فكرة الخلاص فى التراث الاسلامى
عاشت البشرية دائما فكرة (المخلّص) الذي يأتي على جناح الصبح، فيحقق آمالها و أحلامها، و ينتشلها من بين أنواء الشقاء الى شاطئ اخضر مشرق تطلع عليه شمس السعادة و الطمأنينة و الرخاء.و لقد عبّرت الانسانية عن هذا الحلم الموعود و الأمل المنشود في تراثها و نتاجها الأدبي و الثقافي، بل و زخرت به اساطيرها القديمة.و الواقع أن المتتبع لفكرة الخلاص و المخلّص في التراث الانساني سيجدلها جذورا ضاربة في التاريخ حتى عند الشعوب و الأمم الوثنية، مما بوسعه اضاءة هذا البعد المهم في العقل البشري وا لحضارة الانسانية.و لأنّ آداب الشعوب تعبّر عن آمالها و تطلعاتها فقد تفتق الكثير من النتاج الأدبي عن هذا الحلم العظيم الذي كان و ما زال يراود البشرية و تعلق عليه آمالها في المستقبل المضيء الزاهر.فقبل الميلاد، حاول الفيلسوف اليوناني المعروف افلاطون (427ـ347 ق.م) أن يرسم ملامح هذا الحلم الوردي في مؤلفه الشهير (الجمهورية).و بعد الميلاد، تحدث الطبيب و المنجم الفرنسي اليهودي نوستراداموس صراحة في مؤلفه البارز (المئويات) عن (المخلص) الذي أفاد منه الغرب كثيرا في صراعاته السياسية و العسكرية، و مع أن (نوستراداموس هذا، 1503- 1566) كان يهوديا، إلا أنه وظف التراث الاسلامي جنبا إلى جنب التراث اليهودي في التعبير عن هذا الحلم الذهبي في مستقبل البشرية.بل إن الكاتب و المسرحي الفرنسي (صمويل بيكيت) عبّر في مسرحيته المعروفة (في انتظار غودو) عن هذا الأهل المنتظر الذي يعول عليه الانسان في خلاصه من البؤس و الشقاء و الصراع و الوصول به إلى فجر الأمل الساطع.و إذا كان هذا هو شأنَ الأدب و التراث غير الاسلامي ـ هو ما لم نذكر سوى نتف منه ـ فان حظ الأدب الاسلامي لو فير في هذا المضمار ـ و لاسيما ما استفاد منه من التراث ـ ابتداءًا من (المدينة الفاضلة) ـ التي يمكن أن تعدّ اثرا أدبيا ـ إلى ما أُبدع حول ( المهدي المنتظر) من قصص و روايات و اشعار من اليسير العودة إليها في مظانّها الكثيرة.المخلّص فى الكتب المقدسة
و امّا التاريخ العقائدي للبشرية، فقد حفل بالكثير حول فكرة (المخلّص) منذ الرحلة الأولى لجبرائيل عليه السلام بين السماء و الأرض قائما بمهمة الوحي.و قد تكفلت الكتب السماوية ـ حتى ما طاله التحريف منها ـ ببيان هذا الأمر. و الناظر في (الكتاب المقدس) بعهديه القديم و الجديد، أي (التوراة، و الانجيل) وكذلك في (الأوستا)، و على رأس الجميع (القرآن الكريم) الذي لا ياتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، سيقف على الكثير من الكلمات، و الفقرات، و الجمل، و الآيات، التي تحلق بالانسان من أرض الحاضر المظلم بالجور و الظلم إلى آفاق المستقبل المنير بمشعل القسط و العدل. و لأن موضوعنا يحمل عنوان (المخلّص في سفر إشَعْيَاء) فسوف نُقصر البحث على هذا الجانب في (التوراة) التي تحمل نصوصها الكثير بهذا الصدد، و لاسيما في قسميها (الأنبياء و الكتب) أو (نبيئيم ـ و ـ كتوبيم) و بالأحدى (نقـ.ـيئيم ـ و ـ كتوقـ.ـيم) الذين يعبران عن نبوءات و رؤى و يمثلان الشطر الأكبر من (العهد القديم). و أبرز ما في هذين القسمين من التوراة (سفر إشَعْياء) الذي يبدو مكرّسا في مجمله لرسم مشاهد المستقبل انطلاقا من مظاهر الماضي و الحاضر التي خيبت آمال الانسان.خصوصيات سفر إشَعياء
يتكون (سفر إشَعْياء) ـ و الذي ينطقه البعض (اشعيا) ـ من (ستة و ستين إصحاحا) و يتوسط سفري (نشيد الأنشاد) و (إرميا). و قد وُظفت نصوصه باجمعها لتبيان (رؤيا) رآها (إشعياء بن آموص) الذي يُقدّر بأنه عاش في القرن الثامن قبل الميلاد، و يُعرف بأنه احد كبار أنبياء مملكة إسرائيل الأربعة، و له نشاط جهادي ملموس، و يقال بانه مات شهيدا، و قد تنبأ في رؤياه عن ميلاد السيد المسيح (عليه السلام) من السيدة العذراء.و يتميز هذا السفر بمميزات كثيرة تهم الباحث الاسلامي، و لا سيما فيما يتعلق بفكرة الظهور و الخلاص، فضلا عن أنه كان مثار جدل كبير بين محللي و مفسري التوراة.سفر إشعياء و النصوص الاسلامية
و لعل أبرز ما في نصوص سفر (إشعياء) أنه يصور مشاهد الخلاص بنفس الألفاظ و التعبيرات و المضامين التي يستخدمها التراث الاسلامي و لا سيما على نطاق الرواية و الحديث. فهو يتحدث عن مقدمات الظهور، و علامات الظهور، و عن حياة العالم فيما بعد الظهور و يوم الخلاص. و كل ذلك بما لا يكاد يخرج عن سياق السنة النبوية الشريفة و التراث الاسلامي فى مجمل الاتجاه العام حول فكرة «الخلاص». و كدليل على هذا الادعاء، فلا مناص من الاتيان ببعض الأمثلة حتى تتضح الفكرة.نماذج و أدلة
تقول التوراة: «فيقضي بين الأمم، و يُنصف لشعوب كثيرين» إشعياء 2/4 و يقول الرسول (صلى الله عليه وآله): «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد، لطول الله ذلك اليوم، و بعث رجلا من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي، يملأ الأرض قسطا و عدلا كما مُلئت ظلما و جورا» (1) فالقاسم المشترك في هذين النصين هو أن «المخلّص» سيحقق الانصاف و العدالة للبشرية.و تقول التوراة: «يقضي بالعدل للمساكين، و يحكم بالانصاف لبائسي الأرض» إشعياء 11/4 و يقول الرسول (صلى الله عليه وآله): «يملأها عدلا، كما مُلئت ظلما و جورا» (2) فمهمة «المخلّص» هي إحقاق الحقوق و الحكم بالعدل و الإنصاف.و تقول التوراة: «فاذا هم بالعجلة يأتون سريعا» إشعياء 5/26 و يقول الرسول (صلى الله عليه وآله): «فأتوه و لو حبواً على الثلج» (3) فيه إشارة واضحة و دعوة صريحة إلى الاسراع في مناصرة «المخلّص».و تقول التوراة: «في ذلك اليوم، يكون غصن الرب بهاءً و مجداً، و ثمر الأرض فخراً و زينةً» إشعياء 4/21- بشارة الإسلام، ص 59 و سواها، إلزام الناصب، ص 251- 252; ينابيع المودة، ج 3، ص 166، 109 و مصادر أخرى .2- الاختصاص، ص 208 ; البحا ر، ج 51 ، ص 91 و ينابيع المودة، ج 3، ص 93 .3- عيون أخبار الرضا، ج2 ، ص 60 و منتخب الأثر، ص 143.