أوضح من الإبصار بالعين. و سبيل قلع حبالدنيا من القلب سلوك طريق الزهد، وملازمة الصبر، و الانقياد إليهما بزمامالخوف و الرجاء، فما ذكرناه من المقاماتكالتوبة و الصبر، و الزهد، و الخوف، وارجاء، هي مقدمات ليكتسب بها أحد ركنيالمحبة، و هو تخلية القلب عن غير الله، وأوله الإيمان باللّه و اليوم الآخر، والجنة، و النار، ثم يتشعب منه الخوف والرجاء، و يتشعب منهما التوبة و الصبرعليهما، ثم ينجر ذلك إلى الزهد في الدنيا،و في المال و الجاه، و كل حظوظ الدنيا، حتىيحصل من جميعه طهارة القلب عن غير اللهفقط، حتى يتسع بعده لنزول معرفة الله و حبهفيه فكل ذلك مقدمات تطهير القلب، و هو أحدركنى المحبة، و إليه الإشارة بقوله عليهالسلام:[1] «الطّهور شطر الإيمان» كماذكرناه في أول كتاب الطهارة
السبب الثاني: لقوّة المحبة قوّة معرفةالله تعالى و اتساعها
و استيلاؤها على القلب، و ذلك بعد تطهيرالقلب من جميع شواغل الدنيا و علائقهايجرى مجرى وضع البذر في الأرض بعد تنقيتهامن الحشيش، و هو الشرط الثاني. ثم يتولد منهذا البذر شجرة المحبة و المعرفة و هيالكلمة الطيبة التي ضرب الله بها مثلا حيثقال (ضَرَبَ الله مَثَلًا كَلِمَةًطَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍأَصْلُها ثابِتٌ وَ فَرْعُها فيالسَّماءِ) و إليها الإشارة بقوله تعالى(إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُالطَّيِّبُ) أي المعرفة (وَ الْعَمَلُالصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) فالعمل الصالحكالجمال لهذه المعرفة و كالخادم، و إنماالعمل الصالح كله في تطهير القلب أولا منالدنيا، ثم إدامة طهارته فلا يراد العملإلا لهذه المعرفة. و أما العلم بكيفيةالعمل فيراد للعمل. فالعلم هو الأول و هوالآخر، و إنما الأول علم المعاملة، و غرضهالعمل، و غرض المعاملة صفاء القلب وطهارته ليتضح فيه حلية الحق، و يتزين بعلمالمعرفة، و هو علم المكاشفة. و مهما حصلتهذه المعرفة تبعتها المحبة بالضرورة، كماأن من كان معتدل المزاج إذا أبصر الجميل وأدركه بالعين الظاهرة أحبه و مال إليه، ومهما أحبه حصلت اللذة، فاللذة تبع المحبةبالضرورة، و المحبة تبع المعرفةبالضرورة، و لا يوصل إلى هذه المعرفة بعدانقطاع شواغل الدنيا من القلب إلا بالفكرالصافي و الذكر الدائم، و الجد البالغ فيالطلب، و النظر المستمر في الله تعالى
[1] حديث الطهور شطر الايمان: مسلم من حديثأبي مالك الأشعري و قد تقدم