و قد انكشف لك من هذا أن التوكل ليسانقطاعا عن الأسباب، بل الاعتماد علىالصبر على الجوع مدة، و الرضا بالموت إنتأخر الرزق نادرا، و ملازمة البلاد والأمصار، أو ملازمة البوادي التي لا تحلوعن حشيش و ما يجرى مجراه، فهذه كلها أسبابالبقاء، و لكن مع نوع من الأذى، إذ لا يمكنالاستمرار عليه إلا بالصبر. و التوكل فيالأمصار أقرب إلى الأسباب من التوكل فيالبوادي و كل ذلك من الأسباب، إلا أن الناسعدلوا إلى أسباب أظهر منها، فلم يعدّواتلك أسبابا، و ذلك لضعف إيمانهم، و شدةحرصهم، و قلة صبرهم على الأذى في الدنيالأجل الآخرة، و استيلاء الجبن على قلوبهمبإساءة الظن و طول الأمل و من نظر في ملكوتالسموات و الأرض انكشف له تحقيقا أن اللهتعالى دبر الملك و الملكوت تدبيرا لايجاوز العبد رزقه و إن ترك الاضطراب، فإنالعاجز عن الاضطراب لم يجاوزه رزقه. أماترى الجنين في بطن أمه لما أن كان عاجزا عنالاضطراب كيف وصل سرته بالأم حتى تنتهيإليه فضلات غذاء الأم بواسطة السرّة، و لميكن ذلك بحيلة الجنين. ثم لما انفصل سلط الحب و الشفقة على الأملتتكفل به شاءت أم أبت، اضطرارا من اللهتعالى إليه بما أشعل في قلبها من نار الحب.ثم لما لم يكن له سن يمضغ به الطعام جعلرزقه من اللبن الذي لا يحتاج إلى المضغ. ولأنه لرخارة مزاجه كان لا يحتمل الغداءالكثيف فأدرّ له اللبن اللطيف في ثدي الأمعند انفصاله على حسب حاجته، أ فكان هذابحيلة الطفل أو بحيلة الأم فإذا صار بحيثيوافقه الغذاء الكثيف أنبت له أسناناقواطع و طواحين لأجل المضغ. فإذا كبر واستقل يسر له أسباب التعلم و سلوك سبيلالآخرة. فجنبه بعد البلوغ جهل محض، لأنه مانقصت أسباب معيشته ببلوغه بل زادت، فإنهإن لم يكن قادرا على الاكتساب فالآن قد قدرفزادت قدرته. نعم كان المشفق عليه شخصاواحدا و هي الأم أو الأب، و كانت شفقتهمفرطة جدا، فكان يطعمه و بسقيه في اليوممرة أو مرتين، و كان إطعامه بتسليط اللهتعالى الحب و الشفقة على قلبه، فكذلك قدسلط الله الشفقة، و المودة و الرقة، والرحمة على قلوب المسلمين، بل أهل البلدكافة، حتى أن كل واحد منهم إذا أحس بمحتاجتألم قلبه و رقّ عليه، و انبعث له داعيةإلى إزالة حاجته. فقد كان المشفق عليهواحدا و الآن المشفق عليه ألف و زيادة، وقد كانوا لا يشفقون عليه لأنهم رأوه فيكفارة الأم و الأب