسد أخلاقية
تطغى على ما لديهم من كمال وفضيلة.فالمجتمع العربي وخاصة منطقة الحجاز لم تقم فيها حضارة،أو أنّه لم يبق
أي أثر من هذه الحضارات فيها إلى ما قبل بزوغ الاِسلام، وقد شاعت فيه أخلاق
وعادات كان أبرزها:ـ الشرك في العبادة، حيث عبدوا الاَصنام والاَوثان والنجوم.ـ إنكار المعاد، أي عودة الاِنسان إلى الحياة في العالم الآخر.ـ هيمنة الخرافات، التي كانت تكبّل عقول الناس في المجتمع، حيث
تركزت فيها، فكانت سبباً قوياً في تخلّفهم، وسداً منيعاً في طريق تقدّم الدعوة
الاِسلامية، فيما بعد، ممّا جعل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يعمل بكلّ طاقاته
وجهده في محو وإزالة تلك الآثار الجاهلية، والاَفكار والمعتقدات الخرافية.ـ الفساد الاَخلاقي، مثل انتشار القمار ـ الميسر ـ والخمر و الزنا واللواط
والبغاء.ـ وأد البنات، وهي العادة القبيحة التي اعتبرها القرآن الكريم جريمة نكراء
لا تمر في الآخرة بدون حساب شديد.ولذا فإنّ المرأة كانت محرومة من جميع الحقوق الاجتماعية حتى حقّ
الاِرث، كما عدّها المثقفون من الحيوانات تباع وتشترى، وجزء من أثاث البيت.
وكان الرجل يتزوج بزوجة أبيه متى طلقها أو بعد وفاته، و ربما تناوب الاَبناء على
امرأة أبيهم واحد بعد واحد، كما كان الرجل يرث امرأة من قرابته إذا مات عنها،
مثلما يرث أمتعة المنزل، إضافة إلى أنّهم كانوا يورثون البنين دون البنات.ـ تناول الدم والميتة والخنزير، وأكل الحيوانات التي يقتلونها بقسوة.ـ النسيء، وهو تأخير الاَشهر الحرم، كان يقوم به سدنة الكعبة أو روَساء
العرب، عندما كانوا يقررون استمرار الحرب و الغارات في الاَشهر الحُرم.ـ الربا، الذي شكّل العمود الفقرى في اقتصادهم.ـ النهب والسلب، فقد كان انتهاب ما في أيدي الناس، والاِغارة والقتال، من
العادات المستحكمة عندهم، حتى إنّ بعض حروبهم كانت تمتدّ إلى مائة سنة أو
أكثر، حيث كانت الاَجيال تتوارث تلك الحروب، وقد بلغ ولعهم بالقتال وسفك
الدماء أن جعلوها من مفاخر الرجال.ـ أمّا عن الجانب العلمي والثقافي، فإنّ أهل الحجاز وُصِفوا بالاَُمّيين، فلم
يتجاوز عددُ الّذين عرفوا القراءة والكتابة في قريش ما قبل الاِسلام عن(17)
شخصاً في مكة ، و (11) نفراً في المدينة المنورة.ومن ذلك يمكن القول أنّ تاريخ العرب قبل الاِسلام وبعده،تاريخان على
طرَفي نقيض: الاَوّل جاهلي ووثني وإجراميّ، والثاني تاريخ علم ووحدانية
وإنسانية وإيمان.ومن التخلّف والانحطاط في الاَوّل، يمكن معرفة مدى تأثير الاِسلام
وعظمة التعاليم الاِسلامية في جميع المجالات والحقول المعيشية. فكيف تحقق
ذلك التطور العظيم لهوَلاء العرب الجاهليّين في الجزيرة العربية، في حين لم
يستطع عربُ اليمن الذين امتلكوا الشيء الكثير من الثقافة والحضارة، وعاشوا
حياة حضارية متطورة، أن يصلوا إلى هذه النهضة الشاملة، أو تقيم مثل هذه
الحضارة العريضة، أو عرب الغساسنة الذين جاوروا بلاد الشام المتحضّرة،
والذين عاشوا تحت ظلّ حضارة الروم، أن يصلوا إلى تلك الدرجة من الثقافة، أو
عرب الحيرة الذين عاشوا تحت ظل إمبراطورية الفرس أن ينالوا مثل ذلك الرقيّ
والتقدّم، في الوقت الذي تمكّن فيه عرب الحجاز من تحقيق تلك النهضة
الجبارة، وورثوا الحضارة الاِسلامية العظمى، في حين لم يكن لهم عهدٌ بأيّ تاريخ
حضاريّ مشرق، بل كانوا يرزحون تحت أغلال الاَوهام والخرافات والاَساطير
والعادات السيّئة.وخيرُمن يوضّح تلك الاَوضاع والاَحوال، هو الاِمام علي (عليه السلام) في
الخطبة الثانية من «نهج البلاغة»:« والناسُ في فِتَن انجذم(1)فيها حبلُ الدين، وتزعزعت سواري(2)اليقين،
واختلف النجرُ (3) و تشتُّت الاَمرُ، وضاق المخرجُ،وعمي المصدرُ، فالهدى خامل،
والعمى شامل، عصي الرحمن ونُصر الشيطان، وخُذِلَ الاِيمانُ فانهارت دعائمهُ،
وتنكّرت معالمُه،ودرست (4)سبلُه،وعفت شركه(5) ... فهم فيها تائهون حائرون
جاهلون مفتونون في خير دارٍ وشرِّ جيرانٍ، نومُهم سُهود، وكُحلهم دموع، بأرض
عالمها مُلجَم وجاهلها مُكرَم».
1 . إنقطع.2 . الدعائم. 3 . الاَصل.4 . ِنطمست. 5 . الطرق.وفي الخطبة 26 قال (عليه السلام) :«إنّاللّه بعث محمّداً(صلى الله عليه وآله وسلم) نذيراً للعالمين وأميناً على
التنزيل، وأنتم معشر العرب على شرّ دين وفي شرّ دار منيخون(1) بين حجارة
خُشن(2)هث، وحيّات صُمّّ(3) تشربون الكَدر، وتأكلون الجشِب(4) وتسفكون دماءكم،
وتقطعون أرحامكم، الاَصنام فيكم منصوبةٌ، والآثام بكم معصوبة (5).و قال (عليه السلام) في الخطبة 95: «بعثه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، والناس ضُلاّل في حيرة، وحاطبون في
فتنةٍ،قد استهوتهم الاَهواءُ،واستزلّتهم الكبرياءُ، واستخفّتهم(6)الجاهلية الجهلاءُ،
حَيارى في زلزالٍ من الاَمر، وبلاءٍ من الجَهل، فبالَغَ (صلى الله عليه وآله وسلم) في
النصيحة، ومضى على الطريقة، ودعا إلى الحكمة والموعظة الحَسَنة».وأيضاً في الخطبة151: قال (عليه السلام) :«أضاءت به (صلى الله عليه وآله وسلم) البلاد بعد الضلالة المظلمة،
والجهالة الغالبة، والجفوة الجافية، والناس يستحلون الحريمَ،ويستذلون الحكيمَ،
يحيون على فترة(7) ويموتون على كفرة».وقد أكد تلك الاَحوال والحياة، أيضاً، جعفرُبن أبي طالب، عندما خطب أمام
1 . مقيمون 2 . جمع خشناء من الخشونة.3 . التي لا تسمع لعدم إنزجارها بالاَصوات.4 . لطعام الغليظ.5 . مشدودة6 . طيّشتهم. 7 . على خلوّ من الشرائع.النجاشي في الحبشة، يشرح أحوال المسلمين والمشركين، فقال:«أيّها الملك، كُنّا قوماً أهل جاهلية نعبدُ الاَصنام، ونأكلُ الميتة،ونأتي
الفواحش،ونقطعُ الاَرحام،ونسيء الجوار، ويأكلُ القويُّمنّا الضعيف، فكنّا على
ذلك، حتّى بعث اللّه إلينا رسولاً منّا نعرف نَسَبَه وصدقَه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى
اللّه لنوحّده ونعبده،ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباوَنا من دونه من الحجارة
والاَوثان،وأمرَنا بصدق الحديث،وأداء الاَمانة، وصلة الرحم، وحسن
الجوار،والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكلِ مال
اليتيم، وقذف المحصَنات. وأمرنا أن نعبد اللّه وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا
بالصلاة والزكاة والصيام».(1)
2. الاَحوال السياسية في المنطقةلقد جاروت البيئة الّتي ظهر فيها الاِسلام أعظم امبراطوريتين في ذلك
الوقت هما: إمبراطوريةالروم والفرس، وهذا ممّا يجعلنا ندرس أحوالهما لنقف
على قيمة الحضارة التي قدّمها الاِسلام.فامبراطورية الروم تميّزت الاَحوال فيها بالحروب الداخلية والخارجية،
وخاصّة في صراعها مع دولة فارس، كما كان للمنازعات الطائفية والمذهبية
نصيبها في توسيع رقعة الاختلاف فيها، كالحرب بين المسيحيين والوثنيين، حينما
مارس رجال الكنيسة أشدّ أنواع الضغط والاضطهاد بحقّ الآخرين، الاَمر الذي
ساعد على إيجاد أقلية ناقمة، كما ساعد على ظهور حالة مهدت لتقبّل الشعب
الروماني للدعوة الاِسلامية فيما بعد. هذا مضافاً إلى أنّ اختلاف رجال الدين فيما
1 . السيرة النبوية 1| 335 والحديث عن أُمّسلمة.